الذهاب الى المستقبل وصناعة الفائق

  • أمس, 16:24
  • مجلات الاتحاد
  • 13 مشاهدة

الذهاب الى المستقبل وصناعة الفائق 

علي حسن الفواز 

 

 

ما بين الليبرالية الجديدة والكتابة الجديدة تتخفّى ملامح عالم جديد، يملك استعدادا شرهًا للتحول، ورغبةً في التخلص من بعض ذاكرته، ومن دسمِ مثاليته، ليبدو عالمًا مندفعًا الى مقاربة مستقبل سائل، باحث عن "كينونة متعالية، أوعن وجود يتجاوز عقد النهايات الميتافيزيقية، إلى بدايات، أو ربما إلى اغترابات  لها بطلها الخارق، وخطابها المغاير، وهوسها في إعادة ترتيب بنى الانطولوجيا من خلال إعادة النظر بالأفكار التي تُعنى بمفاهيم الزمن والمكان والآخر، وبمفاهيم السرد والتاريخ، مقابل الانكشاف على صدمات، وخروقات تتعرّى فيها سحرية تلك المفاهيم، وعلاقتها بأطروحات"الإنتاج والتلقي الثقافي" وعلى نحو يجعلها تفضح ما صنعته الأيديولوجيات والثورات من عنف زائف، ووعي زائف، وحداثة زائفة، ومن خيانات في التدوين، وعلى نحوٍ جعل من فكرة مستقبل الثقافة قرينة بنزع "المقدس" عنها، وصولًا إلى التمرد عليها، وعلى فكرة "حارس البوابة" و" حارس المكتبة" وطردهما من التاريخ، ومن الأيديولوجيا، ومن الهوية، مقابل الانفتاح على إحالات ثقافية تنتمي إلى "مغايرة" مفارقة، يتراجع فيها الواقعي إلى الافتراضي، وتحويل نظام الشبكات ورقمنتها إلى مجال يتسع ل"التعزيز التكنولوجي- الثقافي" القائم على إعادة النظر بمفهوم "الإنسان" ليس من خلال إعادة إنتاج موضوعة "موته" كما أراد فوكو، بل من خلال ربطه بالحياة السيبرانية، التي تتنامى مع تنامي علاقته بمجموعته الثقافية، بوصفها مجموعة عصابية جديدة، لها قابلية إنتاج الرموز والشفرات، والتوسع بعالم الظواهرية على حساب ما كان قد طرحه دوسوسير في "اللغويات البنيوية" ولكي يكون مناهضا للنظريات الثورية، ولأطروحات الانثربولوجيا، وربما يدفعنا إلى اطروحات دولوز حول "الاختلاف" الطارد للتماثل، ولكل ما تصنعه الأيديولوجيا من ضواغط وضوابط تفرض على الكتابة ما يسميه فيرلينو ب "استراتيجية الخداع" التي تصنعها الأنظمة الكبرى، أنظمة المعلومات السيبرانية التي تملكها دول الرأسمال الفائق، وإلى ما تصنعه من مهيمنات تجعل من موضوع التصالح مع الواقع أمرًا يرتبط بالانتصار عليه..

الدخول إلى المستقبل لم يعد معنيا بالدخول إلى أنساق "ما بعد الحداثة" بل بتجاوزها، والذهاب إلى البحث عن "حداثة فائقة" تتمثلها سلطة متعالية تملك القدرة على إعادة النظر بمركزة النظام العالمي، في السوق وفي المدرسة وفي المشفى، وحتى في اللغة، لأن هذه السلطة هي الوحيدة التي تملك طاقة تمرير تلك الاستراتيجية، وضبط إيقاع الاختلاف الدولوزي، وما على اللغة إلا أن تجدد خطابها من خلال التمرد على تاريخها، لتجد في المستقبل مجالا لمواجهة عالم ما هو ثابت، يتحول فيه المتحرك إلى قوة طاردة، وإلى ممارسة ثقافية، تتجاوز كثيرا من البداهات، بما فيها بداهة الجمهور الذي صنعته أيديولوجيا النص، وبداهة الثورة التي صنعها الحلم، وبداهة الحداثة التي صنعها الفشل في إدارة العقل والنظام الاجتماعي، وحتى بداهة "الذات" التي صنعت تشوهاتها مؤسسات التنشئة الاجتماعية.

تجاوز هذه السياقات يرتبط بالانخراط في ممارسة فائقة، عبر تغذية الثقافة بالوسائط، وعبر التعالي في مواجهة الاغتراب الداخلي، اغترابات الهزائم القومية، وحتى المثيولوجية، ومراجعة ما هو قهري مع النسخة الليبرالية من الرأسمالية، لأن مواجهة هذا الاغتراب تعني مواجهة الفصام مع المستقبل، ومع ما هو توليدي في الفنون والمعارف، حيث تأخذ من الفلسفة والشعر والسرد والموضة والإعلام والمتخيل لتصنع أشكالا وأنساقا فائقة للاندماج، وللتحقق في زمن ثقافي تنمو فيه اللغة الثقافية عبر الوسائط، بوصفها الصانع الخارق لفكرة المستقبل...

هذا  المستقبل يمكن أن يكون مرهونًا بخطورة ما يمكن أن تصنعه الخوازميات من أوهام، ومن صراعات لها حمولاتها المركزية، لكنه سيكون أكثر خطورة مع تنامي لا مركزية الاستهلاك، فالمجتمع المستقبلي سيكون مجتمعًا استهلاكيًا في كل شيء، في الجنس والسياسة والأفكار، مثلما أن البطل الثقافي رغم مركزيته، سيتحول إلى صديق متواطئ مع الروبوت، عبر العيش التضايفي مع الذكاء الاصطناعي، فبقدر ما أنه لم يعد يفكر بالثورة ولا بالصراع الطبقي، ولا حتى بالأيديولوجيا وبوعيها المزيف، لكنه سيجد نفسه جزءا من جنس فائق، جنس سايبيري يملك طاقة التجاوز والاستبدال، عبر إنتاج سرديات مضادة، لا تاريخ لها، لكنه  يعيش معها إحباطات العنف الطبقي بتوصيف ماركس، وإحباطات العنف الرمزي بتوصيف بورديو. 

سؤال المستقبل سيظل سؤالا مدهشًا، عابرا للأنطولوجيا، وعابرًا لتوصيفات البطل الثقافي، أو لصانع الثقافي، ليس لأنه سؤال لا حدود له، بل لأن الإجابة القارة عنه ستكون ذهابا إلى اغتراب آخر، مثلما ستكون نقدا ومراجعة لكل المفاهيم التي ارتبطت بالحداثة وما بعدها، وارتبطت بالأيديولوجيا والثورة والعقلانية، وعلى نحو أنتجت لنا تاريخا مهيمنا، ونصوصا ظلت تتمرأى بها "الذات الحداثوية" وهي تعيش ازماتها في الحروب والمركزيات، لكنها وجدت نفسها في منافسة غرائبية، حيث فقدت مركزيتها إزاء عالم المستقبل السيبراني، وانماط ذكائه الاصطناعي، وتاهت وسط تنامي وظائف وسائطه التي تحولت إلى سلطة فائقة، لها تمثيلها البرغماتي في صناعة الخطاب، وفي صياغة علائق وحتى اندماجات، باتت لا تنفصل النظام العالمي الجديد، والذي يمكن أن يكون فاشيًا، أو متطرفًا، قد تتراجع فيه أداء الديمقراطيات، وحتى "العقلانية التنويرية" ومفاهيم التعدد والتنوع والعدالة والتضامن، لكنه سيظل هو البراديغم المتعالي لمفهوم المستقبل الذي ننتظره مجبرين عبر ما تصنعه سلطة وسائطه في سحريتها الفائقة.