مستعداً لمعرض العراق.. اتحاد أدباء العراق ينهي مشواراً ناجحاً في معرض الشارقة الدولي للكتاب..
كلمة الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق بمناسبة افتتاح مهرجان النّفّري الثقافي في الديوانية
إنجاز المعاملات الخاصة بقطع أراضي أدباء بغداد مع البلديات المعنيّة..
التجديد في شعر عبد الله گوران" عنواناً للجلسة النقدية الثانية لمهرجان الثقافة الكردية الأول
جلسة شعرية عامرة بالمحبة ضمن فعاليات اليوم الأول لمهرجان الثقافة الكردية
رواية " منازل ح 17 " للروائية رغد السهيل، الصادرة عام 2019عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، مغامرة جريئة في الكتابة الروائية التاريخية ، تلتقط فيها المؤلفة شخصية نسوية عاشت في النصف الأول من القرن التاسع عشر في إيران، هي "قمر الزمان"، وأمضت ردحاً من الزمن في كربلاء ، وبغداد ، داعية دينية لاحدى الحركات الدينية الخلافية .
وحاولت الروائية ، منذ البداية ، ان تتجاوز الإطار الرسمي للتاريخ المدون، وللمثيولوجية الأسطورية المتداولة، ، وتجترح تاريخاً بديلاً ، مجرداً من الإسقاطات الصوفية والميتافيزيقية والدينية، وان ظلت في بعض المواقف بسبب وقوعها تحت سحر البطلة مشددة الى المنحنى العرفاني الذي تمثله بطلة الرواية " قمر الزمان" والتعامل معها بوصفها رمزاً أنثويا متمرداً يتطلع الى الحرية والانعتاق من كافة القيود التي تكبلها وتكبل المرأة .
والرواية مبنية من الناحية السردية والفنية ، على أساس افتراض وجود لون من التوازي بين حياة البطلة ودورة القمر الشهرية من خلال افتراض وجود تناظر بين" منازل او" أطوار" القمر الفلكية المعروفة علمياً في علوم الفلك والتنجيم ، او المتخيلة في الموروثات الشعبية والميثولوجية ، وبين مراحل او أطوار حياة بطلة الرواية " قمر الزمان" .ويدل العنوان" منازل ح 17 " بوصفه عتبة نصية على حالة التناظر هذه لانه يجمع بين إحدى منازل القمر الفلكية وتسلسل البطلة ، بوصفها داعية في حركتها الدينية تلك ، كما سنأتي على ذلك لاحقاً.
ولذا فقد قسمت الروائية روايتها من الناحية السردية والبنيوية الى مجموعة من منازل او أطوار تناظر سيرة حياة البطلة بدءاً من منزل " المحاق" وانتهاءً بمنزل " العرجون القديم" مروراً بالمنازل الأخرى : منزل الهلال المتزايد ، ومنزل التربيع الأول ، منزل الأحد المتزايد، منزل البدر ، منزل الأحدب المتناقص ، ومنزل التربيع التاريخي ، ومنزل الهلال المتناقص ، حيث كانت حياة البطلة تتناظر صعوداً، او كسوفاً ، مع منازل القمر.
اما " ح 17 " فهو يرمز الى تسلسل البطلة " قمر الزمان " في الحركة الدينية. ومن المعروف ان الحركة قد اختارت لها ثمانية عشر مندوباً ، من أوائل دعاتها والمؤمنين برسالتها ، ارسلتهم كدعاة ناشطين الى مختلف الإرجاء ، وهم يمثلون حروف الحي ، والحي ، حسب تقاليد تلك الطائفة ، إحدى الصفات الإلهية في الحساب الأبجدي ، يكون مجموع الحاء والياء 18، وكانت " قمر الزمان " تشغل الرقم 17 في سلسلة الدعاة الذين يرمز لهم بالحرف ( ح )، اي الحي، وهذا يفسر دلالة العنوان بوصفه عتبة نصية ، وهو ما اكدته البطلة في حديثها لتلاميذها ، بعد ايمانها بدعوة رجل من شيراز بوصفه المخلّص الذي سوف ينقذ البشرية، والذي منحها هذه الرتبة بين الدعاة ( ص 148 ) .
وبذا تتحول حياة البطلة وسيرتها وأطوار تجربتها الى اسطورة قمرية ليلية. والقمر في المثيولوجيا الشعبية الكلاسيكية يمثل مع الشمس ثنائية مركزية ، وتعدّ بعض ميثولوجيات الشعوب القمر رمزاً للأنوثة ، والشمس رمزاً للذكورة ، وهناك ميثولوجيات اخرى ترى العكس ، وواضح ان الرواية ترى في القمر رمزاً أنثوياً يناظر حياة بطلتها المركزية الأنثى التي تحمل إسم القمر تحديداً : " قمر الزمان ".
ويمكن القول ان الرواية ، بامتياز رواية انثوية فكاتبتها انثى ، وبطلتها انثى ، والقمر أنثى ، ومنظورها أنثوي ، ينتصر للمرأة ، وحقوقها وحريتها عبر التاريخ. ولذا فبنية الرواية من الناحية السردية والبنيوية فيها الكثير من التعقيد مما يجعلها قابلة للتأويل المتعدد لفك شفراتها وشبكة رموزها .
والرواية تتشكل من ناحية البناء والتمفصل من تسعة فصول او منازل ، وكل منزل بدوره يتفرع الى " ابواب " ونوافذ" وهي في الغالب تحمل تبويباتها الخاصة الداخلية الخاصة بكل فصل. وفضلاً عن ذلك فكل من هذه الفصول تكون مسبوقة بفصل تمهيدي " معنون " قد ينطوي بدوره على تبويبات داخلية. ويعد هذا الاستهلال بمثابة تمهيد للأحداث التي تتلوه ، وليس هذا فقط ، بل تعمد المؤلفة ، في الغالب ، الى كتابة " ترويسة" في بداية بعض الفصول او الفقرات ، ربما توحي او تومئ لجوهر الإحداث التي سيكشف عنها هذا النص او ذاك ، ومنها على سبيل المثال:
" رستم : منذ ان دخلت القصر وانا في دهشة . " (ص19)
" زعفران : اي شيطان غرّني فاطلعت طفلة . " (ص23 )"
"شجرة التوت : لنترقب ما ستنسخه تلك الانسية . " (ص 45 )
" الأم : عطر لا يزول بالاستحمام. " (ص48 )
ويمكن ان نكتشف ان هذه " الترويسات " او العنوانات الفرعية تومئ الى الراوي الذي سيضطلع بمهمة سرد هذا الفصل او ذاك فضلاً استباق سردي لما سيحدث .
ويمكن للقارئ غير المتخصص ان لا يشغل باله بهذه التقسيمات والتفريعات وان يقرأ الرواية بوصفها نصاً منساباً مترابطاً، ذلك ان هذه التناظرات بين منازل القمر ومراحل حياة البطلة ليست متناظرة دائماً ، والا ما تبرير ان تكون ولادتها مقترنة بمنزل " المحاق" ، حيث يغيب القمر كلياً . وبشكل عام يمكن القول ان هذا التاريخ افتراضي وتخييلي وسردي ، وليس شرطاً ان يكون مطابقاً للتاريخ الرسمي ، اي بكلمة أخرى ، ان ما فعلته الروائية هو جزء من اللعبة السردية التي تهدف الى المغايرة والتنويع والخروج عن الاطر المألوفة في التمفصل الروائي والسردي.
هذا وتمهد المؤلفة لسردها بمجموعة من العتبات النصية الدالة ، فضلاً عن عنوان الرواية الدال، الذي توقفنا عنده تواً، حيث نجد أربعة نصوص مقتبسة من عدد من الكتاب ، منها مقولة للروائي ميلان كونديرا يقول فيها :
" الروائي ليس مؤرخاً ولا نبيباً ، انه مستكشف للوجود " وتكمن أهمية هذا النص في انه يكشف عن منظور المؤلفة للتاريخ وعلاقته بالسرد. وتمثل أهمية خاصة الصفحة الاستهلالية التي تسبق النص الروائي ، والتي تشير الى ان النص الحالي يعتمد أساساً على بنية شفاهية ، فهو مجموعة من المرويات الشفاهية التي تناقلها عدد من الرواة في فترة محددة تضيء حياة البطلة .ونجد ضبطاً افتراضياً لسلسة الرواة والإسناد وايلاء أهمية خاصة للسرد الأولى الذي كانت تقدمه الحاجة زعفران، وهي خادمة البطلة ومربيتها في طفولتها، لكننا نلاحظ وفرة في عدد الرواة، وخاصة النساء اللائي يشاركن في صياغة البنية السردية النهائية ، مما يجعل الرواية متعددة الأصوات. ومن الملاحظ ان هذه العتبة النصية الاستهلالية مكتوبة بلغة تراثية وتقليدية، وتختلف جذرياً عن أسلوب الرواية الحديث، وكأنها ورقة مستلة من كتاب تراثي. وتعرّف هذه العتبة بشكل موجز ، على طريقة كتب الأقدمين في كتابة التراجم ، بشخصية البطلة من خلال القول :
" جمعت امرأةٌ العلمَ الواسعَ الغزير والجمال الفتان الرهيب في القرن التاسع عشر الميلادي وتنقلت بين بلاد فارس والعراق ، فتداولت الشفاه أخبارها التي اسردها لكم ، كما وردتني عن أمي عن جدتي مسعودة خاتون ، عن ... الخ ".
إلى بقية سلسلة الإسناد التي تنتهي بالمربية الحاجة زعفران. "(ص7) ونكتشف ان الراوي الاخير هنا هو فرد من الأسرة التي تناقلت المرويات من خلال عبارة " فتداولت الشفاه إخبارها التي اسردها لكم ، كما وردتني عن امي عن جدتي ... الخ " (ص7) وهذا ما سيتاكد لنا من خلال تامل " النوافذ "، الملحقة بالفصول والتي تومئ الى طبيعة البنية السردية.ويمكن ان نكتشف ملامح السرد الشفاهي والحكائي بوضوح من خلال طريقة السرد والحكي والتقطيع ، فضلاًً ًعن الحركات والاشارات المصاحبة عادة للسرود او المرويات الشفاهية. وليس معنى هذا ان الرواية ، بكاملها ، هي نص شفاهي متواتر ، فهي تظل في النهاية نص كتابي حديث ، لكنه بشكل عام ينطوي على جذر شفاهي وحكائي وتداولي.
وللتاكيد على الطبيعة الشفاهية للسرد نجد ان جميع الابواب او " المنازل" فيها مقدمات تشير الى تاريخ السرد ومكانه وأسماء الرواة المتعددين. ويخيل لي ان هذا التعدد الصوتي في السرد الشفاهي يمنح الرواية سرداً مبأراً وبنية درامية ، بعيدة الى حد كبير عن تدخل المؤلف او الراوي الضمني ، الا في استثناءات محددة يبرز فيها دور الراوي الضمني الذي يضيء مراحل تاريخية وسياسية داخل المتن او في الهوامش ، كما هو الحال في السرد التاريخي العميق للمرحلة ، (ص27 ) والذي يشير الى وجود راوٍ خارجي :" شدتني الحاكية التي روتها أمي نقلاً عن النسوان ، فانا اهوى سرد الحكايات التاريخية المهمشة ، وبدات البحث عن مصادر عنها في المكتبة " (ص53 ).
ومع ان الرواية هي نتاج عدد من الروايات الشفهية المتواترة ، الا اننا نلمح بين حين واخر ظل الراوي المركزي او الذات الثانية للمؤلف والذي هو اخر العنقود في سلسلة الرواة ، وكنا قد لمسنا حضوره في العتبة النصية الأولى ، كما اعلنت آخر سلسلة الرواة وهي ايضا امراة : " .... فتداولت الشفاه أخبارها التي اسردها لكم كما وردتني عن امي عن جدتي مسعودة .. " الى اخر سلسلة الإسناد . (ص7). ويبدو ان المؤلفة قد اختارت " النوافذ" التي اختتمت بها كل " منزل" او فصل لإعطاء ملامح عن شخصية الراوي الضمني او الذات الثانية للمؤلف وتشكيلات السرد. ففي "النافذة" التي اختتمت بها " المنزل الاول " والموسوم ب- " منزل المحاق" نكتشف ان الراوية او الساردة امراة مثقفة ومتابعة لما يطبع من مؤلفات، من خلال اشارتها الى احد الكتب الخاصة بالتفسير، اذا تقول وهي تفصح عن شخصيتها بوصفها راوية للحكاية :" شدتني الحكاية التي روتها أمي نقلاً عن النسوة ، فانا أهوى سرد الحكايات التاريخية المهمشة ، وبدات البحث عن مصادر منها في المكتبة "(ص33 ).
وهنا إشارة مهمة الى ان ماترويه يقع تحت باب " الحكايات التاريخية المهمشة "، اي انها لا تقع ضمن باب الحكايات الرسمية المعتمدة في التاريخ ، اي انها لاتقع ضمن باب الحكايات الرسمية المعتمدة في التاريخ ، وهي إشارة مهمة في هذا المنحى الجديد في كتابة السرد التاريخي عبر البحث عن المهمشين، والمهمل والابتعاد عن التاريخ الرسمي ومحاولة كتابة تاريخ بديل ، وهو ما يجعل الرواية تنتمي رؤيوياً الى سرد ما بعد الحداثة. وفي " نافذة" المنزل الثاني تتحدث الراوية عن الإعياء الذي أصابها بسبب الكتابة السردية :
" ما ان أوصدت باب " منزل الهلال المتزايد" في الرواية حتى داهمني التعب والإعياء "(ص 48 ) واشارت الساردة الى انها اقنعت نفسها بان ذلك من صدى لدرس قديم في السرد ، رغم انها لم تتعلم السرد من احد. (ص 78 ) وهي أشارة مهمة الى ان الساردة ليست روائية محترفة ، لكنها تمارس الكتابة السردية لتوثق هذه السيرة تحديداً.
ويمكن القول بثقة ان الرواية هي في الجوهر رواية شخصية ، لانها تتمحور حول حياة شخصية مركزية واحدة مركزية واحدة. وبمعنى آخر انها لون من السيرة او الترجمة البيوغرافية Biography التي يكتبها شخص او اكثر عن شخصية محددة اخرى، وهي تختلف جذرياً عن الرواية السيرية الاوتوبيوغرافية Autobiography التي تتسم بوضوح الملامح الذاتية في السرد، بسبب ان الراوي يتحدث عن سيرته الذاتية ويعرّضها احياناً للخروج من الجنس الروائي الى جنس آخر هو كتابة المذكرات والسير الذاتية .
ويبدو لنا واضحاً ان المؤلفة كانت مفتونة ومنبهرة الى درجة كبيرة بذلك الكم الهائل من المرويات والنصوص والافلام والمسرحيات التي تدور حول البطلة في العصر الحديث ، والتي جعلت منها شخصية أسطورية نادرة ، ربما تذكرنا بالفيلسوفة المصرية " هيبيتا" التي تعرضت هي الاخرى الى القتل بسبب معتقداتها التي تعارض الكنيسة الرسمية ، وقد تذكرنا بشخصية جان دارك التي حمكت عليها المحاكم الكنسية بالحرق، لانها خرجت عن منظور الكنيسة الرسمي آنذاك.
وتتضح محاولة أسطرة شخصية البطلة منذ البداية ، عندما كانت مازالت في طفولتها المبكرة، قبل ان تبلغ سن الرشد. فعندما كانت في الخامسة ، وبعد زيارتها لاحد المراقد الدينية كانت تحلم بنجوم المزار واعترضت على امها بجرأة " انا لا احلم ، انما أرى ما لا ترين " (ص13 ) وقالت عنها أمها " لابنتي خمسون لساناً اذ تحدثت . "(ص49 ) وقال عنها والدها مرة وهي مازالت في الخامسة انها " مغامرة وجسورة . "( ص 7).
ونجد داخل المتن الروائي أشارات متفرقة تدعم هذا المنظور الميثولوجي الذي يميل الى اسطرة الشخصية ،منها ما قالته البطلة لشقيقها عبد الوهاب من كلام ،لايمكن ان يصدر عن طفلة في الخامسة من عمرها " انما افكر بتحولات مخلوقات الله، جميعها تمر بمراحل، فالفراشة تنبعث من الشرنقة ، والقمر ينتقل بين المنازل ( والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ." (ص47 ). وتقول لها المراة المجنونة التي التقتها البطلة في المزار:
" ستاخذين من القمر تحولاته . " (ص50 )
ومن الرموز المرتبطة باسطرة شخصية البطلة " قمر الزمان " دلالة المنديل الذي تضعه في معصمها، حيث ربطت الرواية بين حياة البطلة وهذا المنديل بطريقة تنبؤية :" ياصديقتي، في هذا المنديل كانت بدايتي ، وفيه ستكون نهايتي " (ص170 ) وربما تبلغ عملية أسطرة شخصية البطلة ذروتها ، في الصفحة الاخيرة من الرواية ، عندما تتحول البطلة ،بعد موتها،الى نجمة ارتفعت في السماء واختفت الى الابد لتحقق حريتها المطلقة ، والتي لن يستطيع أحد مصادرتها :" فقد ملكت الحرية ، ولن يضمنها سجن جديد ، ولن يعثر عليها أحد ." ( ص 294 ) وواضح ان هذا السرد غير مبأر ، وينتمي الى صوت المؤلفة او ذاتها الثانية التي شاركت بدورها في تكريس عملية الاسطرة ، بسبب وقوعها تحت فتنة وتاثيرالبطلة وتأثيرها ومسيرتها التاريخية والفكرية .
ويخيل لي ان عوامل كثيرة جعلت المؤلفة تنحاز عاطفياً الى مسيرة بطلها ، على الرغم من ان مواقفها الفكرية ومعتقداتها المذهبة ذات طابع خلافي ، ومتناقض احياناً. لكن المؤلفة ، كما يبدو، كانت منبهرة بنزعة البطلة الى التأويل وتجديد الفكر الديني والمذهبي ، والخروج عن القوالب المتداولة ، كما ان دفاع البطلة عن حرية المرأة، ودعوتها لمنح الحرية الكاملة للمرأة في التحرر من عبودية الافراد والمجتمع ،والتي جعلتها تتحول مناضلة نسوية نموذجية سبقت عصرها، كانت عاملاً مهماً للوقوع في دائرة سحرها.
وفي الحقيقة تمتلك البطلة الكثير من المقومات الشخصية التي تجعلها مؤثرة وجذابة ومشبوبة بدافع داخلي يمتزج فيه العرفاني بالبرهاني، والفكري بالصوفي والتطهري بالشبقي. وهذه المقومات كانت تمنح شخصيتها الكاريزمية وقوامها الجميل الممشوق ، وصوتها الجهوري المؤثر سحراً خاصاً يجعلها تؤثر بالاخرين من معارفها وانصارها ، واحيانا اعدائها. وفضلاً عن ذاك فقد كانت تمتلك إستقلالية فكرية خاصة بها . فهي قد قررت الانسلاخ عن الرأي الجمعي السائد بين ابناء قومها ، وبلورة تصوراتها الفكرية ، العرفانية والدنيوية ، بطريقة جديدة، فقد اجترحت لنفسها منهجاً عقلياً تجديداً يؤمن بالتاويل ويدعو الى تجديد الفكر المذهبي ، وكما قال احد تلامذتها " صنعت منهجها الخاص ، فلا هي إخبارية خالصة ، ولا هي عقلية خالصة . " (ص140 ) ويشير تلميذ اخر اسمه حسن ، عشقها وفتن بشخصيتها وجمالها عندما إلتقاها في مجلسها بمدينة كربلاء، الى انها افصحت عن رغبتها في توحيد المناهج الفقهية ، واعترف انه شخصياً انه "حاول ان يوفق بين منهجه الاصولي ، ومنهجها الاخباري ، رغبة في توحيد المناهج الفقهية ." ( ص141 ) كما انها تخلت عن النزعة الاخبارية لاحقاً ،وطرحت منهجاً مختلفاً ، حين تحولت ، كما يقول احد تلاميذها" لاتباع المناهج العقلية في الكثير من القضايا ، ونأت عن المناهج الاخبارية التي تعتمد النقل لا العقل ، وخالقت توجيهات معلميها وردت عليهم قائلة ( ص73): " اصبحت تعاليم الشيخين قديمة، ما احوجنا الى التجديد. " (139 ).
ونجد والدها شيخ قزوين ، وهو رجل علم ، حزيناً لان إبنته " اغترت بعلمها ، واشتطت في تاويلها حتى شطحت ، هي التي حذرت من شطط التاويل ، سقطت في هوة التأويل." ( 248 ) .
وتحدث عنها زوجها حسن بمرارة فوصفها بانها "امراة جسور تنقلت من سجن الى سجن ، فلم تبد منها ندامة، واسفرت عن وجهها ، وخلعت حجابها ، تاركة عفافها وراء ظهرها، وبدت كاشفة الوجه ، متبرجة ، متزينة" . (ص159).
وقد كان دفاعها عن حقوق المراة ، ودعوتها الى الحرية ، والتي مارست جوانب منها مثل خلع الحجاب والاهتمام بالتزين والتبرج ، كما انها سبقت عصرها عندما طالبت المراة بالتمرد والتحرر الشامل بقولها:
" خلقت النساء للضم والشم كالورود الزاهية ، فتمتعوا بهن ومتعوهن بكم ، لاتتركوا الورد يذبل دون لمس وري . "(ص239 ) ونصبت من نفسها داعية للحرية ، فهي ضد العبودية والاسترقاق ،وضد مصادرة حرية الفكر وكانت تقول " ستظل الفكرة حرة طليقة تنتشر عبر الهواء ، لاتصدها القضبان. " (ص238 ) .
ومع ان قمر الزمان ظلت متماسكة فكرياً طيلة حياتها ،الا ان ايمانها بمبادئها بدأ يتزعزع عندما علمت بمقتل " المخلّص" ،المولود في شيراز، والذي يفترض فيه ان يتابى على الموت ، ولذا وقفت في لحظاتها الاخيرة وهي تواجه محنة الصدمة والخيبة التي واجهتتها:
" تأملت هيأتها في المراة: كم تغيرت ملامحي، وعبرت بي السنوات سريعة ، أيعقل ان يموت المخلص الذي ارسله الله لخلاص عباده؟ "(ص291 ).
ومرت بها لحظات من القلق الوجودي والايماني، وهي تراجع سيرتها متسائلة بمرارة "أتراني زللت في اختيار دربي، فظللت؟ "(ص291 ) لكنها ظلت بعد وفاتها رمزاً من رموز التمرد والحرية، وتحولت الى أسطورة يتناقلها الاصدقاء والاعداء ، وراح يتهامس اتباعها سراً ،" ستظهر ثانية ، وتعود بعد غيبتها ، فلم يقتلها أحد ." (ص293 ) واقسمت مربيتها زعفران ، وراوية سيرتها الرئيسية انها " لمحت وجه سيدتها الصغرى على سطح القمر ، وانتشر الخبر في قزوين. مما دفع الناس في كل مكان الى التطلع الى القمر في طقوس شهرية، كلما بدا القمر دورته. " (ص293 ) وهكذا اصبحت قمر الزمان " قمراً لكل الازمنة " كما قالت هي. (ص209)
وعلى الرغم من المسار الخطي العام لبناء الرواية وحركتها الزمنية الخطية، وتصاعدها زمنياً منذ الطفولة والمراهقة والنضج وصراعها الفكري وبالتالي موتها ، والتي كانت تتوافق مع " منازل " القمر ، فان المؤلفة ،على الرغم من ذلك، كانت تخرق هذه القاعدة السردية بين الحين والآخر، بالعودة الى الماضي، او القفز الى المستقبل ومن ثم العودة الى المسار الخطي للسرد. فالرواية ، مثلا لاتبدأ بولادة البطلة ، بل تلتقط لحظة زمنية لاحقة من حياة البطلة ، عندما كانت في الخامسة من عمرها وارجأت الفصل الخاص بولادتها الى مرحلة لاحقة هو فصل " باب الحب". (ص34 ) وهكذا كان السرد ينتقل بين الازمنة والامكنة بحرية وسلاسة، دون ان يتقيد داخل إطار النسق الخطي التقليدي للسرد الروائي.
رواية " منازل ح 17 " للروائية رغد السهيل ، رواية فريدة ومتفردة في الرواية العراقية ، وربما العربية ، ربما لخصوصيتها وجرأتها وفنيتها العالية واعتمادها على بنيات سردية متنوعة ، شفاهية وكتابية ، وعلى تعددية صوتية للرواة وللاصوات السردية وقدرة على إبتكار تاريخ سردي بديل ، يحتفي بالهامشي ، بعيداً، عن التاريخ الرسمي . ومع ان المؤلفة حاولت التمويه على اسرار صنعتها ، الا انها تركت بعض اسرارها مدونة في " نوافذها" التي تختم بها فصولها ، والتي تشير الى طبيعة الرواة ، ومنهم الراوية الاخيرة التي دونت النص الكتابي ، والتي كشفت عن ثقافة عصرية وحديثة من خلال اشارتها الى اسماء ادبية وتاريخية حقيقية تكشف عن تناصات مهمة تؤكد المنحى الميتاسردي للرواية"إلتقيت عند باب مكتبة التاريخ الشاعر التركي ناظم حكمت الذي اثنى على السيدة التي انقل أخبارها، . كان الشاعر برفقة العلامة علي الوردي، فاشارا عليّ ببعض المصادر. " (ص171 ) وفي حدود متابعتي لتاريخ الرواية العراقية لم اجد رواية مقاربة لها في اجوائها وخصوصيتها ، ربما باستثناء رواية " باب الفرج" للروائي زهير الجزائري والتي صدرت مؤخراً، لانها تدور في بيئة ثقافية ودينية متشابهة في مدينة النجف في مطلع القرن العشرين ، وتحديداً بين احتلالين : الاحتلال العثماني والاحتلال الانكليزي للعراق. ونجد في رواية زهير الجزائري الكثير من عناصر التماثل في المرويات والاجواء والتقاليد والعادات الاجتماعية والفقهية ، ربما املتها طبيعة التجربة الروائية وحاضنتها الاجتماعية والمذهبية .
رواية " منازل ح17" للروائية رغد السهيل تمثل اضافة جريئة لسفر الرواية الحداثية في العراق ولمؤلفتها،وتكشف عن عمق ثقافتها السردية والتاريخية والفكرية،واتقانها لشروط اللعبة السردية الحداثية و ما بعد الحداثية .