الشاعر ميمون صالح،.. بين رفض الواقع والتيه الشعري - وجدان عبدالعزيز

  • 25-11-2020, 13:04
  • نقد
  • 1 119 مشاهدة

وانا اتمعن في ديوان (عبق الخطيئة) للشاعر ميمون صالح، كان لابد لي ان اعطي اضاءة لمعالم الحداثة ظاهرا وباطنا، كي اعيش صراعات الشاعر وديوانه (عبق الخطيئة)، فالحداثة، هي الشيء الجديد، والذي يعطي صورة معاكسة عن الشيء القديم، وقد تُعرف أيضاً بأنها: الانتقال من حالة قديمة إلى حالة جديدة، تشمل وجود تغيير ما، ومن خصائصها انها ساهمت في تطوّر العديد من المجالات الاقتصاديّة، والصناعية، حيث ظهرت أجهزة إلكترونيّة لم تكن معروفة مسبقاً، كانت قد ساعدت على توفير الوقت، عن طريق الاعتماد على وسائل الاتصال الحديثة، وساهمت في تغير الأفكار السائدة عند الناس، فاعتبرت الحداثة الأمور التراثيّة والتقليدية أشياء قديمة ممكن استثمار روحها لتواكب العصر الحديث، ثم ان الحداثة غيّرت من الصورة النمطيّة للمجتمعات، وحينما نطالع التاريخ باحداثه المتميزة، نجد ان حملة نابليون على مصر عام 1798  بمثابة صدمة حضارية للعرب والمسلمين، الذين وجدوا أنفسهم وجهاً لوجه مع الغرب المتقدم علمياً وتكنولوجياً، وهو يملك أسباب وأدوات الحضارة والمدنية والمعرفة ويهيمن عليها.. هذه الصدمة هزت صورة الشرق العريق مهبط الأديان والحضارات وجعلته يدرك الواقع ويعيه... إذ اكتشف فجأة أنه متأخر والآخر متقدم عليه وشعر بالهوة الحضارية، وأن الغرب سبقه خمسة قرون، هذا الأمر أيضا أعطى للأدباء والشعراء حافزا لروح التمرد والتطلع نحو آفاق التغيير وانفتاح الرؤى على الحياة والكون بنظرة جديدة، فمنذ منتصف القرن التاسع عشر أخذ العرب يتطلعون إلى تغيير الواقع الفكري والاجتماعي والثقافي وفق رؤية منفتحة على الحضارات وفتحوا أبواب الحوار مع الثقافات الأخرى، ومواكبة أفكار التقدم والتطور الاجتماعي، فالحداثة لم تولد للشعر .. انما لمجمل الثقافة الروحية والمادية من ابداع ونقد وفكر وفلسفة وعلوم ومجتمع وعلمانية وانتاج اقتصادي مادي (الخيرات المادية)، وكل ما يخص الحياة الإنسانية بأبعادها المادية والروحية، وهي صورة مغايرة لكل ما سبقها من فكر واتجاهات ثقافية وفلسفة وإيمان مغلق، وانا اميل مع مصطلح التحديث والتجديد للوصول الى مواكبة الحياة واكتشاف خباياها والخروج من نمطية الرتابة والتقليد، وقد اقف محايدا للدعوات، التي تقول بالحداثة الناسفة والهادمة، ومن ثم بدء البناء ودعوة "قتل الله" فانا ارى الحداثة تجديد كتعاقب الليل والنهار، فالشعر كان حديثا ومستوعبا لرؤى الانسان في البحور الخليلية، بعدها تحول منها الى تفعيلات هذه البحور، وحينما عجزت التفعيلات عن استعياب رؤى الشعراء ونبوءات العصر الصادمة، تحولوا الى النثر وصبغوا عليه سمات الشعر، وواكبوا تقلبات الحياة وارهاصاتها، ونحن اذ نطالع ديوان (عبق الخطيئة) نجده خليطا من التفعيلات والنثر، غير ان الشاعر ميمون صاغ حداثة من طراز خاص في الديوان، وراح يتصارع مع اللغة في انزياحاتها الشكلية ومضامينها، بحثا عن رؤية استعيابية لواقع مرفوض من قبل الشاعر، وهنا يبقى عامل التحقق افتراضيا، عند حدود الامكان، كون الشعر تيه، ومشروعا غير مكتمل، وهكذا عاش الشاعر ميمون مشروعه الافتراضي، يقول :

(لم تعد احلامنا شاهقة

تهاوى سقف الامنيات

الى وحل اقدامنا المتهالكة من عبثية الخطى

لا بساط للريح

المارد كذبة

تعبنا من فرك المصباح بأصابع الأمل

لا شيء

سوى محطات بائسة

تحملنا من فجر كالح

لليل اخرق)

وهنا عاش المعنى وتقلابته، وفقا للغته الخاصة، التي اجترحها، فحول اللامرئي الاحلام الى مرئي، وكذا الامنيات بقوله : (لم تعد احلامنا شاهقة/تهاوى سقف الامنيات)، وكان بحثه الجمالي عن ضياء فجر لليل مرفوض، حسب رؤية الشاعر نفسه، لذا وصمه بالاخرق، وحملت كلماته سخرية من الواقع، الذي يتأمل ان يتغير من كلمات دلت على استحالة تغييره، كلمات (المارد كذبة)، وعبارة (تعبنا من فرك المصباح بأصابع الأمل)، اي الخروج من الافكار الساذجة الى افكار مضيئة قادرة على التغيير، هذه المعطيات المتشظية بين الكلمات اظهرت حالة الرفض، التي اشرنا لها، وفي قصيدة (إدعاء) تتوضح رؤيته بقوله :

(أنا ادعي الكتابةَ

كعابثٍ يدونُ ما لا يُفهمُ

على هامشِ الجدران

حضوركِ وحدهُ يخصبُ المعنى

حينَ تدخلَ المفردةُ في رحمِ البوح

سريرُ الورقِ الابيضِ

يكفي أن ننامَ معاً

في بيتٍ من الشعرِ المدورِ بلا فاصلة

نداعبُ فرحنا البكرَ بأنامل الوله

نقذفُ الحزنَ عميقاً كي لا يعودُ منهُ النزف

هكذا يتشكلُ جنيننا من جنوننا

وتولدُ القصيدة)

فعبثية الواقع وضغوطاته واوجاع الحياة، وتقدم الاخر المتمثل بالانسان الحضاري الغربي، دفعت بالشاعر ان يوصم كتاباته، انها محضّ ادعاء، وفعلها (كعابثٍ يدونُ ما لا يُفهمُ/على هامشِ الجدران)، ورسم من خلال قصيدته (إدعـــــــــاء) لوحة وجع داعبت الوان كلماتها روحه الرافضة، والتي تحاول اعادة هندسة طريق البحث عن الفرح (في بيتٍ من الشعرِ المدورِ بلا فاصلة)، فـ(حينَ تدخلَ المفردةُ في رحمِ البوح)، قد (..تولدُ القصيدة)، هذه الرؤية التنبؤية لديه، جعلت منه منفعلا وقلقا يحمل روح البحث عن الحقيقة .. فهو يقول في قصيدة (خذلان) :

(اعتذرُ لموتي

حينَ لمْ اكنْ استحقهُ منك ..

أنا الآن اولدُ مِنْ جديد

بلا نكهةِ بكاءٍ او ذكرى

بُعثتُ بينَ ذاتِ القوم

ولنْ يصدقَ احداً نبوءتي

ولا ميتتي التالية . . )

فكان يتأمل ان يُصدقَ احد ما نبؤته، أو حتى هو بدأ يُشكك في مساحات بحثه، وهكذا تتواصل انفعالاته، ولكننا قد نجد بعضا من الاجوبة في قصيدته (أسئــــــلة ؟)

(الاطفالُ يسألونكَ عن آبائهم

والامهاتُ تخنقها الاجوبة

ولا يجدنَ حلاً سوى السماء

دعهم يكبرون

بسرعة الموت الّذي خطف ضحكاتهم ليفهموا

او اطفئ الحرب

لتكن معجزتك

انا ايضاً تَعِبتُ

من اقناعِ نفسي بأنها ليست رغبتك)

فالجواب الافتراضي، قد يكون في اطفاء اوار الحرب، كون الحرب هي الولودة الخصبة لكل ويلات الانسانية واوجاعها، واثارها مدمرة للحرث والارض، فذكر الحرب كأحدى معوقات التقدم الحضاري الانساني، لكنه جعلها تحمل اوصاب اخرى، الا وهي اثارها النفسية والاجتماعية، التي تمخضت من خلال تدمير الاقتصاد العامل الاهم في البناء الحضاري، فلاغرو ان نجد الشاعر ميمون صالح، قد تحول الى انسانٍ متمرد ثائرٍ لايقنع بشيء البتة، وهذا جعله يتقلب في صوره الشعرية .. تمثلت هذه الامور في قصيدته (ضـ جــ يــــــ ج) من خلال قوله :

(الصراخُ قد يكونُ عتاباً

او دعاءً تكرَّر ولم يلبهِ الرّب

من يشتم النهر

يلوم الماء الّذي ابتلع حلمه الصغير

من يلعن الابواب المغلقة

يحلم بنافذة مطلة على الوطن

من يبصق على الصحو

يقبل الثمالة من شفاه الفودكا

حتى اللصوص

يسبّون القمر والفاقة ويقدسون العتمة

وحدهم الشعراء

يشتمون انفسهم

حين يكتبون كل هذا الضـ جـ يـ ج)

اذن قصائده يصاحبها ضجيج الرفض، بل تخلق منه رافضا مدمنا، يرفض كل شيء، وما انفك يشتم نفسه، ومن خلال هذا نجترح مشروعه المخفي في افتراضات البديل .. بيد ان هذا المشروع لازال في طور التكون واحتمالية تحقيقه في ارضٍ غير ارض الشعر ...