الدراسات الثقافيّة وجدل التأسيس المستقبليّ

  • أمس, 14:28
  • مجلات الاتحاد
  • 9 مشاهدة

الدراسات الثقافيّة وجدل التأسيس المستقبليّ

(الانفتاح، التجدّد، الديمومة)

د. سمير الخليل

 

على الرغم من أن النقد الثقافيّ هو زبدة مخاض الدراسات الثقافيّة، لأنها مرجعيّته التاريخيّة والثقافيّة والفكريّة، وقد ردم فجوات كثيرة فيها أدناها أنّه اتّسع في تنوّع الخطابات وفي تحليلها إذ لم يقف عند الخطابات اللغويّة فقط بل تعدّاها إلى مجمل الخطابات لغويّة كانت أم بصريّة بل حتّى ما تحت لغويّة، وتعامل مع نسق مضمر عميق ربّما في نسخته العربيّة فقط، غير أن الدراسات الثقافيّة لم تقف مكتوفة الأيدي فلم تبق مقيّدة بالحداثة فقط إنّما تجاوزتها إلى ما بعد الحداثة التي أسمّيها (ما بعد النقد الثقافيّ) وصارت تقاربه في إجراءاته الما بعديّة إذ التفتت لكلّ الظواهر الثقافيّة بلا قيد أو شرط وصارت تحلّلها وترصدها حتّى وصلنا إلى مرحلة جديدة تتماهى فيها الدراسات الثقافيّة مع النقد الثقافيّ وصار توصيف (الناقد الثقافيّ) ليس محصورًا بالنقد الثقافيّ، إنّما لكلّ من يشتغل في الدراسات الثقافيّة لأنهما صارا وجهين لورقة واحدة مادّتهما الأساس هي (الثقافة) لاسيّما بعد أن طوّرت الدراسات الثقافيّة نفسها وانفتحت على كلّ الخطابات بتجدّد واضح وديمومة لافتة. 

الثقافة إذن هي كلّ ما يشمل المعرفة والمعتقدات والأفكار والقيم والأخلاقيّات والأعراف والعادات والتقاليد والفولكلور والفنون... الخ، وصارت الدراسات الثقافيّة مجالاً رحبًا لدراسة الموضوعات الثقافيّة الساخنة والمثيرة، فالثقافة هي كلّ شيء، والدراسات الثقافيّة (ما بعد النقد الثقافيّ) صارت تدرس كلّ شيء حتّى بدأت بعض الأصوات تسمّيها منهجًا لأنّها مختلفة في تعاملها مع المجالات التقليديّة، وصارت ترى نفسها مثل النقد الثقافيّ ملتزمة بإعادة هيكلة البناء الاجتماعيّ، وذلك لأنها تستهدف كلّ هيمنة وفي كلّ مكان ومن ثمّ رصد تلك الهيمنة ثقافيّة كانت أم سياسيّة أم فكريّة والمساهمة في تفكيكها وتغييرها، وصار لكلّ مجتمع دراساته الثقافيّة الخاصّة، إذ ليس من الضروريّ أن تكون نسخة من الدراسات الثقافيّة الغربيّة في مجتمعاتهم مع أنها نشأت فيها، إذ تميّزت الدراسات الثقافيّة ما بعد النقد الثقافيّ أو ما بعد الحداثيّة بالتغييرات المتواصلة حتّى وصل بها الأمر إلى فكّ ارتباطها بالماركسيّة مع أنها في نشأتها كانت ماركسيّة، فقد حدث تطوّر واضح للدراسات الثقافيّة من خلال تبّني رؤية أخرى للماركسيّة، فالدراسات الثقافيّة تتعامل مع الواقع بكلّ اتّجاهاته ومهيمناته من أجل تغييره أو كما يقول (ستيوارت هول) إعادة تمفصله، عبر نظرة أخرى لكلّ أنواع الخطابات التي هي مجموعة من الأفكار المنتجة ثقافيًّا واجتماعيًّا وتحمل شفرات ثقافيّة ودالات وتمثّلات تشي بعلاقة السلطة مع المجتمع. 

تمثّل الدراسات الثقافيّة حقلاً استراتيجيًّا ومعرفيًّا يقوم بالتصدّي للبنى والأنساق الثقافيّة وتفكيكها وتحليل الخطاب المؤسّساتيّ والسلطويّ وتقويض منطلقاته وتمثّلاته، وبما يؤدّي إلى صيرورة معرفيّة، ووعي متعالٍ وكشف يعتمد إنتاج الدلالات والاستخلاصات والاستشرافات وتحليل الخطاب من منظور ثقافيّ عابر لمركزيّة النصّ والنسقيّة الداخليّة والانفتاح على فهم أكثر شموليّة وقدرة على التقاط القيم والأفكار والمفاهيم والدلالات. 

وتزداد أهميّة الدراسات الثقافيّة لكونها تتصدّى وتشتبك مع كلّ ما هو (ثقافيّ) ولعلّ هذه الرؤية أو الاشتغال الشموليّ يجعلها تمتلك خصوصيّة الانفتاح على كلّ أنواع الخطاب وتمثّلاته وأنساقه، ولم تعد مقتصرة على المجال الأدبيّ المحض أو الخطاب اللغويّ بل امتدّت اشتغالاتها وتأثيرها، واستشرافاتها على كلّ حقول الإبداع المستحدثة، واتّسعت ميادين اشتغالها إذ أصبح من البداهة أن تدرس النصوص والخطابات على وفق منظور ورؤى مختلفة لا تقتصر على الخطابات اللغويّة والجماليّة بل امتدّت إلى حقول الصورة وسيميائيّة الفنون الجديدة السمعيّة والبصريّة والتشكيليّة، بل كلّ وسائل الاتّصال الجماهيريّة، والثقافة الشعبيّة، وتحليل الخطاب الميديالوجي القائم على ثقافة الصورة، وذلك ما لم تألفه فيما سبق، فضلاً عن كونها أساسًا تقوم على التصدّي للظواهر والممارسات والتمظهرات لاسيّما ما يتّصل بعلاقتها بالسلطة والنسق المؤسّساتي، وأدّى ذلك إلى انفتاح معرفيّ لاستخلاص الرؤى والدلالات، وفهم الفعل الثقافيّ بجميع أبعاده وصوره وتمثّلاته، بغية تكوين رؤية شموليّة وتحليليّة لتشكيلات الواقع وفهم أبعاده السياسيّة والسيوسيولوجيّة والسايكولوجيّة والقيميّة من أجل خلق بنية اجتماعيّة جديدة. 

إنَّ البعد التعدّدي والانفتاح على المجالات والحقول والمرجعيّات المؤسّسة للخطاب أو التمثّلات ذات الجذر الثقافيّ جعل منها وسيلة تتسّم بالديمومة والانفتاح والقدرة على التجدّد وتكوين المنظور الثقافيّ الذي يكشف عن جدل الأنساق والتوجّهات، والكشف عن دلالات وقصديّات الخطاب الجماليّ وحيله وتحليل محمولاته الثقافيّة الفكريّة، وبما يجعلها تقدّم رؤية استشراف تضاهي النقد الثقافيّ حيث تتكامل عناصرها على وفق اشتغال عابر لمفهوم النصّ إلى الخطاب والنسق الداخليّ والجماليّات باتّجاه الانفتاح على الفضاء الثقافيّ والمعرفيّ والدلاليّ، والقدرة على الكشف والاستخلاص واستشراف القيم الثقافيّة والجذب الثقافيّ وتحديد اتّجاهاتها وقصديّتها. 

ارتبط تاريخ الدراسات الثقافيّة وموجّهات التأسيس الأوّل بكسر التمركز النصّي تحديدًا، باتّجاه موضوعيّة (اركيولوجيّة) الخطاب للكشف عن منطلقاته السياقيّة، والتصدّي لمفهوم الخطاب وتجاوز الاشتغال النسقيّ الذي يمثّل انغلاقًا واشتغالاً غائيًّا، عانت منه التوّجهات النسقيّة الراديكاليّة، ويبدو ظاهرًا أن استراتيجيّات وتوجّهات الدراسات الثقافيّة أعادت التوازن، وقوّمت النظرة الموضوعيّة في تحليل الخطاب ثقافيًّا، فالدراسات الثقافيّة وهذه إحدى مآثرها وقوّة تمركزها أنّها تنظر إلى الخطاب بوصفه المساحة التي تكشف عن مختلف الأنظمة الثقافيّة وإسقاطاتها وإحالاتها، وبذلك يُعدّ الخطاب أو النسق الجماليّ لها وسيلة وأداة، ومادّة أوليّة يمكن التعالق معه لاستكشاف أنماط وتوّجهات معيّنة، وكسر الجمود أو التمركز حول النصّ سابقًا، أتاح للدراسات الثقافيّة أن تتسّم بالأفق المتجاوز، وكسر النسقيّة بها، والخروج إلى مساحة أكثر عمقًا ودلالة وصولاً إلى استكشاف الأنظمة الثقافيّة المتحكّمة والمهيمنة في الخطاب في مختلف حقول المعرفة والفكر والأيديولوجيّة، مع أن التداخل بين الدراسات الثقافيّة والنقد الثقافيّ قد أسهم في سدّ الكثير من الفراغ الثقافيّ، وتفعيل مساحات وزوايا نسقيّة وظواهر ثقافيّة جديدة، واستكشاف أنظمة دلالات نسقيّة في الكشف عن أنساق القبح والمضمر الثقافيّ، والتناقض بين ظاهر الخطاب وبنيته العميقة أو الغاطس الثقافيّ منه، لكنّ هذه التوّجهات انطلقت أساسًا من فلسفة ومنهج الدراسات الثقافيّة بوصفها الأفق الأوسع والمرجعيّة الأساسيّة لتفكيك وتحليل هذا النوع من الاشتباك الثقافيّ وتمثّلاته، فالنقد الثقافيّ على وفق هذا المعنى هو جزء من النظرة الكلّية التي تمثلّها وتعمل عليها الدراسات الثقافيّة من خلال حبل السرّة المرجعيّة مّما جعلها أكثر حركيّة وانفتاحًا وتمثّلاً لهذه المنطلقات والتأسيسات في الكشف والدلالة وتحقيق رؤية استخلاصيّة للأنظمة الثقافيّة وخصائصها ودلالاتها، ما أصبحت عليه الدراسات الثقافيّة وتعالقها مع توجّهات الحداثة وما بعد الحداثة التي أسميتها (ما بعد النقد الثقافيّ) والتصدّي للاتجاهات المعرفيّة والثقافيّة والإنسانيّة مثل النسويّة، والجنوسة، ودراسة أنساق المهمّش، والهامش والمركز وفكر ما بعد الكولنياليّة، والنقد النسويّ، ونقد التمركز المؤسّساتيّ وانفتح خطاب الدراسات الثقافيّة على حقول الأنثربولوجيا وعلم الاجتماع والتحليل النفسيّ والماركسيّة في نسختها الجديدة، والنظريّات الأدبيّة والفكريّة والفلسفيّة والتصدّي لمظاهر وتجلّيات الفعل الثقافيّ من خلال الأنظمة والإحالات والمفاهيم وليس التمركز حول التصدّي الجماليّ المحض الذي يؤدّي إلى ماهويّة نصيّة غير قادرة على الاستشراف والتمثّل والكشف والتحليل والقدرة على تكوين الرؤية والإحالة والإسقاط، وهذا لا يعني أنها ابتلعت النقد الثقافيّ الذي بقيت له مساراته وتحليلاته وتجلّياته الخاصّة لكنّ الدراسات الثقافيّة جدّدت نفسها وأدامت وجودها، وعلى وفق هذه الخصائص في التصدّي للظواهر وإشكاليّات الخطاب المتنوّع وقدرتها على كشف الأنظمة الثقافيّة، وتقديم رؤية لمدى تناغمه أو اختلافه مع النسق أو الهيمنة السلطويّة بمختلف أبعادها وتجلّياتها، كلّ هذه التوجّهات جعلت من الدراسات الثقافيّة تحتلّ موقعها وأهميّتها وقدرتها على الديمومة والتطوّر المعرفيّ والجماليّ والفلسفيّ والمنهجيّ لأنها تمتلك رؤية ثقافيّة منفتحة وأكثر اتّساعًا في اكتشاف موجّهات ودلالات الخطاب ثقافيًّا والنتاج الإنسانيّ الإبداعيّ والنمطيّ المتعدّد إذ تعاملت الآن بتطوّر واضح مع الخطابات، ولم تتقوقع الدراسات الثقافيّة على أنساق محدّدة مستقبلاً، إذ ستطوّر انفتاحها بتوسّع على الخطابات والنتاجات الاتصاليّة الحديثة (السمعيبصريّة) وعلى الصحافة والثقافات والظواهر الشعبيّة والمهمّشة وعلى كلّ حقول إنتاج الثقافة لتحليلها، وتقديم استشراف موضوعيّ ودلاليّ لفاعليّة الأنظمة الثقافيّة التي تقدّمها وتتمركز حولها. 

وهناك خصائص متعددّة وعميقة الاستدلال على أن جدل العلاقة بين الدراسات الثقافيّة والفكر والآيديولوجيا والواقع الإنساني وتمظهراته لن تتوقّف أو تشهد أفولاً أو انحسارًا لأنها أساسًا تقوم على التصدّي لمظاهر الخطاب الإنسانيّ ثقافيًّا ومن ثمّ تنطلق في تحليل واستشراف الرؤى والدلالات والإشارات الظاهرة التي تعبّر عنها تلك الاشتغالات الكامنة في الخطابات ثقافيًّا، وبسبب علاقة الإنسان بمنطق ودلالة وديمومة الثقافة ممّا يجعل الدراسات الثقافيّة مرتبطة بثنائيّة (الإنسان/ الثقافة) بوصفها نقطة الارتكاز في التعبير عن الثقافة وتمثلّها، ورسم ملامح النظام الثقافيّ الفاعل والمتمركز، إذ أراها تتطوّر ما دامت الحياة والثقافة في تطوّر ولا تتوقّف أو تموت مطلقًا، وهذا يجعل الدراسات الثقافيّة تواكب وتتنافذ مع الإنسان ومظاهر التعبير المرتبطة بالفعل الثقافيّ، وستتمكّن هذه الدراسات نظرًا لارتباطها بالمتغيّرات الثقافيّة، وبمحوريّة الإنسان والإنسانيّة أن تستوعب كلّ الإشكاليّات، وتنفتح على كلّ المتغيّرات والمنهجيّات لما بعد الحداثة، وتجلّيات وصيرورات الثقافة وما بعد الحداثة، فضلاً عن امتلاكها البعد الشموليّ في التصدّي لعدم التمركز حول نظام أو نسق مغلق، إنها توجّه إنسانيّ معرفيّ يلاحق ويتصدّى لمظاهر النتاج الجماليّ بغية اكتشاف النظم المهيمنة، وتقديم رؤية تكشف عن العلاقة بينها وبين مفهوم التسلّط والنسق المؤسّساتي وفكّ الاشتباك بينهما، وبهذا ستكون مرتبطة ومعبّرة عن الرهان الإنسانيّ في الكشف والتحليل، والإحالة ولم تكن مثالاً أو أنموذجًا للانغلاق المنهجيّ والصيرورات الغائيّة التي تحجب شكل الحقيقة الكاملة، ولا تقدّم سوى رؤية تجزيئيّة للواقع والنمط المتعيّن في الثقافة، ولعلّها ستكشف في هذا الحراك النقديّ والمعرفيّ عن أنماط وأشكال متعدّدة، ومتناقضة لتشويق وترويض وتدجين الأفكار والاشتغالات الثقافيّة وخلق الخداع الظاهريّ للنتاج الجماليّ، لأنها تبحث عن مفهوم الأنظمة وتوجّهات الدلالة في تقديم الخطاب، ولا تستغرق في تحليل الظاهر الثقافيّ فقط بل البحث أو التمركز حول المضمر النسقيّ والخفيّ والغاطس، مّما يجعلها تقع في التأويل الثقافيّ ودلالاته، وهذا أيضًا يعصمها ويبعدها من الوقوع تحت دائرة السحر الجماليّ وتلفيق الخطاب القائم أحيانًا على التمركز حول منطق الثنائيّات، إنها تبحث عن إحالة وكشف وإسقاط تقدّمه الأنظمة والأنساق الثقافيّة في تكوين الخطاب وقصديّاته، فالدراسات الثقافيّة لا توظّف منطق الثنائيّات كغاية مقدّسة أو حقيقة نهائيّة بل توظّف الجدل باتّجاه استثمار الثنائيّات كوسيلة للدلالة والإحالة والكشف وذلك ما يميّزها مستقبلاً عن التوجّهات والدراسات والخطابات الأخرى. 

أرى أن الدراسات الثقافيّة لم تقف مستقبلاً عند حدود ما هو تقليديّ وموروث وقار بل ستنفتح على كثير من التوجّهات الفلسفيّة والمعرفيّة لقدرتها على التفاعل والاستيعاب لكلّ ما هو مستحدث، وانتاج الرؤى والاستراتيجيّات الما بعديّة لخلق مسار التفاعل مع حركة العصر وانعطافاته ومظاهره الجديدة في ميدان المعرفة والتكنولوجيا والسوشيال ميديا ووسائط التعبير ما بعد الحداثيّة وذلك يجعلها فكرًا ومعارف ومرجعيّة متجدّدة ومتفاعلة ومنتجة ومواكبة لجدل المتغيّرات والتحوّلات في كلّ ميادين الإبداع الثقافيّ والفنّيّ والجماهيريّ، مّما يمنحها القدرة على تكوين وتشكيل الأنماط المعرفيّة والكشف عن الجدل المتحكّم ومفهوم المهيمنات ووسائط التمركز ومظاهرها، وما يرتبط بذلك من تكوين المفاهيم والرؤى الشموليّة والتعبير عن حقيقة الجوهر الثقافيّ، والفعل الثقافيّ وقصديّاته سواء أكان متناغمًا ومتطابقًا مع الخطاب السلطويّ والمؤسّساتيّ أم يقع على طرف المعادلة الآخر والتمثّل أو التعبير عن الفكر النوعيّ المضاد، أو الفكر الذي يدين أو يعرّي الفعل السلطويّ، وهيمنة المنطق المؤسّساتي على النتاج، وتكوين شكل وجوهر الخطاب القصديّ والبراغماتي، وتحقيق نفعيّة الفعل الثقافيّ المدجّن والمروّض الذي يخدم شكلاً من أشكال الاستلاب الإنسانيّ والمعرفيّ، ونلحظ أن مهمّة الدراسات الثقافيّة باتت تقدّم الفكر الجدليّ المنتج للمعرفة الموضوعيّة، ونقد التمركزات والانغلاق والغائيّة المؤدلجة بدليل تغيير نظرتها للماركسيّة التي انطلقت منها، لأنها خطاب يرتكز أساسًا على التحليل الثقافيّ برؤية إنسانيّة شموليّة، واستشرف أن النقد الثقافيّ سينحسر وسيهفت مستقبلاً بينما تبقى الدراسات الثقافيّة متدفّقة وحيويّة. إذ نلحظ التلاقح بين الدراسات الثقافيّة وكلّ وسائل الاستدلال والتأثير والكشف، وتعالقها حتّى مع نظريّة أو منهج واشتغالات السيميائيّة وتوظيف القراءة العلاماتيّة لاكتشاف شكل وطبيعة الأنظمة الثقافيّة المتحكّمة كما أنها تفاعلت مع التوجّهات السسيو- ثقافيّة في رصد مظاهر اللغة والمظاهر الدالّة على الهُويّة وتعزيز الذات الجمعيّة، وتحليل خطابات الوعي الجمعيّ مثل التقاليد والفلكلور والطقوس وفكّ شفراتها ودلالاتها وتقديمها أو انتمائها وتمثّلها لنظام ثقافيّ معيّن يعبّر عن طبيعتها وتوجّهاتها تشكيل الهُويّة أو النمط الثقافيّ وتمثّلاته ودلالاته وإحالاته ومدى حيازته على النسق الإنسانيّ الحقيقيّ أو مدى تأثّره بتوجّهات الانغلاق والمحو وتهميش الآخر وتبنّي الخطاب الثقافيّ الأحادي، وباختصار سيكون المستقبل للدراسات الثقافيّة لحيويّتها وتجدّدها والحفاظ على ديمومتها وسيكون النقد الثقافيّ ظلاًّ من ظلالها مثلما ولد منها. 

إنَّ ما يحيل إلى وجود فاعل ومؤثّر ومرونة وانفتاح للدراسات الثقافيّة ومستقبلها لكونها ترتكز  على لوغوس مركزيّ هو اهتمامها واحتفاؤها بالإنسان وثقافته بوصفه بؤرة وجدل الوجود، ودراسة سياقات ومظاهر فعله الثقافيّ، والنظام والقيمة والتوجّه الذي يمثلّه في نطاق هذه الصيرورة المعرفيّة، ولذلك نلحظ أن خاصيّة التنوّع والموضوعيّة والمرونة المنهجيّة واستراتيجيّات التمثّل الإنسانيّ جعلت الدراسات الثقافيّة تفيد من استخلاصات مدرسة فرانكفورت ومنجزها في تأسيس منهج نقديّ ونظام فلسفيّ، وكذلك أفادت الدراسات الثقافيّة من الماركسيّة وتجلّياتها وتعالقها مع المناهج الشكلانيّة ومن ثم تجاوزتها، والإفادة من بعض تيّارات وتوجّهات البنيويّة غير التقليديّة مثل اللاّكانيّة نسبة إلى (جان لاكان) الذي زاوج بين البنيويّة والماركسيّة، و(بورديو) في دراساته الثقافيّة وتعمّقه في مفهوم الاستبداد الرمزيّ والهابيتوس والتشاكل والتفاعل مع التاريخانيّة الجديدة. 

لعلّ عمق وفاعليّة وتنوّع واستمرار وديمومة الدراسات الثقافيّة يكمن في أنها تجدّد نفسها وآلياتها وتوجّهاتها وتمتلك القدرة على التنافذ مع الاستراتيجيّات الجماليّة والمعرفيّة والقدرة على التفاعل والمرونة مع كلّ أشكال الوعي وتكوين الرؤية الإنسانيّة والثقافيّة التي ترتكز على التحليل والتمثّل والاستدلال والإحالة الدالّة ثقافيًّا، وعلى وفق هذه المعطيات يمكن القول إنَّ الدراسات الثقافيّة تفتح جدلاً وأُفقًا واسعًا مع دراسات واستراتيجيّات المستقبل المعرفيّ وسيزداد حضورها وضرورتها واكتشافاتها مع الصيرورة الزمنيّة والتحوّلات الما بعد حداثيّة وإنّ مجمل الدراسات التي يدّعون أنها في النقد الثقافيّ لا تعدو أن تكون دراسات ثقافيّة إذ لم نجد حدودًا بينهما إلاّ نادرًا.