رواية (لبابة السر) ورمزية التخيل التاريخي - رسول يحيي

  • 4-12-2020, 22:16
  • نقد
  • 1 385 مشاهدة

اعتبر ميشال ڤانوستيز الرواية التاريخية المحل الأفضل  الذي تجد فيه جدلية الواقع والممكن، وأنسب مجال للتحقق يمكن أن تثار فيه حركة الاعتقاد وعدم الاعتقاد، مهددة على الدوام بالذوبان في واقع ضروب الخطاب المعرفي، وأن التخييل التاريخي  خطاب مفارقة ساخرة  وباروديا قائمة على التهجين والأسلبة ومستنسخات تناصية يراد بها الحوار والتفاعل من خلال جدلية الهدم والبناء والانتقال بين الماضي والحاضر لبناء المستقبل والممكن المنشود.  
أن رواية لبابة السر تقوم على استراتيجية سرد التخييل التاريخي ضمن المتواليات السردية المتواشجة، وقد تجاوزت الرواية التاريخية التقليدية تجريبا وتأصيلا. وترتب عن هذا أثبات أنها قصة متخيلة، كتبت في ظل الحاضر الواقعي، وهي تتطلب قارئاً نوعياً ذا ارتباط وثيق بالتاريخ، ينماز بسرعة البديهة وقوة الربط في المتن التاريخي بفضاء المخيلة، حيث يستثمر شوقي كريم حسن مادة التاريخ منطلقاً لعمله الإبداعي التخيلي، ويقدمه لنا بوصفه مادة إبداعية تخيلية، خلفيتها التاريخ وحاضرها الآني من خلال المنهج الرمزي، ومنطلقات نسيج متنها السردي الثيمة التاريخانية والزمكانية، بقصد تشييد فضاء روائي محفوف بالتشويق والمكاره والإسقاطات والمصاعب، وهي مزيج ما بين التناول التاريخي والتخيل التاريخاني والحاضر المترمز .
( كنا نراه أينما اتجهت تراتيل ألسنتنا, نهمس لحضوره فتملأ المعابد بشذا الصندل والآس وتعتمر قلوب الكهنة بنداءات التكبير لاستلهام, نبصره أملاً في الوصول إلى خلاص أبدي) ص7
 فالسارد هنا يعيد إنتاج التاريخ وإضفاء ظلاله على شخصيات الرواية وأحداثها وطريقة سردها، وتجلى إبداعه السردي وفق استراتيجية الحفر الأنثروبولوجي جمع من خلاله عشرات الشخصيات التاريخية، يستنطقها ويشظّي صوته عبرها في استعانة بشذرات التاريخ النادرة.
( بيل شاحر وجه اعرفه جيداً.. معجون بهيبة مردوك ومعطر بروائح المعابد العشر) ص9
( ما كان على الملك الأجل نبوخذ نصر أن يسلمه صولجان الفكرة) ص10
وتتضمن أيضاً النسق الإيكولوجي، وتصنيف الفرد ومجموعة من نوع معين، ذاتياً ظاهريا أو وراثيا عن باقي الأفراد، حيث تضمن  البناء والنظم الاجتماعيّة، وأيضاً تتضمن الطبقات والطوائف الاجتماعيّة، والنظم السياسيّة والاقتصاديّة والعقائديّة، بخصائص متكيفة مع موائل مختلفة من خلال الجدال والنقاش الدائر بين الراوي ( ذات شوقيا ) ومعلمه من أجل أفضل عملية اندماج رغم الفاصل في التسلسل الزمني التاريخي ضمن المسافة المكانية الواحدة وعيش الشخصيات الحية بشكل غير مستقل عن بعضها البعض، لدرجة وجود تفاعل أو احتكاك بينها تختلط وتشترك في نفس المحنة.

( - من أين أتتك الرؤيا يا فتى
قلت وأنا أغص في مرارة كلماتي
- لا أدري معلمي .. لكني رأيت!! )ص24
(يوم عاد الجند، وامتلأت الشوارع بالتراتيل والاغاني وشمرت نسوة بابل عن ابتسامات فارهة ظلت أمي حبيسة مدامعها) ص30
( شوقيا .. من أين لك كل هذا يا ولدي؟
البحث ومنادمة سن ومردوك وديموزي وشمش.. واكتشاف المعنى عند تراتيل المعابد .. وسنوات الوحدة التي أكلت عمر أمي..
ما الحرب .. ومن ذا الذي اعطى لهذه الآلات القاتلة معنى الاحترام)  ص31
ذهب شوقي كريم حسن إلى المذهب الرمزي التاريخي وهو مذهب ايجابي تعبيري عن المعاني الكامنة في النفس، التي لا تستطيع اللغة بصورتها المعتادة الكشف عنها، ولذلك عمد شوقي كريم حسن إلى استخدام ايحاء الكلمات وايقاعها وظلالها، ورسم صور ظليلة والتعبيرات المفاجئة، ليضع القارئ في دائرة الشعور الذي يحب أن يوصله إليه
(لا أريد كتابة أشياء يعرفها الناس من أزل الأعوام) ص32
فالرمز اتجاه فني يغلب عليه سيطرة الخيال تجعله دالة أولية علي ألوان المعاني العقلية والمشاعر العاطفية، وتنص على توضيح التأثير والترابط المتبادل بين الماضي والحاضر، وهو نسيج متشابك يؤثر في وحدة النص وتسمح باستمرارية التشويق والمعرفة من خلال طغيان عنصر الخيال الذي من شأنه أن يسمح للعقل والعاطفة أن يعملا في خدمة الرمز وبواسطته، ويعبر السارد عن غرضه بالفكرة ، فإنه يبحث عن الصورة الرامزة التي تشير في النهاية إلى الفكرة والعاطفة.
(أرباب لا هم لهم غير بكارات العذارى وخمور معتقة ويهرقها الكهنة فوق أسرة المعابد) ص35
(أعلنت صراحة عداوتي لأرباب بابل وسومر بل تجرأت ولعنت مردوك أمام كهنة المعبد الأول). ص40
لقد جاءت اللغة المعتمدة في بناء رواية ( لبابة السر) عبر تمظهراتها وتشكّلاتها، لغة فصيحة، تحمل في سياقاتها روح الزمن التاريخي.
) في كل مكان، أبوك كان صدقاً لي، معاً تجاوزنا حدود بابل للوصول الى الهدف المعني
- أو كنت مقاتلاً مع الملك نبونيد؟) ص41
 كما تسهم اللغة بإحالاتها وإيحاءاتها في إنتاج خطاب المناظرات والمراسلات، وتخدم في التوقيت ذاته بإيصال ما يضمره المؤلف من موقف أخلاقي وفكري يتمثل في كشف الغطاء عن المظلومية المسكوت عنه والمضمر في هامش مدونات التاريخ والرغبة الواعية في فضح وكشف جرائم التزييف التاريخي في تفكيك التاريخ والحاضر ثقافياً وسياسياً واجتماعياً تفكيكاً يمكّننا من إعادة قراءة التاريخ والتعرف على مواضع التأزم والتناحر وصراع الأفكار الدامي.
( محنة أن ترمي ثلك اليها خوف السقوط... هذه هي بابل شجرة يابسة.. ولا شيء حتى أنت نبونيد الذي كانت الشفاه لا تكف عن اللهج يفعاله، هاهو الآن يلوم وحدته بانتظار الرحيل الى عالم الأسفل) ص45
عمل السارد باقتدار على جعل الأزمنة والفضاءات متواشجة مع بعضها من خلال الصوت الواحد في تقنيات السرد كما اعتمد البنية السردية في متن الرواية على خلخلة بناء السرد، والعمل على إفقاده التسلسل المنطقي والتتابع المعتاد. ويتجلى ذلك من خلال الحوار وإسقاط أحداث الحاضر على شواهد التاريخ في انعكاس مرآوي، وهو ما يجعل المتلقي في حالة ارتباك وقلق يتطلّبان منه شدة التركيز، وقوة الربط، وردّ الحدث اللاحق على السابق، حتى يتسنى له الإحاطة بمعالم السرد الروائي.
( و ما العمل شوقيا.. مالعمل؟) ص47
المكان في الرواية هو المكان اللفظي “التخييلي”؛ بمعنى أدقّ، هو المكان الذي ترسم