بنية العقل التاريخي العربي / ناجح المعموري

  • 7-02-2023, 12:59
  • نقد
  • 475 مشاهدة

صدر كتاب للأستاذ د. سعيد عبد الهادي المرهج عن دار الشؤون الثقافية وهو عبارة عن قراءة سيميائية في مدونة الطبري ، ويمثل تجربة ثقافية ومعرفية جديدة ، ليس في العراق فقط وانما في الوطن العربي ، وهي ضمن اتجاه العناية النقدية بالتاريخ والسعي للتعامل شعرياً واياه مع اجتهاد ينطوي على الجرأة والشجاعة الثقافية في التوجه الى المدونة المقدسة مثل تاريخ الطبري . والسؤال الذي شغلني كثيراً هو لماذا غياب هذا الجهد المعرفي الرصين عن التداول او التبادل الثقافي ، لذا اضطرت للتذكير به بالجلسة الاحتفائية بالناقدة د. نادية هناوي مع كوننا ــ الوسط ــ انتبهنا كثيراً للكتاب المهم وهو " شعرية التاريخ الاسلامي " تفكيك تاريخ الطبري لبوازشوشان " وفي تجربة سعيد عبد الهادي تميز وملامح لم تكن غائبة عن الدرس السيميائي ، بل الحضور مغاير وينطوي على مجازفة ، فالتوجه الى فضاء المدونة التاريخية قاد الى نتائج ايجابية مهمة ــ مثلما قال سعيد عبد الهادي ، وهي حضور المستقبل في الماضي ، وانطوى هذا على هيمنة الرؤيا على مستوى الزمان وتلاشي الابعاد المكانية تحت هيمنة الجانب الايماني . 

قدم د. سعيد عبد الهادي دراسته الاكاديمية بتقديم مركز للغاية ولم يسهب مثلما فعلت هناوي وكان بإمكانه ان يفعل لانه اشتغل على رسالة دكتوراه . واعتقد بأن ما قدمته في البداية اختصر الكثير وذهب لاهم الآراء ، ومنها ما قاله هايدن وايت وابتدأ ذلك بالإشارة لانفتاح المدارس النقدية وتعدد النظريات والمناهج العربية على الجديد في الثقافة الغربية من تنوعات وفروع المعارف واكد بأنه توقف عند تلك الدراسات المعنية بأدبية النص التاريخي ، وعلى البعد السردي الذي تتحرك من خلاله عملية التدوين ( كتابة التاريخ ) . 

وربما كان ما قدمه فيلسوف التاريخ الامريكي المعاصر هايدن وايت الاثر الاكبر في هذا المجال ، في حين ما زال المؤرخون العرب يتحدثون عن النص التاريخي بوصفه وثيقة مجردة عن هوى كاتبها او عن ضغط ظروف الكتابة . وان اخذت فلتسويغ واقعة محددة يختلف فيها مؤرخنا المعاصر عن مؤرخنا القديم ، في حين نظر الكثير من النقاد المعاصرين الى النص التاريخي بوصفه نصاً موضوعياً ملتزماً بحركة الزمان المتقدمة من دون الوقوف الفاحص عند طبيعة هذه المدونة التاريخية بوصفها وحدة كلية ، لهذا اقتصرت الدراسات النقدية المقدمة عن الحكاية او السيرة . فدرست الحكاية في كتاب الحيوان للجاحظ ، ودرست السيرة الشعبية العربية والحكاية الصوفية وحكايات كليلة ودمنة والف ليلة وليلة وتوجت هذه الدراسات بدراسة الامثال العربية / د. سعيد عبد الهادي المرهج / بنية العقل التاريخي العربي / قراءة سيميائية في مدونة الطبري التاريخية / دار الشؤون الثقافية / بغداد 2015/ص5ــ6//

التقط د. سعيد عبد الهادي السبب وراء العزوف عن دراسة المدونة التاريخية بسبب المخاوف من التصادم مع يقينية النص او قداسته . وهو بتوجهه لفحص مدونة الطبري كشط كثيراً منها واسقط الجلالة منها وهذا ما فعله بواز شوشان الباحث الامريكي ، عندما ذهب لملحمة كربلاء واعاد فحص المدونة وشطب على الكثير واستطاع ان يتوصل للشعرية العميقة فيه وهو قادر على فعل ذلك ، لأنه يعيش في الولايات المتحدة الامريكية وليس بالعراق . انا لا اريد ان اقدم عرضاً عن رسالة عبد الهادي وانما والتذكير بها ولفت الانتباه اليها ، لما تتمتع به من جرأة وشجاعة وتمثل فتحاً جوهرياً في الثقافة العراقية . 

ومن اجل ايضاح فضاء شعرية التاريخ والقدرة النقدية الفاحصة التي ميزت تجربة بواز شوشان اجد ضرورة الاشارة لتراجيديا باكربلاء واستشهاد الامام الحسين . من اجل رسم فضاء مغاير في القراءة والتفكيك للذهاب بالسرد نحو التاريخ والسعي لتطهيره من عيوب السلطة التي كتبت التفاصيل وهذا امر جوهري ومساعد على تنظيف الذاكرة الجمعية ، هذا بالإضافة الى ان التاريخية هي استدعاء الزمان للتفكير بالوجود ــ كما قال بول ريكور ــ ولكن ، لا وجود للوجود الفردي ، بل الوجود في العالم ومع الاخرين ، بكل غناء الدلالي والتأويلي .

الملاحظة المهمة التي وجدت اغفالها لم يكن غفلاً من قبل المتلقي وهي ان السرد المتجه نحو التاريخ يمثل الارض المتداخلة والمشتركة التي انقضت والتفت عليها الانثربولوجيا الفلسفية ، والتأويلية   .

كما قال ريكور يتعذر فهم الانثربولوجيا الفلسفية دون النظر في الادب مصدراً اوليا للمعرفة ، ويتعذر تأويل النصوص دون العودة الى شعرية الممكن الذي يغذي هذه الانثربولوجيا . والامر المعروف جداً في المجال الفلسفي الهيغلي وهو ان ابتكار او اختراع اللغة عتبة حضارية مهمة وهذا له دخل مباشر في وعي التاريخ والحرية . ويفضي الى الملاحظة الانثربولوجية الفلسفية التي وضع لها بول ريكور دور وحضور مركزي داعم للتأويل للسرديات التي دخلت مبينة الإمكانات الكامنة في التنفيذ المعتمد على خصائص الكاتب والتباين بقدرته الفنية واهم هذه العناصر المميزة للجانب الذاتي التنفيذي ــ ذكرت ذلك قبلاً ــ وهو يمارس مهارته في تخليص الوقائع والاحداث من زمنها الداخلي ، وذلك بسبب الطاقة التي يتمتع بها المخيال الذي يذهب مباشرة لازاحة الزمن الخاص المؤكد عليه من قبل المؤرخ ، وتنفتح بديلاً له مستقبلاً . 

************************

تحمس هايدن وايت نحو الشعرية الكامنة في التاريخ وليس الادلة التاريخية وحدها ، تحدد مقدماً المنظور التفسيري للمؤرخ وهكذا فأن قوة اشكال التفسير ، بالنسبة الى وايت تبرز الطبيعة غير العلمية للكتابة التاريخية .

ويكشف كتاب هايدن وايت " ما وراء التاريخ " عن نسبية تزيل الحدود الفاضلة ، ليس بين التاريخ وفلسفة التاريخ وحسب ، بل ايضا بين التخييل والتاريخ بالنسبة الى وايت فأن الاحداث التاريخية والتخييلة تنقل من خلال استراتيجيات تمثيلية متشابهة ، بالتالي لا فرق على المستوى الشكلي ، وبين هذين النوعين من الخطاب / هايدن وايت / محتوى الشكل ، الخطاب السردي والتمثيل التاريخي / هيئة البحرين للثقافة والاثار / ت : د. نايف الياسين / المنامة / مطبعة تركي / 2017/ص10//

تمكنت د. نادية هناوي من صوغ مقولة كروتشة الشهيرة وتذويبها واعلنت عن رأي جديد وغير معروف سابقاً عن التاريخ ومقولة كروتشة هي ( حيث لا يوجد سرد لا يوجد تاريخ ) والتي ذكرها هايدن وايت في كتابه المذكور سابقاً . وقدمتها بلغة متسترة عندما اشارت الى تعميم الحضور الخاص بالتاريخ ، عندما ذكرت وجود التاريخ في الحياة اليومية وتفاصيلها الغفيرة . بمعنى ان التاريخ حياة الجماعة المعلن والمشترك والذي لا تقوى بدونه . حتى غير المفكر به لأنه يمثل قاعدة ستتحول لاحقاً الى تفاصيل تدنو من التاريخ وتتحرك متحولة اليه . 

ربما يبرز سؤال حول السبب وراء السكوت عن دراسة الاستاذ فاضل ثامر المهمة التاريخي والسردي وهو اني نشرت دراسة طويلة بحلقتين عنه في المدى وجريدة بين النهرين .