سرديات الهوية

  • 14-09-2022, 15:48
  • مقالات
  • 838 مشاهدة

يشكل موضوع الهوية الآن مركز اهتمام الدرس الثقافي والانثربولوجية الثقافية والسياسية وذلك للصلة الوثيقة الموجودة بين الهوية والبنى الاجتماعية والسياسية ، كما أنها – الهوية – المرآة التي تعكس شبكات الجماعات الرمزية وتصوراتها الموروثة أو الجديدة التي قامت متراكمة فوق بعضها ، واعتقدت الجماعة أنها بنكها الثقافي التداولي الضاغط على الآخر البعيد والقريب ، هذا النوع من التفاعلات الثقافية هو الذي وضع الهوية أمام امتحان لاختبار مروياتها الخاصة المميزة للجماعات المنتمية لها مع اعتقاد جازم بأن المرويات خاصة بها تماماً ولذا كثيراً ما غذتها بالاستدعاءات والحضور من خلال تداولها وإقناع الآخر للقبول بها وتوظيفها كشكل من أشكال التفاعل الثقافي الذي ينطوي على تميز الجماعات وثورة في تكونات البنى الاجتماعية الخاصة بها . والتي تتشكل باعتبارها ملامح رمزية ومادية للجماعات ، مثلما هي تكوّن البطانة التخيلية لها وهنا يتضح تفرد جماعة ما عن غيرها لذا دائماً ما تكون التخيلات ذات خصوصية مميزة لجماعة معينة وأحياناً تصاغ مهجنة ، فيها ملامح وعناصر جماعة أخرى مجاورة أو بعيدة تقدم نوعاً واضحاً لتفاعل الثقافات وإدراك اختلافاتها كما قال لودوروف . وكثيراً ما تكون التغذية التبادلية سرية وتتحقق بشكل غير مباشر وفي أحيان أخرى تكون مباشرة ، لان تغذية المكونات الثقافية الرمزية دائماً ما تكون بطيئة وتستعين بتواريخ خاصة بها ذات صلة مباشرة بالجماعة ، وذاك التاريخ رمزي وفي أحيان أخرى موضوعي مثل سرود الخلاف بين الجماعات وعلاقاتها الدموية ومرويات لها علاقة بما يميز تلك الجماعة عن غيرها في بعض العناصر الخاصة بالمجال الأخلاقي وسرديات البطولة وما تنتجه من حقائق خاصة بالجماعة لكنها لم تكن إلا أوهامأ ً . وقال د . نادر كاظم – بعض الجماعات تشتق هويتها الخاصة بطريقة إيجابية من وعيها بما يميّزها وما يمثل الخصوصية لها ، في حين أن جماعات أخرى تشتق الشعور بهويتها بطريقة سلبية أي من خلال وعيها بخصوصيتها التي تتمثل فيما لا ينتمي الى الآخرين . وهذا يستلزم القول بأن الهوية ليست حقيقة موضوعية وواقعية وثابتة بل هي تمتلك واقعية متخيلة ( أن صح هذا التركيب ) لتحصل عليها من خلال عملية يسميها ادوارد سعيد وكيت وايتلام الاختلاق ويسميها مارتن برنال التلفيق والفبركة ويسميها بعض الانثربولوجيين بالتشكيل الرمزي للماضي والهوية ومن الأمثلة على ذلك تجريد الحضارة الاغريقية من عناصرها الافروآسيوية لتكون أوربية خالصة . هذا التداخل أو التفاعل كما قال تودوروف ، أو الحوار والتبادل الثقافي هو الذي يرسم أطراف الهوية في علاقتها مع الجماعات الأخرى / الهويات المجاورة والتي تعني الزمان والمكان كما قال د. فالح عبد الجبار ، الزمان والمكان لأنهما ينفتحان على تاريخ طويل وغير محدد ، وتاريخ شفاهي ومدون ومكان ثابت محدد ومعروف ، أو أماكن كثيرة متغيرة ، محكومة بالظروف الموضوعية التي تلزم جماعة ما بالتواجد في مكان  معين وينطبق هذا على الجماعات البدوية المرتحلة الى مكان آخر ، تاركة وراءها مجالاً مهماً من هويتها ومتقدمة نحو مكان آخر ليدخل وسيطاً في تكونات الهوية لاحقاً . وحيازات الهوية المستمرة هي التي تجعلها غير ثابتة وإنما متحركة ، ومنفتحة وخاضعة لسيرورات التشكل المستمر وتأخذ ما هو خاص بالآخر وتتعامل معه بوصفه مكوناً لها وملكاً رمزياً خاصاً بها .  وتظل الحدود والثوابت الرمزية الفاصلة بين الجماعات هي التي ترسم الهوية وتفاصيلها وهي مستجيبة للتكوينات الجديدة وضغوطها الرمزية التي لا تستطيع الحدود الرمزية على صّدها ومنع تسللها وتظل الهوية فضاءً واسعاً للتخيلات ، لأنها تستجيب لها وتنفتح لاستيعابها وهضمها والتعامل معها باعتبارها ثقافة خاصة بها وتبقى مستدعية للآخر وطاقاته الرمزية لذا تبقى الهوية خاضعة للسيرورة والارتحال والتأويل المستمر وكما قال د. نادر كاظم في كتابه المهم ( تمثيلات الآخر ) بأن الصراع على رسم حدود الهوية العرقية أو الثقافية هو ضرب من ضروب احتكار السلطة لحمل الناس على أن يروا ويعتقدوا ويعرفوا ويدركوا بالطريقة التي يريدها صاحب السلطة ، كذلك لفرض مشروعية تلك التقسيمات القائمة في العالم الاجتماعي ، ومن ثم لخلق الجماعات أو تحطيمها .

الهوية ذاكرة الجماعات ومروياتها الشفاهية الخاصة بالذاكرة والتاريخ وهي – أيضاً – الماضي الخاص بالجماعة لذا دائماً ما يكون التبادل والقبول المستمر بالتواصل شكلاً  ، أشكال الحفاظ على ماضي الجماعة واستذكاره وتلقينه والتعامل معه باعتباره إرثاُ فاعلاً للانتقال من جيل الى آخر . هذا الإرث المتنوع [ قومي ، ديني ، عشائري ] لا يعيش في سلام دائم وإنما يقود صراعات مع الآخر مع مكوناته القديمة ، لكنه كثيراً ما يكون بحاجة الى وفاق رمزي وموضوعي ، لان الهويات تتفكك في الصراعات المادية وتوترها تشظيات لا تترك فراغاً واسعاً ، لان الهوية تستحضر بديلاً ثقافياً من خلال صيرورتها وبقاء تكونها مفتوحاً لذا فأن الهوية الخاصة بالجماعات متخيلة ، فهي إذن موزعة بين الموضوعي والوهمي وأشار نيتشه الى وهمية الحقائق وقال قبلاً أبن خلدون بأن الهوية أمر وهمي ومتخيل ، بمعنى أنها لا تستند بالضرورة على أسس واقعية موضوعية كرابطة الدم والسلالة ، بل أنها تقوم على الاختلاف المتخيل مع الآخرين من جهة والمماثلة المتخيلة بين أفراد الهوية من جهة أخرى وهو ما يسميه بيير بورديو بخلق التكتل الوهمي بين أفراد الجماعات ، بمعنى العمل على خلق قرابة متخيلة وصلة مختلفة ، وهذا ما يجعل من الهويات والقرابات قابلة للتقلب والتحول من عصر الى آخر / د. نادر كاظم م تمثيلات الآخر : 61 ]