تأملات في انكسار الذات وتوتر الوجود

  • اليوم, 14:29
  • نقد
  • 7 مشاهدة

تأملات في انكسار الذات وتوتر الوجود |  رياض عبدالواحد

ناقد | عراقي


المقدمة

تمثل قصيدة "ناي ليلة عاصفة" للشاعر حسين السياب إنموذجًا متميزًا من شعر الحداثة العربية، إذ يعكس الشاعر بواسطة لغة رمزية ثرية حالة اضطراب نفسي وجودي يعيشها الإنسان في عالم هشّ وممزق. في هذا النص، تتداخل الدهشة مع الألم العميق، ويبرز صراع مستمر بين الهشاشة والرغبة في النجاة، بين الغموض والبحث عن الضوء.


تحليل النص فونيمياً:

تبدأ كلمة "ناي" بحرف النون، صوت رقيق، يمنح الكلمة وقعًا شفيفًا يحاكي صوت الناي الموسيقي الحزين. الحرف الأخير "ي" يضفي نغمة حنين وتأمل، ما يجعل الكلمة ذات وقع صوتي ناعم ومؤثر، يعكس حالة الوجدان الحزين الذي يسيطر على النص.

دلالياً:

يرمزالناي في الثقافة الشعرية  للحزن والشجن والحنين، وهو أداة تعبير عن الألم والوجدانية. مقابل ذلك، تعبر "ليلة عاصفة" عن الاضطراب والخوف والفوضى التي تعصف بالذات والعالم. التركيب "ناي ليلة عاصفة" يجمع بين الرقة الموسيقية للناي وبين القوة العنيفة للعاصفة، في تعبير عن التوتر البنيوي الذي يميز القصيدة بين الحزن الرقيق والعاصفة المدمرة.


تحليل النص:

يبدأ النص بنحو مروع للعالم الذي "يتداعى في رأسي مثل قشة في مهب الريح"، في صورة تشبيهية تعبر عن هشاشة الذات وتفكك الوعي وسط عاصفة فكرية ونفسية. الحزن الذي "يقلم أظافري" يرمز إلى فقدان القوة والقدرة على المقاومة، بينما البحث عن "مدينة في مدينة" يدل على الضياع والبحث عن ملاذ آمن وسط الفوضى.

تُستعمل الطبيعة في النص كمرآة تعكس اضطرابات الذات: الريح القديمة تصقل الوجه القاسي، والفراغ الكبير في السماء "يتدلى منه صدور الأمهات" في صورة رمزية حزينة عن العدم والحنان المهدد. سقوط "حليب أسود" يرمز إلى فساد الحياة وفقدان النقاء.

تظهر مشاهد الطبيعة في حالة من الدمار: "سماء مجنونة، أرض تبتلع النخيل، نهر يركض إلى مثواه الأخير، طيور تنقر رؤوس الصبيان" كلها صور توحي بالعنف والدمار الاجتماعي والوجودي. في خضم هذا المشهد، يلج الشاعر القصيدة طلبًا للنجاة، فيتحول الشعر إلى ملجأ وموقد حطب يدفئ، ويرنو إلى "وجه الله" في لحظة إيمانية تتويجًا للمعاناة.


تحليل البنية السطحية والبنية العميقةللنص:

البنية السطحية

تتكوّن البنية السطحية من الصور الشعرية الظاهرة التي يصورها الشاعر عبر مجموعة من المشاهد التصويرية:

تداعي العالم في رأس الشاعر وهشاشته. الحزن كقوة تقلم الأظافر، رمزًا لفقدان القوة.

رحلة البحث عن ملجأ وسط مدينة مزدوجة ومعتمة بالليل.

الطبيعة في صور متحركة، كالريح القديمة والسماء المليئة بالفراغ.

صور رمزية مثل الحليب الأسود، مقبرة الأحياء، الطيور التي تنقر رؤوس الأطفال..

وصولًا إلى الشاعر الذي يلج القصيدة كمنقذ. هذه الصور تمثل سردًا خارجيًا بسيطًا، إلا أنها تكثف عبر استعمال الرموز حالة داخلية معقدة.


البنية العميقة:

تكمن البنية العميقة في مضامين النص الفلسفية والوجودية:

انكسار الذات: الذات ممزقة، العالم الداخلي متداعٍ، تعكس أزمة هوية وشعور بالاغتراب النفسي.

الحزن كعملية تكوينية: الحزن لا يقتصر على الألم، بل يشكل الذات، رغم قسوته.

ثنائية الظلام والنور: الليل الذي يقضم الفجر يشير إلى صراع وجودي دائم بين الأمل واليأس.

الطبيعة كمرآة النفس والكون: تحولات الطبيعة ليست عرضًا خارجيًا فقط، بل تمثل الحالة الذهنية والكونية الممزقة.

مقبرة الأحياء: استعارة وجودية تعبر عن حالة موت روحي وسط الحياة.

العنف ضد البراءة: الطيور التي تهاجم الأطفال ترمز إلى الفساد الذي يدمر المستقبل.


الشعر والروح:

القصيدة ملجأ للذات، الشعر يصبح نايًا يخفف الألم، وحين يلتقي الشاعر بوجه الله تتجلى الرؤية الروحية، الخلاص

التوتر البنيوي:

يتمركز النص حول توتر مركزي بين الفوضى والنجاة، بين الهشاشة والقوة، بين الألم والتنوير، ما يخلق ديناميكية متصاعدة تدفع المتلقي إلى ختام نص يحمل بصيص أمل روحي


الخاتمة:

تُبرز قصيدة "ناي ليلة عاصفة" عبقرية حسين السياب في نسج سرد شعري يجمع بين الصوت الموسيقي الرقيق لصدى الناي، وصخب العاصفة الوجودية. يقدّم النص بنية سطحية حافلة بالصور الحسية المؤثرة، بينما تفتح البنية العميقة أفقًا فلسفيًا ورمزيًا حول انكسار الذات، صراع الضوء والظلام، والبحث الإنساني المستمر عن النجاة والسكينة في بحر من الألم والفوضى. الشعر هنا ليس مجرد تعبير عن الأزمة، بل هو فعل وجودي وخلاص روحي، تعانقه الذات في أقسى لياليها العاصفة.


( القصيدة )


ناي ليلة عاصفة..


العالمُ يتداعى في رأسي

مثلَ قشةٍ في مهبِّ الريح

الحزنُ يقلمُ أظافري

أبحثُ عن مدينة في مدينةٍ

قضمَ الليلُ صوتَ الفجرِ فيها..

الريحُ القديمةُ تصقلُ وجهي

في ليلةٍ عاصفةٍ فيها الكثيرُ من الدهشةِ والألمِ العظيم..

فراغٌ كبيرٌ في السماء

تتدلى منه صدورُ الأمهات

يتساقطُ حليبٌ أسود

يطعمُ آخرَ العناقيدِ المتواريةِ عن الأنظار في مقبرةِ الأحياء...

ليلةٌ عاصفةٌ

سماءٌ مجنونةٌ

أرضٌ تبتلعُ النخيلَ

نهرٌ يركضُ إلى مثواه الأخير

طيورٌ تنقرُ رؤوسَ الصبيان

شاعرٌ يلجُ القصيدةَ لينجو

يبحثُ عن نفحةِ نايٍ وموقدِ حطبٍ

يسألُ الناجينَ كأسَ خمرٍ

يدندنُ ترنيمةً كنائسيةً

يصحو وإذا بوجهِ الله..!!