القطار والعربة
القطار : (يطلق صفير بوقه العالي عدة مرات).
العربة : (يَجذب الصفير انتباهها وشيئاً من الخوف).
القطار : (هازئاً من خوف العربة من صفيره) لماذا تخشين صوتي الجهوري ايّتها العربة الصغيرة ؟
العربة : انا لا اخشى صوتك ولكنه فأجاني. كما يفاجئني صِياح الديكِ فجراً.
القطار : وهل هذه هي المرة الاولى التي تسمعين فيها صوتي العالي ؟
العربة : سبق لي ان سمعته آلاف المرات، ولكنه كانفجار يُفاجئني في كلِ مرة.
القطار : صوتي العالي يُناسب حجمي الكبير الحاوي على العديد من المقطورات، وكل مقطورة منها هي اكبر من حجمك عدة مرات.
العربة : ولكن جميع تلك المقطورات لا يوجد مُحرك ميكانيكي واحد خاص بها.
القطار : جميعهُن ليست بحاجة إلى محرك خاص بهن. فهنالك محرك واحد ضخم في المقدمة يقودهن جميعاً، من دون ان يبذلن أي مجهود طوال سيرها.
العربة : اذن لماذا تفتخر بضخامتها مادامت فارغة بلا محرك، وتستخف بي انا وتعيب علي ضآلة حجمي وأنا وحدي مستقل بمحرك خاص بي .
القطار : اذن انت ورقة في مهب الريح، تُسيّرها حيثما شاءت.
العربة : ان المحرك الخاص بي يحركني في الطريق الذي اريده انا، لا المحرك الضخم الذي في المقدمة.
القطار : فانت ستدورين وتدورين، وسترجعين يوماً يا عربة مهزومة مكسورة الوجدان. هنيئاً للذي يهتدي الى الطريق المستقيم بيسر.
العربة : هنيئاً لمن يكون في كل خطوة من خطوات طريقه اكتشاف وتحدٍ جديد.
القطار : ما أحلى ضمان الوصول لخط النهاية !
العربة : الرحلة أهم من الوصول.
القطار : الرحلة بلا سكة ضياع وتخبط.
العربة : السكة قيد، وخلق للغباء ونقل من أسلوب تفكير الغير من دون تفحصه والتمعن فيه.
القطار : إيصال الآلاف إلى أهدافهم، هي أسمى غاية.
العربة : إنه إيصال قطيع أغنام مُطأطئات الرؤوس إلى هدف مرسوم لهن مسبقاً. وخير من القطيع هذا، هو حصان جامح مندفع رافعاً رأسه للأعلى، لا ينوي على شيء سوى الانطلاق بحرية نحو البحث بلا هدف محدد مسبقاً.
القطار : الخطوات الواثقة أسلم شيء. وكل قاطرة تقول لأختها: نحن خير خلف لخير سلف. وليس بالإمكان أبدع مما كان.
العربة : قفزات الخشف، أروع من خطوات الفيل المتهادية.
القطار : عدد الواصلين عندي لخط النهاية بسلام يفوق غيرهم.
العربة : النوع وليس الكم هو المهم. هناك الآلاف من خريجي الجامعات بمختلف اختصاصاتها، لا تخلق أم كلثوم ثانية أو بتهوفن آخر البالغون متعبون بالتخطيط، والباحثون لهم متعة الأطفال.
القطار : إن ما أحققه أنا في مسيرتي الطويلة، بالتأكيد يفوق مسيرتك.
العربة : لكنها مسيرة طويلة من دون أن تضيف شيئاً من المفاجآت والخبرات. إنها مسيرة مملة ولا حياة فيها ولا حيوية.
القطار : طوال مسيرتي على السكة الحديدية أكون مخدّر الأعصاب متأملاً الطريق، وحتى أحياناً مغمض العينين متأملاً.
العربة : أما انا فأكون متحفزة ومفتوحة العينين والعقل لكل شبر ومنعطف في طريقي.
القطار : لو أني أسير في طريقك لتملكني الرعب.
العربة : لو أني أسير في طريقك، لما انطلقت منذ البداية ما دمت أعرف المحطات الروتينية والنهاية المحتومة. الخطر عامل من عوامل الإغراء للقيام بأي عمل. والبحر الهادئ لا يصنع أبداً بحّاراً ناجحاً. ففي الأمواج والأعاصير تظهر القدرات الكامنة فينا. كل ما هو رائع مخيف، الأمان يلازم الدونية، المخاطر تكمن في القمم دوماً. والتكرار يعلّم الشطار.
القطار : بل يقال العكس أن التكرار يعلّم .... وليس الشطار. إن نظام الكون مبني على أساس التنظيم وليس العشوائية.
العربة : الكون لا إرادة خاصة له، أما من له إرادة خاصة عليه استثمارها. شتان بين خيول العربات وخيول البرية، شتان بين بلابل الاقفاص وبلابل الرياض، شتان بين أسماك الزجاج وأسماك البحار، شتان بين طائر الصقر وطائر الدجاج، وحتى شتان بين عبيد المنازل وعبيد الحقول.
القطار : انت بطيء والحياة فراشة قصير عمرها.
العربة : الحياة بعرضها لا بطولها. ليس المهم أن نعيش بل المهم هو أنه كيف نعيش.
القطار : الحياة يوم يتكرر حتى النهاية، يوم يستنسخ آلاف المرات، وكل الطرق تؤدي إلى روما، اه.. عفواً إلى الموت. هناك أيام تحمل في أحشائها عشرات السنين.
العربة : كل نفس ذائقة الموت، ولكن ليس كل نفس ذائقة الحياة. في كل مفترق طرق هناك حياة قائمة بذاتها، حياة خاصة وعالم كامل يختلف عن غيره. في كل شارع وطريق فيه ما لا تجده في غيره من الشوارع والطرق والتشعبات.
القطار : كل الحقول والأشجار والعصافير والطيور وحتى المدن متشابهة، ولا جديد تحت الشمس.
العربة : لكل عصفور شكله وريشه وزقزقاته التي لن تجدها في غيره. ولكل شجرة شكل وحجم وأفرع و أغصان وأوراق تختلف عن غيرها. والأدهى من ذلك أنه لا توجد مدينة تشبه أختها من المدن. المهم أن نفتح بصيرتنا، لا أبصارنا فقط.
القطار : الحياة دائماً في مكان آخر. دائماً كل شيء هناك، واللاشيء هو هنا.
العربة : الحياة دائماً هنا والآن. يعتقدون أنهم سيكونون سعداء إذا ذهبوا للعيش في مكان آخر. لكن ذلك خطأ، لأنك أينما ذهبت فستصطحب نفسك معك، وتقول إن الحياة حيث لا أكون. لا يوجد من هو أكثر استعباداً بلا أمل ، من أولئك الذين يتصورون أنهم أحرار.
القطار : دائماً في طريقك الحفر والمطبات وأشياء كثيراً ما لا تتوقعها. بينما طريقي سكة حديد لامعة لا مفاجآت عليها.
العربة : أنا أتحسس الأرض بملامستها بمختلف أشكالها وحالاتها وبكل ما في دواخلي، بينما أنت بعيد عن أمنا الأرض ولا تتحسسها وإن قضبان فولاذية باردة جداً أو ساخنة جداً تلهب عجلاتك وتبعدك عن ملامسة الارض مباشرة.
القطار : السكة هي حياة الاستقرار والثبات واليقين، كما يمكنني السير نائماً.
العربة : النوم خسارة كبيرة وفقدان شيء جديد لا تعرفه. الحياة الحقيقية هي مثل حياة الطيور والأسماك ، لا مكان محدد خاص به وكل الأماكن هي مكانه وأن العالم كله له. لم نعرف بتقسيمات للبحار والأنهار كأوطان تتخذها قبيلة من الأسماك وطناً خاصاً لها. ولم نعرف بتقسيمات للسماء كأوطان تتخذها فصيلة من الطيور وطناً خاصاً لها .
القطار : إنك ستتأسفين كثيراً في الآخر على أفعال فعلتها خاطئة، فأخطاؤك ستكون حينها كثيرة .
العربة : نحن لا نأسف إلا على ما لم نستطع فعله وليس على ما فعلناه. حافظ على الجزء التافه من أعماقك ، الجزء الذي يجعلك تضحك بلا سبب، وترقص بلا سبب، وتبكي بلا سبب، وتصرخ بلا سبب، وتحب بلا سبب، وتكره بلا سبب، ولا تسألني ما السبب. السعادة الكاذبة أمرّ مذاقاً في الأفواه من الشقاء الصادق.
القطار : إن عقلي بارد وهادئ وراضٍ به، أما أنت فرأسك قدر فيه الدماغ يغلي من البحث والشك والقلق. وتفكير الأولين أسمى و أقدس ، وهل ترك الأولون للآخرين شيئاً ؟ فما حاجتنا لوجع الرأس هذا ؟
العربة : وبسببهم تعتبر أن السكة التي تسير عليها هي الوسيلة الوحيدة الأسلم للوصول، ولا تتقبل غيرها من سبل الوصول على الإطلاق. وكم سحقت عجلاتك منا الكثير ! وتتجاهل الكثير من المحطات والمدن التي لا تصلها سكتك فتنكرها.
القطار : للقطارات شكل مريح واحد، أما أنتم فهنالك عدد لا يحصى من الأشكال والأنواع المختلفة.
العربة : نحن ننظر للعالم بعينيّ طفل يندهش لكل اكتشافاته ، ونظراتكم للعالم كنظرات متعبة لشيخ ملّ الحياة.
القطار : هذا اعتراف منك بأننا نحن الشيوخ المثقلون بالحكمة، وأنتم الفتيان أو الأطفال الطائشون. كأنكم أيتام منذ الطفولة حرموا رضاعة حكمة الحياة من آبائهم.
العربة : الأفكار عندكم هي مجموعة كلمات، أما عندنا هي شيء حي.
القطار : نحن من الصعب أن نفقد هدفنا، لأن عجلاتنا الكثيرة مثبتة بالأرض بفضل ثقل هيكلنا الكبير، يوجد بعض المتوحشين الأفريقيين يقدسون الثعابين التي تشبهنا لأنها ترتكز بكامل جسدها على الأرض، لهذا فهي تعرف جميع أسرار هذه الأرض، تعرفها ببطنها وذيلها وبرأسها، أنها على اتصال دائم بالأرض، فنحن لسنا مثلكم تلامسون الأرض بإطارات عجلاتكم فقط، التي تجعلكم استعلائيين عنجهيين مغرورين متكبرين.
العربة : هاااااااه، لقد أضحكتني. ما هذه المرآة المقلوبة التي ترى نفسك فيها وترى الآخرين ! أنت تعيش في ظلال شرائع وتقاليد ابتدعها الأولون، أما نحن فنحيا بحسب الناموس الكلي المطلق الذي يسيّر الأرض حول الشمس. طاعتك العمياء لسكتك تخلق منك عبداً.
القطار : مهما تحدثت وقلت، لن يغيّر ذلك من قناعاتي شيئاً. وأدعو إلى إبادتكم وإبقائنا نحن الوسيلة الوحيدة للوصول.
العربة : وأنا مقتنع بكل كلمة قلتها. ولكني لا أدعو إلى فنائك، رغم أنه سبق لك أن صدمت بعجلاتك الكثير منا حيثما تتقاطع طرقنا.
القطار : جسمي حديد وفولاذ صلب فلا يقف أحد منكم في طريقي، وإلا سحقته.
العربة : لماذا لا نعقد اتفاقاً بيننا، أن لا نقطع طريقك ولا تسحق أحداً منا.
القطار : لا يمكنني ذلك، فسكتي لا تسمح لأي أحد بالتقاطع معها ولا معاكستها ولا التشارك بها مع أحد. وافعلوا ما يحلو لكم.
العربة : (تتحدث مع نفسها) إن الغشاء الكثيف الذي حاكته الأجيال الطويلة على أبصارهم لا تمزقه حتى أقوى الحوارات. وطينة الغباوة التي تحجرت وتكلست لا تزيلها ملامسة الأصابع الناعمة.
القطار : بماذا تهذين أيتها العربة التائهة الضالة الطريق، ما المشكلة ؟
العربة : اه.. لا شيء، لا شيء يذكر. أقول إنه خير حل لأية مشكلة هي أن يتقبّل أحدنا الآخر.
القطار : هذا الحل يليق بك ولا يليق بي.
العربة : تقبّل الشيء لا يعني أن تحبه، بل يعني أن تتوقّف عن معاداته وتجد وسيلة للتعامل معه.
القطار : إذن المشكلة تخصّك وحدك.
العربة : إن سبب معظم المشاكل ليس الطرف الذي لا يتغيّر فقط، بل الطرف الذي لا يتقبّل الوضع كما هو.
القطار : (يطلق صافرته ويهم بالانطلاق).
العربة : (تضحك) على الأقل، قل إلى اللقاء.
القطار : الوداع، الوداع
رياض ممدوح جمال