شرفة تطلّ على الغياب

  • أمس, 23:23
  • قصة قصيرة
  • 7 مشاهدة

شرفة تطلّ على الغياب 


في الطابق الرابع من بناية قديمة بحيّ لا يشتهر إلا بصمته، كان يسكن “مأمون”، الرجل الستيني الذي لم يعد ينتظر شيئًا من الحياة سوى مرورها بلطف. كان يعيش وحده، بعد أن ودّعته زوجته إلى المقبرة منذ عشر سنوات، ورحل ابنه الوحيد إلى بلاد بعيدة لا تصل إليها الرسائل ولا الحنين.

كل صباح، كان مأمون يفتح شرفته، يجلس على كرسيه الخشبي المتآكل، يضع راديو صغيرًا بجانبه، ويشرب قهوته دون سكّر. لم يكن يقرأ الجريدة، ولا يشارك في أحاديث الجيران، بل كان يراقب شجرة السرو المقابلة، ويحدثها بعينيه كما لو كانت تحفظ له أسرارًا.

في أحد الأيام، ظهرت فتاة صغيرة أمام البناية، كانت في العاشرة من عمرها، تُدعى “لين”، تجلس على الرصيف وتكتب في دفتر زهري. رآها مأمون، ولم يعلّق. لكنها جاءت في اليوم التالي، ثم الذي يليه، تجلس في نفس المكان، تكتب وتبتسم دون سبب.

بعد أسبوع، ناداها مأمون بصوته الأجشّ:

– ما الذي تكتبينه كل يوم؟

رفعت رأسها وقالت ببراءة:

– أكتب رسائل لأبي، لكنه لا يقرأ.


توقّف قلب مأمون لحظة. سألها بصوتٍ مرتجف:

– وأين أبوكِ؟

– رحل في البحر… قالوا لن يعود، لكنني أكتب له لعلّ البحر يحنّ يومًا.


منذ ذلك اليوم، أصبح مأمون يرافقها في الكتابة. جلسا معًا أمام الشجرة، يكتب لها رسائل إلى أبيها، ويكتب لنفسه رسائل إلى زوجته. كانت الطفلة تكتب بالوردي، وهو يكتب بالأسود، وتبتسم حين يناديها “صغيرتي”، فيبتسم معها بعد طول غياب.

مرت شهور، ومأمون يكتشف أن لين ليست ابنة أحد الجيران، بل جاءت لتقيم مع خالتها بعد أن غرق والدها في محاولة للوصول إلى بلدٍ جديد. ومع الوقت، أصبحت الزيارات يوميّة، والرسائل أكثر دفئًا، والغياب أقلّ ألمًا.

وفي مساء خريفي، أُغلقَت الشرفة على غير العادة. لم يظهر مأمون، ولم تُفتح النافذة. انتظرته لين يومًا، ثم يومين، ثم أسبوعًا. في اليوم الثامن، وجدت ظرفًا صغيرًا تحت وسادة كرسيّه، كُتب عليه: “إلى من أعادت لقلبي معنى الرسائل”.

فتحت الظرف، فوجدت داخله ورقة واحدة، كُتب فيها بخطٍ مرتعش:

“لين،

أعدتِ لي الحياة وأنا أُوشك على وداعها. علّمتِني أن الغياب لا يُواجه بالصمت بل بالكلمات. شرفتي كانت تطلّ على الغياب، حتى جلستِ على الرصيف.

سامحيني إن لم أعد، لكنّي تركت لكِ كل رسائلي، وكل قلبي.

وداعًا، يا بنت الضوء.

— مأمون.”

بكت لين كثيرًا، ثم مسحت دموعها، وجلست مكانه، على الكرسيّ الخشبيّ، بجوار الراديو الصغير، وبدأت تكتب… هذه المرّة، كانت رسالتها تبدأ بـ:

“إلى أبي، وإلى صديقي مأمون…”



بشار البندر