" احمر حانة " أساطير مراوغة الماضي للحاضر / ناجح المعموري

ناجح المعموري
  • 17-07-2023, 10:22
  • مقالات
  • 609 مشاهدة

 أخذتنا رواية " احمد حانة "  للقاص حميد الربيعي نحو المتخيل السردي غير المألوف في السرد العراقي والعربي وذلك لانها استدعت ذاكرة كبرى ساردة " ابن اثير " ليعيش في مكان مدور ، هو العاصمة بغداد مع حضور لسارد أخر هو " الشيخ معروف ، ولكل منهما حضوره التاريخي والاجتماعي وكلاهما مرتبطان معاً ، لان التاريخي ثوب للمجال الاجتماعي وسردياته ومثل هذه التجربة مثيرة جداً بما خلفته من صعوبات في التلقي بسبب التداخل المخفي بين وحداتها المكانية والسردية . والطاقة المهارية التي تمتع بها حميد الربيعي للعب مع الشخوص وتنصيب ملامحها ، بحيث ظلت متوارية ، خاتلة في زوايا ذاكرة السرد ، تغيب فترة وتعاود حضورها البنائي من خلال حالة سردية لها علاقة بذاكرة السرد ، ومثل هذه المهارة في الابتكار وتوظيف اللغة المركزة الشفرية التي ابتكرت أساطيرها ، هي التي منحت " احمد حانة " حضوراً مشوقاً ، لكنه مغاير لما عرفته النماذج السردية التقليدية في البناء والنمطية كتوصيف الشخوص . لذا ظلت هذه الرواية متخندقة وسط فضاءات متنوعة ، متباينة ، قدمت العديد من الكشوف عن عصور وحقب قديمة جداً . وظلت كلها ممتدة بشكل سري ، تختفي تحت السطح وتغادر مجالها ، لكنها تصعيد بشكل مفاجئ وسريع من خلال شفرة معرفة لها ، ومقترنة بها منذ بدايات الاستهلال السردي ، ونجح القاص حميد الربيعي في توليف هذه النماذج ومنحها مجاورة ظلت متمتعة بوجود فني ، انفتح بقوة عن تعبيرات شعرية ، أضفت على الشخوص فرادة بغرابتها . وليس سهلاً الإمساك " بذي القرنين " والدور الذي لعبه الاسكندر المقدوني الممنوح تعويضاً كولونياكيا لاجتياح الجنوب والتواجد في الاهوار ، لتعطي المجال الكواونيالي حضوراً مغايراً ومختلفاً ، أخذه من بابل وأعطاه الاهوار من اجل سردية متخيلة ذات طاقة جبارة من التكون والنمو والحضور كذلك استمرارها في مواجهة المتلقي بقوة لحظة صعودها للسطح . وسردية الاسكندر تمثيل خفي للمماثلات تعرضت لها الحواضر المدورة في العراق . كما أن هذه الشخصية التاريخية ، ذات البعد الاسطوري ، تخندقت في سرود التاريخ ، لم تغادر تخيلاتها التي صاغتها الذاكرات الجماعية ، بل ظلت راضية وقانعة بكل النسيج المخلق والذي جعل منها أحدى شخصيات التاريخ الفذة ، مثلما تميزت بحضور قادر على الامتداد الهادئ / المرن بين وحدات السرد في هذه الرواية الاسكندر أنموذج خلق التوازن وسط المدينة المدورة وأيضا في الجنوب ، حيث الاهوار ، وتوازنه تمثيل ـ كما قلت ـ يخلق وحدة الأسطورة السردية / والشعرية ، من خلال صيد الحوت وما ظل حاضراً في أساطير مقترنة به . وأساطير " احمد حانة " كثيرة جداً ، وتمركزت حول الذكور / والإناث . مضافاً لذلك حشد الأساطير التي خلقتها الوحدات البنائية وجعلت منها صوتاً لم يغب ، بل حضوره قائم ، في لحظات أدرك حيويتها القاص حميد الربيعي . كل ما فيها ـ الرواية ـ ميثولوجيا بالذي نعرفه بسبب اللامألوف واللامعقول والذي ينطوي في أعماقه على مشابهات ببعض عناصر عرفتها الاساطير من قبل ، كذلك الواقع وما ابتكره من ميثولوجيات ، حدثت بعد عديد من الحروب ، وغزوات والتحاقات جسدية فوايرة ارتفع من خلالها السرد الايرويتكي بوظيفته البنائية أيضا ، فلم تكن ثنائية الاتصال الادخالي لذية فقط ، مثلما أشارت له الرواية برفعة شعرية وتوصيف طاغ بالكشوف عن أسرار الجسد الأنثوي ، الذي تكفل بلسانه الإعلان عن ارتباكات الجسد الذكوري . مضافاً لذلك كان للاتصال بين إدريس والعرجاء إمكانات هائلة في منح الجسد فرصة تنجيده ، لأنه يختبر إنسانيته ، لحظة مزاولتها .

لعل " ابنالاثير " أهم السرديات الاسطورية ، وربما تثير هذه الملاحظة استغراباً ، لانه شخصية تاريخية ، حقيقية ومعروفة على نطاق واسع جداً ، لكن وظيفته في الرواية تجاوزت حدود مكان معين ، هو بغداد ، المدينة المدورة ، وذهب ابعد من ذلك ، كي يجعل من تخيلات التاريخ والمجال الاجتماعي بؤرة ضاغطة وقوية جداً ، عندما دفع الى مدينة الموصل . التي جعل منها ـ الربيعي ـ سردية مختزنة بذاكرة " ابن الاثير " واستعادة أحدى وقائعها من اجل أن تتداخل الأحداث مع بعضها الأخر وتتعمق ، وتشير لما هو حاضر ، للقاص حميد الربيعي ماسك رؤوس الشليلة ، يومئ بها لحظة إدراكه بوجوب ذلك ، انه يفرز القارئ ويسعى الى اختباره عبر تراكمات الميثولوجية الكثيرة ...... أسطورة الاسكندر / والاهوار / والحوت / والبومة / والجنين سارق قطع الذهب / الشيخ معروف / ابن الأثير / أخوة الكهف الخمسة / الأربعة الذين حضروا وغاب الخامس / العرجاء التي ابتعدت عن زوجها خمس عشر عاماً / والأسواق الخرازون/ الأخوة الذي تم الوصول لهم بالصدفة ـ السردية ورسموا مشهداً مثيراً للدهشة ، فالذي يستولده التاريخ الميثي والديني القديم ، لا يذهب بعيداً عن الفضاء الذي صاغه وشكله وتجانس مع السائد بحضور الدمار من خلال تشكلات لها وظائف إرهابية . وكأن الربيعي أكد لنا ما نعرفه من مرويات وقناعة بأن الدم المسفوك الآن في المدينة المدورة تجازوها لمدن أخرى ، ليؤكد بأن الماضي مستمر بإنتاج سردياته غير المختلفة عما كانت عليه قبل عصور قديمة جداً .

هذه رواية تستحق مني العودة لها ثانية . ومقالتي تبشير بها واحتفاء لتجربة سردية مثيرة للانتباه .  

 

أقنعة إدريس السردية 

كتبت مرتين عن رواية " احمد حانة " للقاص حميد الربيعي ، وما زالت خفاياها كثيرة ، وغوامضها متسترة ، أسرارها كامنة ، مثل سحريات العرفاني ومالك الشفرات ومبتكر الحلول لما هو لا حلًَّ له ، مثل هذا المتلقي نادر وغائب ، عملة صعبة ، معقدة ، مطرودة من سوق القراءات . لأنه لا يتجاوز معه احد ، وكل " الأحد " يقرأن سريعاً وتتساقط المفاتيح من بين أيديهم ، حتى إذا التقطها أخر ، فانه لا يجيد توظيفها . أو بالأحرى غير خبير بنوع الأقفال الممكن تجريبه والنجاح بالإدخال .

رواية تنوعت أسرارها وكثرت دواخلها ومشاغلها ، تختفي وتهرع وسط فيافي وأراضي غير مأهولة ، لكنها مزدحمة بأسرار أيضا . وهي التي قالت عنها الرواية في ص7 وص199، أنها ارض ملأى بالطلاسم ، أنا من يفك رموزها ، فلا تدعوا الطريق يتوغل أكثر ، أعطوني برهة لأقرأ ما تبقى من أسرارها اللاهبة ، اللاهثة في النية ، دعوني اروي بقية النبوءات / ص7//

* سيأخذنا هذا الكلام لاحقاً بعيداً ونغور به أعماق أسرار الروح والأرض المفتوحة لتنوعات غرائبية ، من هنا صعوبات فك الإلغاز وتقديم الحلول ، لكن اعتقد بأن الروح الحقيقية الحيّة هي الأكثر سحراً وسراً ، لكننا لا نعرفها جيداً ، لأننا ى ندري أين سقط مفتاحها منا ، ومتى سنعثر عليه . السرد والفلسفة متآخيان ، متراضيان كلاهما يقبلان بالتأويل وهما معاً يشتركان بصفة الأدب ولا حراجة على السرد بوجود الفلسفة معه برفقة قديمة وحديثة في آن . 

هذه الرواية " احمد حانة " مكتملة الإثارة والامتحانات ومثلما أريده أنا من السرد ، ربما هو المزاج والتصورات واللامعقولة التي أبعدتني عن السرد ، لكني اذهب الى الأحمر حانة وأكون هناك ، لأنها ممتلئة بالجمال المتوفر بتنوع ، في القبح ، والطيرية / والقذارة والكلاب ..... الجمال برؤية العينين . جمالها بسيط وبليغ ، لأنني مقتنع بمقولة نيتشه : ما هو جيد هو بسيط " لذا منذ لحظة الابتداء بالقراءة لهذه الرواية أدركت بساطتها ، وخفت من مضاعفاتها والتباساتها ، وتدريجياً ، كان ما قلت ... وصرت مرتبكاً وأنا استعيد الذي تجاوزته من فصول قصيرة ، وهذا سبب أخر من خفاياها .

لضغطها على الذاكرة والنية بين وحدات سردية مغلقة ، وقريبة من الاقفال المعجز ، لكنها تعاود مهارتها ، وتبرق للمتلقي بالمشجع المستحضر تواً ، لاستكمال الاتصال بعد حضور الغائب المرق نهاراً وتتيه عليك التوسلات المستلمة من شبكة شخوصها كثيراً . وتنجح في الذهاب نحو " أن كثير " الذي يكتف بما لديه من مجد تدوين وأصر على تسجيل يوميات خاطفة عن الزهور / أنا ابن الأثيرة ألف كتاباً عن " الفرهود " لقد انتهى النهب والسلب الفردي ودخلنا في العام . لهذا تراني أحاذر الحيطان وامشي بعرض الطرقات 

ـ وما الفائدة من كتابك ؟

ـ بطر ... / ص185//

 

هذا سرد قريب لعديد من الشعوب ، حتى غير الصحراوية ، لان الفرهود رد عنفي على تردني الدولة وانهيار مؤسساتي وشيوع الطغيان الفردهود المقترن بنا مراراً هو الفعل المريع المتسلل إلينا من الصحراء وثقافة البداوة التي دائماً ما كانت مقصية ، وفي الحقائق الموضوعية هي موجودة / حاضرة / قائمة / حاكمة . فالبداوة فرهدت بداوتها والخطير حضور " ابن اثير " من عصره وزمانه ، تاريخه الأول وسردياته ، الى عصر أخر وزمان مختلف وأيضا تاريخ جديد مع سرديات مختلفة ، لأنها سرديات شنائع وجرائم وقتل وتدمير ، ذلك لسبب واحد لاحقته الذاكرة في سرديات " احمد حانة " 

ـ هل تعرف أن الجدران تتآكل ؟

رجل لم يوجه كلامه مباشرة إليّ ، لاحقته فضولاً :

ـ العثة ، يا ابني أبيه ، أن العثة مثل الأرضة تنخر الحيطان حوار فيه بلاغة ، تقود الى معنى ، له علاقة بالمكان وهذا بالضرورة يستحضر الزمان ، لأنه ـ المكان ـ لا يحوز صفته إلا مع صحبة الزمان له . الخراب عام ، وشامل ، انهارت المدينة المدورة ، وتكررت خرابها مرات عديدة ، لكن الذي تحقق أخيرا هو الشامل والذي سيظل طويلاً : فالعثة نخرت الجدران وبدأت تتآكل ، والانهيار قريب . والمثير للدهشة أن المتحاور ن؟؟؟؟؟؟؟ ولم يعرف نسبه ، فهو ابن أبيه ، المادي والأخلاقي والقيمي قد تقوضت كلياً ، فما يحصل في مجال لا يكتفي به بل يزحم الى غيره وما دمنا قد تعرفنا على دمار البناء التحتي ، فأن الأخلاق والقيم قد تهاوت أيضا ، لأنها مرتبطة بالبناء المادي التحتي ، لأنهما يمثلان الثقافة / البناء الفوقي .

شخصية إدريس دوراً قناعياً متنوعاً ، ذهبت مرات تكررها الى حصول التباس في تداخلات هذه الشخصية المثيرة التي لم تكن جديدة في السرد العراقي الحديث ، بل هي كانت قبلاً حاضرة في روايات لابتسام عبد الله وعلي بدر وأيضا نجم والي . لكن إدريس قناعاً سردياً ، فتح النافذة واسعة أمام التعدد وتحولات القناع ، مما جعله يلتقط من الميثولوجيا القديمة ، وذلك ارتباطا مع قصة أهل الكهف والعلاقة الكلبية المصاحبة منذ البداية وحتى في بداية الرواية وجعل من فعل الكلب نهاية لها وذلك ينطوي على دالة وجود الكلب في تنوعات الحياة منذ البداية وحتى النهاية وهذه دلالة سنية على سيادة هذا النوع من الحيوانات في الحياة العراقية وخطورتها " الكلب يلوي ذيله ، ينظر الى الأخوة المنهمكين بضرب الصنادل فوق رأس الفتى ، نبح في البدء حالماً أبصر الفتي يتجول منفرداً في الشارع ، بالضبط بعد الجسر ، حيث كان يركض ، لاحقه مسافة واصطاد ساقه بعضه ، عندها هرع الأخوة ص7//

وأضفى القاص على الكلب وظيفة معاينة حركة الأفراد وهذا ما تأكد عندما أراد احد الشخوص الأوائل وهو إدريس العريف الذي تكفل بواجب رقابي للجسر ، لان موعد الجنرال اقترب وهو يحمل تيجانه ونياشه ولابد أن يتقلد عصا مثل أي قائد مغوار ص197وما بعد ، وقبل اقترابي من مكان اللقاء ، نبح الكلب ، أشحت وجهي وجريت بعيداً ، لكنه أبى إلا مطاردتي .... هجم على بطة الساق ، غرس أسنانه هنالك / ص197//

تعددت شخصية إدريس " الخراز / العاشق / العريف / ومعهم رابع انه إدريس العجوز الذي ابتدأت به السرديات وكان متمرداً وفاعلاً في تحققات الدمار . والسطو والسرقة وكأن ما أراده " ابن أثير " قد حصل من اجل الذهاب سريعاً نحو استكمال كتابة عن " الفرهود " لم تتصاعد سحابة الدخان ، كان الغبار يحط على الأرض ، الناس تركض لكل الاتجاهات ، إلا بعضاً ، يجمعون الأشلاء بجوار حاويات القمامة ، من فرط التهكيم . وضع احدهم رأساً مقطوعاً من جثة فوق حافة الحاوية . عما قليل دبوا في الأرض ، بعدها هدأ الهلع جراء شدة الانفجار لقد خرجوا من القاع والأزقة فانتشر " الفرهود " كل ما تطاله أيديهم من سلع / ص186// ما حصل هو العاب نارية مثلما كانت عنونة هذه الوحدة السردية المتأخرة والتي جعلت ابن الأثير يتراجع عن عنونة كتابه واقترح له العنوان التالي " أقبلت فأدبرت .    

...........................

لمتابعة نشاطات الاتحاد:

الويب/ الاتحاد:

https://iraqiwritersunion.com/

الفيس بوك/ الاتحاد:

https://www.facebook.com/iraqiwritersunion?mibextid=ZbWKwL

الانستغرام/ الاتحاد:

https://instagram.com/iraqi_writers?igshid=MzNlNGNkZWQ4Mg==

انستغرام متحف الأدباء:

https://instagram.com/writers_museum?igshid=MzNlNGNkZWQ4Mg==

الفيسبوك/ متحف الأدباء:

https://www.facebook.com/profile.php?id=100089542158676&mibextid=ZbWKwL

قناة الأدباء/ يوتيوب:

https://youtube.com/@user-db3ks4fl6m