ذكريات من زمن الإنسان
حسين محمّد شريف
خرج آدم من مكتبه المعلّق في الفراغ بعد أن أنهى عمله لهذا اليوم من إحدى سنوات 2125 ذلك الفراغ الذي صار سمة من سمات عصره الرقميّ في مدينة الضوء، الحيّ الأخير من أحياء بغداد. لقد كانت المدن تسبح في الفضاء مثل نجوم مشبعة بالضوء ولكنّه ضوء صامت إلّا من الوهج.
وصارت اللغة أيضًا شيئًا ثانويًّا في المدينة كسائر مدن العالم حين طغت الرقمنة على كلّ شيء. ولم يعد للكلام حضور يذكر فالجميع يتبادل الأفكار عبر إيموجيّات ورموز تختزل القلوب والعواطف وتحيلها إلى شيء بارد يخلو من الدفء. فقد كان كلّ فرد يحيا في هذا الجحيم الذي يدعى مدينة رقميّة عبارة عن كلمة مرور ورقم سرّيّ أكثر منه ذاتًا تحيا بقلب حيويّ مليء بالحبّ. كان كلّ شيء خاضعًا للحوسبة: العائلة ، الحبّ ، الطعام ، المال ، التأمّل ، الجنس... إلى ما لا نهاية من الأشياء.
يعمل آدم مديرًا لشعبة أرشيف الذاكرة التي تُعنى بتحديث بيانات المواطنين بين حين وحين للتأكّد من أيّة متغيّرات. لقد صارت أصابع الناس قصيرة ومسطّحة في نهاياتها فضلاً عن اتّساع أوراكهم جرّاء العمل على الهواتف والحاسبات والجلوس الطويل. وكذلك صارت العوينات الطبيّة متلازمة مطلقة مع من هم بعد العشرين كما صار الصلع ثيمة روح العصر بالإضافة إلى تضخّم الركبتين. فيما صار الورق نسيًا منسيًّا في متحف الذاكرة للتاريخ القديم في بغداد. وهو متحف لا يزوره الناس وإنّما تضع فيه الحكومات تاريخ البلد تحت رقابة مشدّدة فقط من أجل التوثيق ، لأنها تدرك مقدار الحنين الذي سيستحوذ على الناس إذا ما شاهدوا ذكريات ذلك العصر الزاخر بالمحبّة. كانت الأوامر صارمة بخصوص حجب كلّ ما يمتّ بصلة لعصر ما قبل الرقمنة.
توجّه آدم إلى بيته المعلّق في الفراغ أيضًا عبر طوّافة النقل الرقميّة التي تدعى عربة الضوء موديل 2123 وكان في وقت سابق قد قرّر استبدالها بأخرى أحدث. وأثناء انطلاقه جاءته مكالمة عاجلة عبر وميض العربة لتتحوّل إلى الشاشة المواجهة له حين كان منشغلاً بالردّ على بعض الرسائل التي تخصّ العمل لأنّ عربة الضوء تمضي قُدمًا دون سائق فهي دليل عملها ذاته.. وجد مدير دائرة الذاكرة السيّد وميض متحدّثًا إليه وموجّهًا بضرورة الذهاب غدًا إلى مقرّ متحف الذاكرة الوطنيّ لإيداع تحفة قديمة وصلت إلى الدائرة إثر التنقيب في جنوب البلاد بحثًا عن المعادن. وهي المهمّة الأولى لآدم بعد استلام عمله مديرًا لقسم أرشيف الذاكرة بعد موت سلفه قبل أسابيع.
في هذا العالم البارد ، عاش آدم مُفرغًا من أيّة عاطفة شأنه في ذلك شأن الجميع إذ كان يخرج صباح كلّ يوم محمّلاً بهاتفه اللصيق بين يديه إلى عمله ولا يعود إلّا في حدود العصر لينام لبرهة ثم يعدل إلى هاتفه مجدّدًا. كانت حياته تُختزل بين الرموز والأرقام والصور ومقاطع الفيديو بشكل رتيب. ولم يكن للزواج أهميّة تذكر فنسبة كبيرة من الناس يعزفون عنه مستبدلينه بالزواج من الربوتات التي تؤدّي كلّ مهام الزوجة. وكان آدم واحدًا من أبناء هذا الخراب مّمن ذهبوا هذا المذهب لكنّه لم يتزوّج بعد لأنّه ينتظر عروسه الروبوت المُحدّث الذي بدأ المجمّع الصناعيّ العالميّ المدعو XYZ يُعلن عنه مؤخّراً وهي عروس بامتيازات إضافيّة. لقد ساهمت مؤسّسة The new religion of humanityالعالميّة واختصارها TNRHبدفع الحياة إلى مسافات لم تكن تخطر ببالها ، وهي تقود كوكب الأرض من مقرّها في الدولة الماكرة . بحيث صارت دينًا جديدًا فعلاً كما عبّرت عن نفسها وأخرجت البشريّة عن مسارها الطبيعيّ.
وعلى الرغم من أن آدم تسنّم مهمّة تتعلّق بالذاكرة غير أنّه لم يكن معنيًّا بما مضى من الذكريات إلّا في حدود أرشفتها فلا وقت لديه للتأمّل فيها أو حتّى النظر إليها. فقد كان الجميع مشغولين بأمور تخصّ اكتشاف المزيد من الإشارات التي تعوّض عن الكلام أو تعديل الأفاتار الخاصّ بكلّ منهم بما يضمن المزيد من الشعور بالعزلة.
عند ذلك الصباح الذي ذهب فيه آدم لاستلام الأثر وإيداعه في متحف الذاكرة قرّر لأوّل مرّة وبشكل مفاجئ أن يتأمّل في المكان بنحو فاحص ليطّلع عمّا كان يفكّر فيه الأسلاف. استلم الأثر المغلّف بعناية جيّدة وذهب به إلى المتحف وبحكم تخويله في البقاء أو تفحّص بعض المودعات من باب الإدامة أو التعديل قرّر أن يبقى. كان فضوله بمثابة إشارة من مكان مجهول عسى أن يكتشف ما أهمله التاريخ والمجتمع. وبينما كان يفرز مجموعة من البيانات القديمة المودعة في المكان بحرص بالغ ، عثر على شيء لم يكن من المفترض أن يكون هناك . عثر على دفتر ورقيّ مُصفرّة أوراقه وكان غريبًا على آدم أن يرى شيئًا كهذا وسط عوالم البيانات الرقميّة. حمل الدفتر بين يديه ، وشعر بخشونة غلافه المتهالك . وعلى الغلاف كُتب بخطّ الحاسبة شريط ألصقت فوقه عبارة) ذكريات من زمن الإنسان).
فتح آدم الدفتر بحذر وكأنّه يفتح بوّابة إلى عالم آخر. كانت الصفحات مليئة بخطوط يدويّة غير منتظمة ، لكنّها نابضة بالحياة . الكلمات الأولى التي قرأها جعلت قلبه ينبض بشكل غير مألوف )كان صباح بغداد يبدأ برائحة الخبز الطازج وصوت الباعة وهم ينادون في الأزقّة. الجيران يتبادلون التحايا من الشرفات ، وأكواب الشاي تُقدّم بحرارة القلوب بين بعضهم بعضًا) ودوُّن أسفل الورقة تاريخ يشير إلى بداية عام 2025.
توقّف آدم للحظة حين صار أمام مفهوم الجيران الذي كان غريبًا عليه في عصره ، عصر الضوء إذ لم يكن يوجد هناك شيء اسمه الجيران . فالجميع يعيشون في وحدات معزولة والعلاقات تُدار عبر الشبكات الرقميّة فقط. ابتسم بمرارة وهو يقول في نفسه ( كم يبدو هذا بسيطًا وجميلاً ؟! ) واستمرّ يقلب بالصفحات وغاص فيها ليقرأ وصفًا لحفل زفاف ) الزفاف كان فرصة لتجمّع القلوب قبل الأجساد. كانت الموسيقى تملأ الهواء ، والرقص يعبّر عن فرح صادق . الضحكات تتعالى ، والأحاديث تتشابك كأنّها أنغام متداخلة(
شعر بشيء يتحرّك داخله. كان من الصعب عليه تخيّل مشهد كهذا في عالمه الرقميّ ، في زمنه الصارم الذي لا فسحة فيه إلّا للشاشات ، فالحفلات كانت تُقام افتراضيًّا ، حيث يضع كلّ شخص نظّارته الرقميّة ويرقص وحيدًا في غرفته. استمرّت تساؤلات آدم مع كلّ صفحة يقرأها لتنمو داخله تساؤلات جديدة . بدأ يتساءل عن معنى الحياة في عصره . لماذا اختفت العلاقات الحقيقيّة ؟ كيف يمكن أن يضحك الناس أو يشعرون دون وسيط رقميّ؟ سيّما حين قرأ في إحدى صفحات الدفتر( جدّي كان يقول دائمًا لا قيمة للحياة دون حديث مع الجار. أو الحضور إلى مأتم أو مأدبة طعام في شهر رمضان لقد كان كوب الشاي الذي نتشاركه يحمل دفء العالم كلّه ).
تأمّل في هذه العبارة طويلاً. كانت حياته خالية من الدفء. فالمشاعر في عصره كانت مجرّد إشارات رقميّة تُرسل وتُستقبل دون حرارة . وعاد محبطًا إلى شقّته دون أن يتبادل الحديث مع صديق العمل الذي حاول أن يعرف منه سبب الضجر الذي يعانيه ولكن دون جدوى.
في اليوم التالي ، قرّر آدم أن يطرح أسئلة على نظام الذكاء الاصطناعيّ الذي يدير خزانة الضوء. في شعبة أرشيف الذاكرة بعد أن وقف أمام الشاشة الكبيرة وسأل :
- لماذا توقّف البشر عن استخدام الورق؟
أجاب النظام بصوت بارد:
- لأن الورق غير فعّال. الرقمنة توفّر الوقت والموارد.
فأضاف آدم مستنكرًا:
- لكنّها... أليست أقلّ إنسانيّة؟
صمت النظام للحظة ، ثمّ قال:
- الإنسانيّة ليست شرطًا لتحقيق الكفاءة. هكذا علّمنا إلهنا إيلون ماسك.
شعر آدم بالصدمة. هل كان هذا هو الثمن الذي دفعته البشريّة مقابل الكفاءة ، أن يفقدوا إنسانيّتهم ؟! هل ما سعت إليه (الدولة الماكرة) وتوابعها هو تحطيم مشاعر الناس والدفع بهم نحو الهلاك؟ إلى أين يمضي البشر؟ وأنّى لهم النجاة من سطوة هذا الاحتيال الذي مرّ عليهم بهدوء غريب؟
قرّر آدم الاحتفاظ بالدفتر لنفسه ، رغم أن هذا كان مخالفًا للقوانين لأنّ هاجسًا نما في داخله وكأن صوتًا يدعوه إلى التمرّد. بدأ يقرأ فيه كلّ ليلة ، ويغوص أكثر في تفاصيل الماضي. قرأ عن أسواق بغداد القديمة ، عن الأحاديث العفويّة ، عن الحبّ الذي كان يولد من نظرة أو كلمة. عن الأمّهات حين يخبزن قلوبهنّ في تنّور الحياة ، عن عودة الأب من العمل محمّلاً برائحة السمك والفاكهة وحبّ العائلة ، عن المدارس الورقيّة وطبيعة الواجبات البيتيّة ودرس التربية الفنيّة ، عن الغناء والمسرح والأدب ، عن غائب طعمة فرمان وعبد الملك نوري والروائي خضيّر فليّح الزيدي والقاص رياض داخل الذي كان ناشرًا فذًّا في صناعة الكتاب ، عن كلّ تلك الأشياء التي بدت له وكأنّها خرافات ، لكنّها أشعلت داخله رغبة لفهم هذا العالم الذي فقده البشر.
في إحدى الصفحات الأخيرة ، كتب صاحب الدفتر) وسيأتي يوم قد ننسى فيه كلّ هذا. قد تتحوّل حياتنا إلى أرقام وبيانات ، ولكنّني أؤمن أن الإنسان في أعماقه لن ينسى الحاجة للحبّ والدفء) لم يكتفِ آدم بالقراءة فقط. فبدأ يتساءل عن حياته اليوميّة. في خزانة الضوء ، كان يمرّر يديه على الملفّات الرقميّة المضيئة ويفكّر ( هل كلّ هذه المعلومات تكفي لفهم الحياة ؟ ). ولم يكن يجد إجابة. ذات يوم وأثناء عمله قرّر استكشاف أرشيفات لم يكن مسموحًا له بالدخول إليها لكنّه تجاسر في وجه اللوائح واقتحمها. اكتشف ملفّات قديمة تحتوي على صور، مقاطع صوتيّة ، وفيديوهات لأناس يتحدّثون بلهجات دافئة ، يضحكون من قلوبهم ، ويبكون بحريّة. يتأمّلون في السماء ، يراقبون هطول المطر بمتعة كبيرة ، يركضون بصخب ، يضحكون، يقبّلون بعضهم بعضًا......
في إحدى الفيديوهات التي توثّق حياة البغداديّين شاهد امرأة مسنّة تقول( أكبر نعمة في الحياة هي أن ترى عيون من تحبّهم يوميًّا) وشابًّا مراهقًا يحلم بغد أفضل وهو يقول ( لا يوجد أفضل من صديق تُسرّه بثقة) وثمّة شابّة تضحك وتقول( كان يغازلني بخجل بان على عينيه) ورجلاً يحمل طائرة ورقيّة جلبها هديّة لابنه( لا بد للآباء أن يتذكّروا أعياد ميلاد أبنائهم ). كانت تلك الكلمات صاعقة لآدم الذي بدأ يشعر وكأنّ النظام الذي يعيش فيه يحرمه من تجربة الحياة الحقيقيّة.
جلس آدم في غرفته الصغيرة المطلّة على المدينة الرقميّة المعلّقة. كان يرى من نافذته الأضواء الباردة للأبراج العالية ، لكنّ قلبه كان مع الدفتر. أمسك بالقلم الذي أخذه سرًّا من متحف الذاكرة وهذه أوّل مرّة يستخدم فيها قلمًا في حياته وبدأ يكتب. كانت الكلمات بطيئة وتتعثّر أحيانًا ، لكنّه كان يشعر بشيء ينبض داخله. كتب ( اليوم اكتشفت شيئًا مختلفًا. قد لا يكون له اسم في عصرنا ، لكنّه يحمل طعم الحياة . ربّما كان هذا ما يُسمّى بالإنسانيّة) ومع كلّ كلمة يخطّها ، كان يشعر وكأنّه يعيد بناء جسر بين ماضي البشر ومستقبلهم. كان يعلم أن ما يفعله لن يغيّر العالم ، لكنّه أدرك أنّه بدأ رحلة طويلة نحو فهم جوهر الإنسان. مرّت أيّام تلتها أيّام وبدأ آدم يشارك اكتشافاته مع زملائه. بعضهم سخر منه ، لكنّ آخرين أبدوا اهتمامًا.
بدأ مجتمع صغير يتكوّن حول فكرة استعادة الدفء في عالم كانت البرودة الرقميّة تسوده ، لقد قرّر آدم التمرّد على آلهة عصره والعودة إلى ذكريات زمن الإنسان مع إدراكه بأنّ مثل هذا التمرّد سيكون ثمنه فادحًا. وبدأ يدعو إلى إحياء سنن الحياة الطبيعيّة وأن يغادروا الخُدع التي أسّستها ( الدولة الماكرة) ونبيّها ماسك حين حوّل الروح إلى جماد.
وصلت الأنباء إلى مسامع سلطة المدينة واتّخذ القرار الفوريّ بشطب آدم من الوجود لأنّه يمثّل خطرًا على استمرار الحياة في بغداد ، سيّما بعد التمرّد الأخير الذي قادته مجموعة سريّة تطلق على نفسها اسم ( العودة إلى زمن الإنسان) التي انتمى إليها آدم بعد اكتشافه خدعة الحوسبة. بدأت محاكمة آدم من قبل الروبوتات التي اتّهمته بمحاولة زعزعة الأمن والنظام داخل المدينة وطالب المدّعي العامّ بشطبه من سجلّات الضوء ونفيه خارج المدن المعلّقة في الفراغ.
وبعد وقت لم يدم طويلاً قرّر الروبوت الأعظم إنزال حكم الشطب بآدم الذي تقهقر معتذرًا عمّا فعله من خرق للنظام. وبدأ يتوسّل الروبوتات للعفو عنه لكن دون جدوى لأنّها كانت تعلم أنّه مجرّد تمثيل للنجاة وبمجرّد الاستقرار سيعود إلى التمرّد.
شُطب اسم آدم من مدينة بغداد أمام الملأ في بثّ مباشر واختفى أثره لكنّ دفتر (ذكريات من زمن الإنسان) بقي شاخصًا بيد أحد أصدقائه مّمن التحق بموقفه مقرّرًا النضال ضدّ الروبوتات حتّى إسقاطهنّ والعودة بالحياة إلى طبيعتها الإنسانيّة.
مسك نوّار القلم الذي ورثه عن آدم وكتب في إحدى حواشي الدفتر( سنمضي قُدمًا لإسقاط حكم الروبوتات ونعود إلى زمن الإنسان)