هوامش نقد ..قلق الأبوّة 2

  • أمس, 22:04
  • مجلات الاتحاد
  • 10 مشاهدة

هوامش نقد ..قلق الأبوّة 2

 

يخيّل لي إن مسألة غياب الأبوّة النقديّة نتاج لعوامل كثيرة لعل من أوضحها أثرا ، شحوب " الرؤية النقديّة " القائمة على التفكير النقدي وليس النقد . انوجد النقد بخطوط واضحة وبارزة في التراث العربي وهو مّما لا شك فيه ، لكنّ وجود الرؤية النقديّة التي تقوم على أساس وجود العقل الناقد هو أساس المشكلة . ونتاج هذا لا يعود إلى طبيعة العقل العربي وإنّما إلى ترويضه ضمن التركيب السياسي وضمن السلطة التي ذهبت باتّجاه تنميط العقل ليكون معضِّدًا لا كاشفًا ومغيّرًا . 

إن هذه النقطة بالأساس تسوقنا للإشارة إلى أن العقل الناقد القادر على الفعل التغييري لم ينوجد في لحظة التأسيس للحداثة العربية وكان ذلك بفعل مؤثّرين مختلفي الاتّجاه ، الأوّل سلطة العقل التقليدي السياسي والثاني الفعل التأثيري التكنلوجي الغربي وهذا ما سمح بتأصيل طبيعة العقل الأحادي الذي يبني تصوّراته على ما ينوجد ولا يذهب باتّجاه  الكشف والتغيير ، إنه يحافظ  على نمط ولا يقترح ، وهو ما أدّى بالفعل إلى تأصيل هاجس " الخوف من الحريّة " حيث يعتقد الإنسان ويتعمّق شعوره بضرورة الاندماج بالآخر والرغبة في الخضوع له وفقًا لأريك فروم  وصولًا إلى تحقيق الشعور بالأمان والطمأنينة . ". ولعلّ هذا التوجّه يسود وفقًا لقراءة الباحثين في هذا المجال في المجتمعات الشموليّة التي تخضع لاستبداد سلطوي لفترات طويلة ".لقد أفرزت هذه الحالة أمرًا خطيرًا فعلًا ، وهو عزل الفرد عن محيطه الثقافي الشخصي ، بمعنى أوضح شحوب صلة الإنسان بمجاله الحيويّ المحيط ولذلك افتقد حيّزه الثقافي الشخصي منتميا إلى المجال الأوسع . 

بناء على هذا التأسيس  لو أعدنا التفكير في راهن النقد العربي فلا يكون من الصواب أن نستثني تحليل لحظة التأسيس وأن نقفز أو نتغاضى على مجمل تلك العوامل التي بقيت من دون تحليل وافٍ يرصد آثارها ليتجاوزها . 

إن أغلب الذين اشتغلوا في هذه المنطقة النقديّة تجاوزوا عن دراية أو غيرها مفصلًا أساسًا هو إن الهُويّة النقديّة تنشأ نشوءًا طبيعيًّا من خلال " الأبوّة النقديّة " وليس من خلال جعل التقارب بين النقديّة الغربية والعربية  ممكنًا كما يذهب حميد لحمداني فيما يتبنّاه بقوله " إن كلّ حقل  (من الحقول النقدية العربية ) يستدعي  في الحاضر ما يجعله يتطوّر من الداخل أو يعدّل مساره ليواكب مسارات الدراسات النقدية المعاصرة ". وهو بذلك ينظر إلى النقد الأدبي بصفته الشموليّة الكونية . وهذا الأمر يكاد أن يستعيد النظرية التقليدية المبنيّة على ثقافة " التراتب " تلك الثقافة التي يشخّص فيها جابر عصفور الثبات الزماني والمكاني للتابع والمتبوع ،  و لأنه يتغاضى عن عوامل تكوينية أسهمت ومازالت تسهم في تركيب العقل النقدي . أو البحث عن هُويّة عربية كما تزعّم هذا الاتجاه حديثًا عبد العزيز حمودة فيما أسماه ب "سلطة النصّ الأدبي ولا يكاد يختلف عن الكثير لا بمستويات الطرح فحسب  وإنّما بطريقة التفكير . إن استعادتنا طرح مفهوم الأبوّة هو كما أسلفنا في المقال السابق  محاولة للتفكير خارج تلك القناعات التي أنشأت أفكارًا لأن العقل الذي أنشأها كان قد حطّم قناعات قبلها ، لذلك فإن الحديث عن مستقبل النقد العربي يبقى غير مسقرّ لأنه يحمل أزماته معه ، تلك الأزمات التي شُخّصت قبل أكثر من قرن تشخيصًا جزئيًّا استثنى أو غيّب الأبوّة النقدية . ولا نريد الإيماء إلى أمثلة كثيرة تؤكّد ما نراه سوى الإشارة إلى جماعة الديوان الذين صرّحوا على لسان العقّاد إن إمامهم في النقد " هازلت ". ومفهوم الإمام مفهوم أبويّ صارم يتخلّى عن المجاوزة إلى المطابقة ، ما نريد قوله إن احدى اللحظات التأسيسية للنقدية الحديثة تأسّست بهذا المنطق . إن " هازلت " سيتكرر كثيرًا مع الجماعات والأجيال والأفراد تصريحًا أو تلميحًا وهو ما يعني غياب الأبوّة بمفهومها الذي قدّمناه وستلتفت لاحقًا إلى إجراءات نقد نقدية تفصّل ذلك .