النقد البعديّ للمعرفة نماذج مختارة

  • أمس, 22:11
  • مجلات الاتحاد
  • 11 مشاهدة

النقد البعديّ للمعرفة

نماذج مختارة

أ. د. وسن عبد المنعم

 

 

إن البحث عن نموذج معرفيّ جديد ليس مجرّد محاولة لتحديث أدوات النقد المعرفيّ المألوفة ، بل هو استجابة حتميّة للتحوّلات الجذريّة التي يشهدها العالم المعاصر، تتجلّى هذه التحوّلات في شكل مفارقة بين الواقع الحقيقيّ  والواقع الافتراضيّ ، مّما يستدعي إعادة تقييم شاملة لفهمنا للمعرفة وكيفيّة تكوينها وتداولها، وفي هذا السياق، يمثّل الواقع الافتراضيّ تحدّيًا كبيرًا للواقع الحقيقيّ ، فبينما كان الواقع يعتمد على الحواس والتجربة المباشرة لأنّها مصادر أساسيّة للمعرفة، يفتح الواقع الافتراضيّ أبوابًا جديدة لتجربة الإنسان للمعرفة، حيث تتلاشى الحدود بين الحقيقيّ والمصطنع ، بين الأصليّ والنسخيّ، هذا التداخل يعكس وضعيّة متغيّرة تصبح المعرفة نفسها سائلة ومتداخلة بقوّة التوجَّه نحو:   ما بعد الحداثة ، وبعبارة أدقّ الحداثة الفائقة في التفكير الميتا معرفيّ أو ما يسمّيه زيجمونت بومان بـ " الحداثة السائلة" ، في هذه الوضعيّة ، لم تعد المعرفة ثابتة أو قابلة للتصنيف بسهولة ، بل أصبحت متحرّكة ومتغيّرة تتأثّر بشكل مباشر بالتطوّرات التكنولوجيّة والاجتماعيّة(1)، هذا التداخل بين الواقعين يتماشى بقوّة مع التحوّلات الفكريّة نحو ما بعد الحداثة ، كحركة فكريّة ترفض السّرديّات الكبرى وتدفع نحو التشكيك في الحقيقة المطلقة مّما يعزّز الطبيعة السائلة للمعرفة في العصر الحاليّ، وتبعًا لهذه التغيّرات يتّضح  أن النموذج المعرفيّ التقليديّ لم يعد كافيًا للتعامل مع هذا الواقع الجديد، لذا فإن البحث عن نموذج معرفيّ جديد يُعدّ ضرورة لمواكبة هذه التغيّرات ، هذا النموذج الجديد يكون مرنًا بما يكفي للتكيّف مع الديناميكيّات الجديدة التي يفرضها الواقع الافتراضيّ ، حيث يحلّ الرقميّ محلّ الإنسانيّ أو ينزاح الواقع الحقيقيّ بالواقع الاحتماليّ الذي يمكن الاصطلاح عليه بـ " معرفة المعرفيّ، وبالأخصّ أن بعض النماذج المعرفيّة التاريخيّة وتجسيداتها في النتاج الفلسفيّ والسوسيولوجيّ والسياسيّ والثقافيّ لم تعد قادرة على مواكبة التغيّرات والتحوّلات الرقميّة (2) .

يتطلّب النموذج المعرفيّ الجديد تطوير أدوات نقديّة تتماشى مع التحوّلات الراهنة وتكون قادرة على تحليل وتفكيك التداخل بين الواقعين ، وعلى فهم تأثير التقنيات الرقميّة والافتراضيّة على تشكيل المعرفة وتداولها ، بهذه الطريقة يمكن للنقد البعديّ للمعرفة أن يقدّم رؤية أكثر شموليّة وعمقًا للعالم المعاصر، حيث لم يعد من الممكن فصل الحقيقة عن الخيال ، أو الواقع عن الافتراضيّ.

لأننا نعيش في عالم ما بعد العولمة أي في عالم ما بعدي في طور"التشكيل البنائي" .

وإن كنّا نرى بأن الفكر المتعدّد أقدر أنواع الفكر على مواجهة مشكلات ما بعد المعرفة (3) فهل نحن بحاجة إلى تغيير أدواتنا المعرفيّة بما ينسجم من حيث الترابط بين الوقائع التي نعيش والنظريّات الأكثر تمثّلًا للتغيير ؟

قبل الإجابة ؛ نرى أيضًا ؛ أن ما بعد المعرفة هو المستقبل الذي ينبغي أن نفكّر به قبل أن نعيشه " بوعي مأزوم يعيش تحوّلات الواقع من دون أن يمتلك أدوات فهمه أو تأويله على نحو يمكننا من مواجهة أسئلته المحرّفة بتوقّعات أخرى وآفاق جديدة (4)، وعليه يمكن القول أن التوقّع هو الشكل السائد للمستقبل ، إذ يعيش الإنسان ضمن أنظمة توقّعيّة معقّدة تعتمد على عمليّات   خلق معرفة  جديدة ، هذه المعرفة لا تستند فقط إلى الحقائق الثابتة ، بل تعتمد بشكل كبير على الاحتمالات والمخاطر المستقبليّة ، وبذا يصبح التوقّع محورًا مهمًا في النقد ما بعد المعرفيّ ، يقوم على فرضيّة أن الأدوات والأنظمة المعرفيّة التقليديّة لم تعد قادرة على استيعاب التحوّلات المعقّدة للواقع المعاصر، مّما يستدعي إعادة النظر في كيفيّة خلق المعرفة وفهمها ، وفي هذا السياق تصبح العمليّات التوقّعيّة ليست مجرّد أدوات لقراءة المستقبل ، بل هي آليّات أساسيّة لصياغته وتوجيهه عبر التركيز على علاقة ( ما بعد الآن) والوظائف التوقّعيّة لتكون جزءًا من ديناميكيّات خلق المعرفة التي تمزج بين الواقعين الحقيقيّ والافتراضي ، وبين التوقّعات المستقبليّة والتحدّيات المجهولة (5)

إذن كيف ينبغي أن نصوغ أسئلة مستقبل ما بعد المعرفة ؟

يستدعي التنبّؤ بالتحوّل ما بعد المعرفيّ ، أن نتبنّى ما يصطلح عليه بـ" علم السباق" ، وذلك لاستنباط نوع جديد من التقليد النقديّ الما بعدي ، لأن النقد البعدي هو نموذج ما بعد  معرفيّ ناتج عن أزمة معرفيّة مع الواقع بحاجة إلى وعي معرفي مغاير له أوّلًا ، ويمثّل قطيعة ما بعد معرفيّة قائمة على نفي النموذج المعرفي السائد ثانيًا ، حتّى ولو كان امتدادًا  متجاوزًا له ، بل وأكثر تجاوزًا للثوابت المعرفيّة ، وتخطّيًا لها بقوانين جديدة من التفكير ما بعد  المعرفي .

لهذا ينبغي أن نفهم أن النقد البعدي في تحوّله ما بعد المعرفي ينطلق من فهم تحلّل البنية المجتمعيّة على وفق تفكّك العلائق الاجتماعيّة بفعل تحلّل وتفكّك الهُويّات والأثنيّات المتعدّدة ، ولاسيّما بعد تفكّك المجتمع ، وخيارات الأفق المفتوح في عالم متحوّل بإيقاع السرعة والسباق نحو المستقبل الذي يشي بحراك البنى المتحوّلة . 

 ولابدّ من التشديد على أننا نعيش في مجتمع ذي أرضيّة وجوديّة قلقة ، وكأنّها معادية لهذا المجتمع شئنا أم أبينا ، وبذا كيف نستعيد الثقة في بناء مستقبل قائم على قيم جديدة من دون أن تكون معادية لمبادئ المجتمع الذي نعيش فيه .

ولكن ينبغي الاعتراف بأننا نعيش خارج سياق التطوّر ما بعد المعرفي ، في حين أننا كنا نتحرّك من حيث الفكر في قلب التحوّلات الميتا معرفيّة ، إذن كيف نبدأ من نقطة الصفر في كيفيّة فهم إشكاليّات ما بعد المعرفة ؟ وكيفيّة معرفة الاكتشافات الجديدة فيها .

ولكنّ ما حدث من تحوّل معرفي ، يفترض التمييز بين ما كانت عليه المعرفة ، وما آلت إليه من تغيّرات وضعتنا في مسافات مختلفة من العبور لمعطيات ما بعد المعرفة ، وكيفيّة اجتراح البدائل المعرفيّة الجديدة الممكنة والمؤثّرات الناتجة عن الثورة الرقميّة والمعلوماتيّة في مجتمع لم تتوطّن فيه المعرفة إن لم نقل أن المعرفة  تنتج فيه بأفق الميتا معرفة .

وثمّة أنماط ميتا معرفيّة ديناميكيّة متسارعة هي نتاج مفاهيم افتراضيّة أكثر استجابة للتحوّلات الأبيستمولوجيّة على مستوى الفكر، وأكثر تمثّلًا للتحوّلات السلوكيّة على مستوى العلاقات الاجتماعيّة ، مّما يجعلها أكثر تمثيلًا للقطيعة المعرفيّة واستيعابًا للثورة الرابعة في فهم نظريّة الواقع الافتراضيّ وفق توجَّه بودريارد ، وأكثر تفاعلاً مع " الحداثة السائلة " بتعبير ريجمونت باومان ، وذلك بعد أن أصبح نقدًا غير فاعل ، ولابد من نقد بعديّ أكثر فاعليّة في نقد الواقع السائد في كيفيّة تشكيل الواقع الجديد في العالم الافتراضيّ ، وكيفيّة تخيّل النموذج الافتراضيّ المطلوب لاستيعاب حركة ديناميّة السرعة في التحوّل والانتقال من مجتمع المعرفة إلى ما بعد المجتمع المعرفيّ وأعني   ) :المجتمع الافتراضي/ هُويّة الإنسان الافتراضي/الفضاء السبراني / التفاعل الافتراضي ( ،وبالأخصّ  كيف يمكن التحرّر من فواعل الزمان والمكان وحتّى البيئة .

إذن نحن إزاء أنموذج ما بعد نقديّ في طور التحقّق ما بعد المعرفيّ ، وهو يمثّل أعلى ما وصلت إليه المعرفة من تحوّل معرفيّ ما بعد العولمة في تقويض النماذج المعرفيّة التقليديّة ، وإمكانيّة تبنّي الكائنات الرقميّة في فهم مرحلة ما بعد الإنسان على مستوى تداخل الواقعي بالافتراضي والإنسانيّ بالرقميّ ، والخصوصيّ بالكونيّ العالميّ .

وإن كان سؤال العقل بوصفه سؤال المعرفة الأوّل ، فان سؤال الذات سؤال ما بعد المعرفة ، أي سؤال الشكّ والتحقّق منه في المستقبل ، وكيفيّة الخروج من المركزيّة الاحاديّة إلى التعدّديّة اللامركزيّة ، والانفتاح على ما بعد الحداثة ، وخاصّة بعد أن تحوّلت الحداثة إلى سوق استهلاكيّة غير منتجة في فهم ما آل إليه المستقبل أو ما سيؤول إليه ، والكيفيّة في التحكّم في مساراته البعديّة في التعدّديّة  والحريّة والديمقراطيّة .

لقد أفضت القطائع المعرفية للحداثة إلى بنى متحوّلة في فهم العالم الجديد ما بعد الحداثي ، وذلك من خلال امتلاك القدرة على استيعاب تعقيدات لحظات التحوّل التاريخيّة نحو المستقبل من حيث النواتج التكنولوجيّة والرقميّة لبنى علميّة تتجاوز الثابت من المعرفة بالمتحوّل منها أو تتجاوز البراديغمات الابيستمولوجيّة المحدودة التفكير الما بعدي ، والانفتاح على النماذج الأكثر فاعليّة وسرعة في التغيير الميتا معرفي .

لهذا تعدّ التغييرات التكنومعرفيّة ضرورة ما بعد معرفيّة لـ " تجاوز مفهوم العقل المطلق الذي يقضي إلى الدوكسا – Doxe * كنموذج معرفيّ متجدّد ، وذلك باعتبار هذا النموذج بحسب تعبير A.mitzman في كتابه : the lron " صيغة لتمثيل القطائع والانتقالات المعرفيّة واستيعابها ، وليس ارتدادًا في حركة دائريّة حول التراث الذي له حقله المعرفيّ  الخاصّ به (6) .

ويمكن التمثيل للإحساس الزمنيّ بما بعد المعرفة بتوجّهات فوكو وتشو مسكي ، وقبل ذلك إدورد سعيد ؛ كمقدّمات للنقد البعديّ بصيغ تفكيكيّة ما بعد بنيويّة متأخّرة ، ولاسيّما  " أن  كلّ معرفة هي انزياح عن معرفة (7) ، أي أن المعرفة ليست حقيقة ثابتة ، بل هي تحوّلات ديناميكيّة تتجاوز المعايير والتصوّرات الثابتة ، هذه التوجّهات تضعنا في مسار فكريّ يعترف بأن الإحساس بالزمن والمعرفة المرتبطة به، هما نتاج عمليّات تداخليّة معقّدة بين السلطة ، الله، والثقافة، حيث يعاد تشكيلهما باستمرار .

لقد ازدادت معرفة الإنسان ما بعد المعرفة ، مّما ازداد ضياعه وضياع العالم من حوله وهو عندئذ في ما كان يسمّيه هيدغر بـ " نسيان الكائنإذ يصبح الإنسان غارقًا في تفاصيل المعرفة وتفريعاتها المتشعّبة، من دون الوصول إلى حقيقة جوهريّة أو إدراك كينونيّ عميق، يفضي  إلى قلق الوجود الإنسانيّ في عالم تتسارع فيه التحوّلات وتتزايد فيه تعقيدات الواقع المعرفي ، مّما يعمّق الشعور بالعزلة والاغتراب في مواجهة المعرفة التي لا تلبث أن تصبح سائلة وغير قابلة للإمساك،  ومع تطوّر هذه المعرفة العابرة للإنسان ، لم يصل إلى درجة المدنيّة والدنيويّة حتّى يستغني عن الأدينة ، بدلالة الدين الذي تحوّل إلى أيديولوجيا ، والديمقراطيّة التي تحوّلت إلى دكتاتوريّة ، وبذا فإن كان مجتمع المعرفة " تطوير لفكرة "المعرفة قوّة " ، فأن " ما بعد المعرفة " نتاج " معرفة فائقة " قائمة على واقع فائق -  HYPER Reality  ؛ شبيه بالواقع ، ولكنها لا تكتفي بنفي الواقع ، بل تصنعه ، وكأنّه من عدم   وموت .

 

رؤية المستقبل في فيلم IN TIME  

 تطرح الفلسفات النقديّة الحديثة، ولا سيّما نقد ما بعد المعرفة سؤالًا جوهريًّا حول كيفيّة فهم المستقبلات في ضوء التغييرات الاجتماعيّة والثقافيّة والتطوّرات التكنولوجيّة الهائلة والذكاء الصناعي ، في هذا السياق يُعدّ الاستشراف النقديّ أداة فعّالة لإعادة تقييم الفرضيّات التقليديّة التي تقوم عليها المعرفة السائدة،  ولغرض استشراف المستقبل برؤية جديدة ، يمكن الاستدلال على المستقبلات بصيغة التنبّؤ أو التوقّع بما ستؤول إليه المتغيّرات الممكنة ، ولغرض معاينة  أهمّ الدلالات العابرة للمعرفة سنقوم "بقراءة شفرات المستقبل في فيلم " IN TIME - في الوقت " للمخرج النيوزيلندي أندرو نيكول (8) فالفيلم ينبني على رؤية فلسفيّة لمسألة الموت ، يناقش فيها فلسفتي الوقت بين الحياة والموت ، فما قيمة الزمن ولغز العمر والوقت من منظور مستقبليّ؟

ولأننا لا نستطيع إيقاف الزمن فكيف إذن نحافظ على العمر في حال توقّف عجلة الزمن ؟

تدور أحداث فيلم “إن تايم” أو “في الوقت” في العام 2169 حين تتوقّف الشيخوخة عند سنّ 25  وحينها يجد كلّ فرد نفسه محاصرًا بنفاد الوقت وإطالة العمر من أجل حياة أطول، حيث يساوي الوقت هنا المال، مّما يدعو الأغنياء إلى البحث عن الخلود، ويقوم بعضهم إلى تخزين الوقت  في “كبسولة للزمن، بينما لا يمتلك الفقير إلّا دقائق قليلة بعد وصوله إلى عمر الخامسة والعشرين، لذلك يعمل في أشغال شاقّة تمكّنه من ساعات قليلة وإن كان محظوظًا قد يمتلك يومًا آخر على أقصى تقدير، وهذا الوقت القليل ملك له، بإمكانه تقديم جزء منه أو وهبه كلّه لمن يشاء، وهو أيضًا العملة المتداولة بين الناس، فإن أراد شراء شيء أو التنقّل أو الحصول على أيّ خدمة عليه الدفع من وقته باعتبار “بطاقته الائتمانيّة” ونقوده” هما اللتان تبقيه على قيد الحياة.

إن ويل سالاس (جاستن تيمبرليك )  الذي يعمل في المصنع ويبلغ من العمر( 28 عامًا) ، إذ يعيش مع والدته " راشيل " البالغة من العمر 50) عامًا(، والتي تعمل بكدّ كي تضمن لنفسها أيّامًا إضافيّة، لكنها في حال مواجهة نفاد الوقت تجد نفسها أمام موت محتّملا تستطيع المرأة ركوب الحافلة، فعدّاد ساعتها لا يكفي أجرة نقلها من مكان عملها، ترجو الجميع لإنقاذها، لكن لا أحد يأبه بها، كلّ لا يشغله سوى مصيره، فتركض باتّجاه ولدها، الذي ينجح في معانقتها مع آخر لحظة من عمرها، وهي تلفظ النفس الأخير.

إذن نحن إزاء حالة <