الرواية العربية المعاصرة بين الواقع وتجاوزه نحو المستقبل

  • أمس, 14:54
  • مجلات الاتحاد
  • 11 مشاهدة

الرواية العربية المعاصرة بين الواقع وتجاوزه نحو المستقبل

د. علي محمود أحمد

 

نلاحظ أنَّ تطوّر الرواية العربية فنيًّا – منذ مطلع القرن الماضي وحتى اليوم– يسير بالتوازي مع تطوّر الواقع العربيّ؛ لذا لا يمكن الفصل بينهما ؛ لأنهما وجهان لعملة واحدة. وقد مرَّت الرواية العربيّة بثلاث مراحل رئيسة ، كانت في كلّ مرحلة تُطوِّر أدواتها وأساليبها بحسب مقتضيات الواقع وقضاياه ومستجدّاته التي كانت تُعبِّر عنها والتي كانت تفرض عليها التحديث والمواكبة في الأدوات الفنيّة الصياغيّة .

فــــ( المرحلة الأُولى ) : سُمِّيت ( مرحلة الرواية التقليديّة ) ومصطلح "التقليديّة" ليس تهمة أو انتقاصًا ، إنما وصف لوقائع فنيّة معيّنة في بنائها وأُسلوبها وأهدافها ، وتشمل تلك المرحلة النشأة والتأسيس والبدايات للرواية العربيّة في قالبها الغربي .

أمّا ( المرحلة الثانية ) فهي مرحلة ( الرواية الحديثة ) : وتُمثِّل مرحلة ما بين الحرب العالميّة الثانية حتى نكسة 1967، إذ صارت الرواية العربيّة قادرة على تحليل الواقع وتفسيره والتعبير عن قضاياه ، وكانت الرواية تلبيةً لقيمٍ جماليّة مستجدّة انتقلت بها من مرحلة البساطة والمحاكاة إلى مرحلة النضج الفنيّ ، إذ كانت تجسيدًا لوعي فنيّ متطوّر ولمفاهيم أدبيّة ونقديّة ذات صلة بوظيفة الرواية وماهيّتها وعلاقتها بالمتلقّي ، فكانت ذات بناءٍ متكامل على مستوَيَين : طبيعة العناصر الروائيّة من جهة ، وعلاقتها بالواقع العربيّ والنتاج المحليّ والعالميّ وجمهور المتلقّين من جهة أُخرى .

أمَّا ( المرحلة الثالثة ) فهي مرحلة ( الرواية الجديدة ) : فهزيمة أو نكسة 1967 تُعدّ بمنزلة الحدّ الفاصل بين مرحلتين من مسيرة الرواية العربيّة ، فمع الهزيمة سقطت ثوابت كانت راسخة في الفكر والمجتمع العربيّ ، وتخلخلت النُظم السائدة ، واهتزّت قيم فكريّة كثيرة بما فيها القيم الفنيّة والجماليّة في الفنون عامّة والرواية على نحو خاصّ ، مّما هيَّأ مناخًا أدبيًّا جديدًا يبحث عن خلق شكلٍ روائيّ جديد بعناصر وطرق وتفاعلات ذاتيّة وموضوعيّة وفلسفيّة وقيم فنيّة جديدة ، فجاءت الرواية في تلك المرحلة تعبيرًا فنيًّا عن حِدّة الأزمات المصيريّة التي واجهت "المثقّف" العربيّ بعد الهزيمة ، فصار هناك شعور بالغموض يعتري صورة الواقع وغدت الذات المثقّفة تشعر بالتلاشي والحيرة وتشظّي المنطق المعتاد ، فغدت أدوات الصنعة الروائيّة التي كانت تُستعمل في المرحلة السابقة غير قادرة فنيًّا على التعبير عن الواقع المستجدّ - آنذاك – فكان لا بُدَّ من اللجوء إلى فعل إبداعيّ يُعيد النظر في كلّ شيء وتأسيس ذائقة فنيّة جديدة ووعي جماليّ جديد .

     ولا يوجد – في تصوّرنا – حدث في التاريخ المعاصر للمنطقة العربيّة أثَّر فيها على نحوٍ كبير جدًا، وكان له أبعادٌ دوليّة وإقليميّة ومحليّة مثل ( الربيع العربيّ ) الذي أدخل المنطقة في مرحلة جديدة صار كلّ شيءٍ فيها مختلفًا عمَّا كان عليه في السابق على مختلف الأصعدة بما في ذلك الأدب ولاسيَّما الرواية ؛ كونها الجنس الأدبيّ الأكثر قدرة على التعبير عن مستجدّات الواقع؛ لذا ستكون هذه المرحلة المعيشة هي ( المرحلة الرابعة ) من تاريخ الروايــة العربيـّة ( رواية الربيع العربيّ وما بعده ) . ففيها انهارت البُنى الإنسانيّة كُلّها تقريبًا ( السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والفكريّة والأخلاقيّة والثقافيّة ) وتشكَّلت من جديد على نحوٍ ليس فيه من ملامحها السابقة إلاَّ ظلالًا باهتة ، وكأنَّما البركان أسفر بعد خموده عن تضاريس جديدة لا تمتّ بِصِلةٍ إلى ما كانت عليه سابقًا . 

     وحدث ذلك على نحوٍ مُتسارع جدًا وفي مُدَّة وجيزة لم تبلغ عقدًا واحدًا، فكلّ الخطابات التعبيريّة تشكّلت خصائصها من جديد بما فيه الخطاب ( الروائيّ ) الذي لم يستطع أن يستوعب مستجدّات الواقع العربيّ ويواكب تغيّراتها السريعة بأدواته وأساليبه القديمة ، فالصيغ والأدوات البنائيّة الفنيّة كُلّها التي وظِّفت في معماريّة الرواية العربيّة في المراحل السابقة لم تكن لها الفاعليّة الكافية للتعبير عن الواقع الجديد ومستجدّاته ، لذلك نلاحظ في هذه المرحلة أنّ بعض الأعمال الروائيّة الجيدة تنأى عن الخوض في الواقع العربيّ المستجدّ ، فقد تعود إلى التاريخ لتستوحي منه موضوعات يمكن التعبير عنها بأدوات وتقانات فنيّة قديمة نسبيًا مثل روايات ( موت صغير، ودروز بلغراد ، وخاتون بغداد ، وعزازيل ، وفرقدان ، والأمير مسالك أبواب الحديد ، والديوان الاسبرطـــي ) وغيرها ، أو تستخدم أدوات وتقانات المرحلة السابقة في تشييد عوالم مستوحاة من مرحلتين : مرحلة الربيع العربيّ والمرحلة السابقة لها التي يكون لها الحيِّز الأكبر في العمل؛ لتوفّر عناء المواكبة والبحث والابتكار لتقانات جديدة مازالت في طور الاكتشاف والتشكُّل مثل روايات   ( سيّدات القمـر، وساعة بغـداد ، والحفيـدة الأمريكيـّة ، والنبيـذة ، وحدائق الرئيس ، والسندباد الأعمى ) وغيرها . 

       فكان من الضروريّ أن تصوغ الرواية العربيّة لنفسها في هذه المرحلة – مستفيدة من التراكمات الفنيّة السابقة – خصائص فنيّة تميُّزها عمَّا كانت عليه في السابق وتوفّر لها القدرة على التعبير عن مستجدّات الواقع ، وهذا ما انبرت له نخبة مميّزة من الروائيّين العرب الذين بدأوا البحث عن وسائل فنيّة وأساليب مبتكرة وفعَّالة لها القدرة على التعبير عن الواقع العربيّ المستجدّ المعقّد المتأزّم على نحوٍ مقبول فنيًا وسياقيًا ، وكان من أهمّ تلك الوسائل والأساليب المبتكرة ( القفز على الزمن والخوض في المستقبل ) ، واللجوء إلى هذه التقنية له بُعدان رئيسان : فنيّ ، وسياقيّ .

 فعلى المستوى الفنيّ ، لم يكن لهذه الخاصيَّة الفنيّة وجود فيما مضى من مراحل الرواية العربيّة على النحو المتطوّر الذي توجد عليه الآن في هذه المرحلة ، فـــ( واسيني الأعرج) مثلاً في روايته (2084 حكاية العربيّ الأخير ) وظَّف تقنية الاستباق ليس كما هـــــــو متعارَفٌ عليـــــه عنـد ( جيرار جينيت) بل على نحوٍ أكثر تطوّرًا ، فـــ ( الاستباق الزمنيّ ) لم يعد عند واسيني نوعًا من ( المفارقة الزمنيّة ) بين زمَنَيّ القصّة والخطاب ، بإيراد حدثٍ لاحق على النقطة الزمنيّة التي بلغها السرد للتنبُّؤ بمستقبل الأحداث بالقفز على مدّة زمنيّة من زمن القصّة وتجاوز النقطة التي وصلها زمن الخطاب ، إنّما القفز على الزمن صار نقلًا لزَمَنَيّ القصّة والخطاب معًا إلى زمن مستقبليّ ، فصارت أحداث القصّة تدور بالمستقبل والخطاب الذي يصوغها يدور في المستقبل أيضًا وهذه الخاصيّة لم يكن لها وجود في الرواية العربيّة من قبل ، وكان لذلك أثر كبير في فسح مجال واسع للتعبير عن أكبر قدر ممكن من الأفكار والرؤى والتصوّرات ؛ لأنّ المستقبل مساحة زمنيّة افتراضيّة مفتوحة على احتمالات كثيرة ، وذلك يوفِّر للروائيّ فضاءً رحبًا للتعبير عن قناعاته وأفكاره ومواقفه ،  فالمستقبل المأساويّ الذي افترضه ( واسيني الأعرج ) للعرب بعد مئة عام تقريبًا لم يُدهش القارئ السوريّ أو الليبيّ أو العراقيّ أو اليمنيّ أو المصريّ ؛ لأنّ واقعه المعيش وما عاناه من مآسٍ وويلات لا تقلّ سوءًا عمَّا سيعانيه في مستقبله المأساويّ " المُفترض". ولكن في الوقت نفسه إنّ استعمال هذه الخاصيّة ليس بالأمر اليسير؛ لأنّ الكاتب يكون بحاجة إلى خيال فنيّ ومعرفيّ واسع ليتمكَّن من تأثيث عالمٍ افتراضيّ لا وجود له على نحوٍ مقنع ومنطقيّ يحظى بالقبول عند المتلقّي ، وهنا نعتقد أنّه كان للسينما دور مهم في تيسير استعمال هذه الخاصيّة عن طريق الإفادة مما أُنتج من أفلام الخيال العلميّ.  وهذه الخاصيَّة تجسّدت عند روائيين عرب كُثر، فبثينة العيسى أيضًا في روايتها (حارس سطح العالم) اقتحمت المستقبل مُعارِضةً مجموعة أعمالٍ كلاسيّة على رأسها رواية (451 فهرنهايت ) لراي برادبيري . فغدت خاصيّة ( ولوج المستقبل ) من التقانات الفنيّة المستحدثة والمتطوّرة في الرواية العربيّة المعاصرة إذ وِظِّفت في نصوص روائيّة كثيرة لخدمة أغراض فكريّة وأيديولوجيّة مثل رواية ( موسم صيد الغزلان ) لأحمد مراد ، و(حرب الكلب الثانية ) لابراهيم نصر الله وغيرها من الأعمال الروائيّة العربيّة المعاصرة الأخرى .

أما على المستوى السياقيّ فكان للبعد السياسيّ العربيّ دور كبير في توظيف تقنية أو أسلوب ولوج المستقبل، فالفكر العربيّ صار إزاء وضع سياسيّ جديد مُعقَّد متأزّم مُتداخل في معطياته وسياقاته في مرحلة الربيع العربيّ وما تلاها ، وغدا التعبير عنه أو تجسيده وتقديمه في الخطابات التعبيريّة - ولاسيّما الخطاب الروائيّ - على نحوٍ موضوعيّ محايد أمرًا عسيرًا جدًا، لتداخل المواقف والتوجّهات السياسيّة وتعقُّدها . ومن ثمَّ انعكس تأثير هذا الوضع السياسيّ الجديد على نتاجات العقل العربيّ ولاسيَّما النتاجات الأدبيّة التي عملت بجدٍ كبير لمواكبة تلك المستجدّات السياسيّة والتعبير عنها، وكانت الرواية العربيّة المعاصرة أكثر الأجناس الأدبيّة تأثُّرًا بالوضع السياسيّ العربيّ الجديد وتوغُّلًا في مضامينه ، ومن ثمَّ صارت " مُسيَّسة " رغمًا عنها؛ لأنَّ سياق الحياة في المنطقة العربيّة بكلّ مجالاته وأصعدته غدا مسيَّسًا على نحوٍ عامّ . 

     وبما أنَّ الواقع العربيّ المعيش في العقدين الماضيين يؤكّد أنَّ النتائج التي أسفرت عنها ممارسات النظام السياسيّ العربيّ الجديد كانت سلبيّة وتبعاتها كانت وخيمة على المنطقة العربيّة ؛ لذا نجد الرواية العربيّة - في نماذجها المتميّزة  ولاسيَّما الروايات التي انتهجت أُسلوب ولوج المستقبل – كانت ذات طابعٍ رمزيّ سياسيّ نقديّ مُعارض ، وهذه أبرز خصائص تلك الأعمال الروائيّة على المستوى الموضوعيّ ، فصار كُتَّابُها بالنسبة لقرَّائهم وجمهورهم مُرشدين معرفيّين ونقَّادًا سياسيّين عن طريق ما يُمرِّرونه في نصوصهم من مواقف وتصوّرات .

     والخوض في السياسة بأُسلوب نقديّ مُعارض محفوف بمخاطر عديدة ، فالروائيّ الذي يخوض في السياسة على نحوٍ نقديّ مُعارض للسلطة القائمة لا بُدَّ أن يأخذ بالحسبان أنَّه يُمرّر في أعماله رؤى سياسيّة " غير بريئة أو غير نقيّة " ، وهو بذلك يخوض مغامرة غير مأمونة العواقب ، ولاسيَّما في ظلّ نظام سياسيّ متأزّم مُعقَّد ، إذ تكثُر السلطات المُتحكّمة المستبدّة ذات الرؤية الأُحاديّة التي لا تقبل الاختلاف والاعتراض ، وقد ترى في عمله نوعًا من المعارضة الفكريّة ، وقد يجرّ عليه ذلك مخاطر كثيرة تصل بعض الأحيان إلى درجة التصفية الجسديّة ، فثمَّة روائيّون عرب في السنوات القليلة الماضية دفعوا حياتهم ثمنًا لمواقف مناهضة للسلطات القائمة فــــي مجتمعهم ؛ بسبب رؤى ومواقف قدَّمــــوها في أعمالهم ، فالروائـــي العراقـــيّ الراحل (عـــــلاء مشذوب ) اغتيل عام 2019 على خلفيّة مضامين سياسيّة وأيديولوجيّة قدّمها في أعماله ، وهناك روائيّون كُثر في تاريخ الرواية العربيّة تعرَّضوا للإرهاب والاضطهاد من السلطات السياسيّة القائمة في المنطقة العربيّة مثل طه حسين ونجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف وصنع الله إبراهيم ومؤخرًا كمال داود وأحمد سعداوي وبثينة العيسى، لذا صار الولوج إلى المستقبل أسلوبًا روائيًا يضمن للروائيّ العربيّ المعاصر الخوض في موضوعات ( سياسيّة ) حسّاسة وهو بمأمنٍ من المخاطر المترتّبة على نتاجاته الفنيّة لو قدّمها بأسلوبٍ واقعيّ مباشر، فصار ولوج المستقبل يساعد على تمرير كثير من الرؤى والتصوّرات والاسقاطات والمواقف السياسيّة وهو في مأمنٍ إلى حدٍ كبير من ردّ فعل السلطة السياسيّة العربيّة القائمة تجاه نصوصه الروائيّة التي تُعد نتاجًا فكريًا بالمقام الأوّل في العالم العربيّ ، لأنّه يموِّه رؤاه ومواقفه السياسيّة – المعارضة غالبًا – بالولوج إلى المستقبل ليحظى بأكبر قدرٍ ممكن من السلامة والأمان في بيئة وواقع مضطرب غير مستقرّ .