همس الياسمين ولهيب الإيمان

  • اليوم, 00:11
  • قصة قصيرة
  • 7 مشاهدة

همس الياسمين ولهيب الإيمان

حكايات طفل في زمن المنع

في زمنٍ كان فيه اسم "الحسين" همسةً تُتلى خلف الأبواب الموصدة، لا صرخةً تُعلن في الساحات، كنتُ طفلاً صغيرًا في قريتنا، گطران زغير، الواقعة في الجازرية، جنوب بابل، بين الكفل والحلة. كانت عقارب الساعة تدور بثقلٍ، مُثقلةً بظلٍّ قاسٍ ألَقاهُ طاغيةٌ كصدام على كلّ شيءٍ، حتى على أرواحِ مشتاقةٍ لأرضِ كربلاء. زيارةُ الضريحِ كانت تُهمةً، والشوقُ إليهِ جريمةً تُعاقبُ عليها الأيام.

لكنَّ القلوبَ لا تعرفُ المنعَ، والإيمانَ لا يُكبّلهُ الخوف. ففي بيوتٍ بسيطةٍ، كنقاءِ قلوبِ أصحابها من عشيرة خفاجة، كان ينبضُ عالمٌ آخرُ بالحبِّ والتفاني. لم تكن جدرانُ طينِنا مجردَ حجارةٍ؛ بل كانت حصونًا دافئةً تحتضنُ زائرينَ تاهوا في دروبِ الخوفِ، قَصدوا عشقًا أَبْهَظَ عليهم أرواحَهم. كنّا نترقبُ قدومَهم كفرحةِ العيدِ، وإن كانَ العيدُ مُغمّسًا بمرارةِ المخاطر.

ببراءةِ طفلٍ لا يعرفُ المستحيلَ، وبحسٍ حسينيٍّ تجذّرَ في أعماقِ الفطرةِ، صنعنا من دروبِ الموتِ مساراتٍ للحياة. لم تكن هناكَ خرائطُ تُشيرُ، بل أسهمٌ نُخطّها على ترابِ الأرضِ الصامتةِ، وقصاصاتُ قماشٍ باليةٍ نُعلّقها على أغصانِ الشجرِ كشواهدَ تضيءُ نهارًا. ومعَ هبوطِ الليلِ، حينَ يلفّ الظلامُ كلَّ زاويةٍ ويزدادُ صوتُ الخوفِ، كانت مصابيحُ النارِ التي نُوقدها دليلًا ونورًا في عتمةِ الدروبِ، بل في عتمةِ الأرواحِ التائهة.

وصلَ الزوارُ، مُتخفّينَ في ثيابٍ باليةٍ كأنهم أهلُ القرى، يحملونَ آلاتٍ زراعيةٍ وكأنهم عائدونَ من يومٍ شاقٍ في الحقولِ، يتوارونَ عن عيونٍ ترصدهم. وهنا، كنا نحنُ الأطفالُ، براءتُنا سلاحٌ، وحبّنا دافعٌ، نُصبحُ عيونَ الطريقِ الخفيةِ. نُسلّمُهم من يدٍ إلى يدٍ، من زقاقٍ إلى آخر، كأننا نُسلّمُ ورودًا عطرةً، في مهمةٍ مقدسةٍ لا تعرفُ الخوفَ.

لكنَّ الخدمةَ لم تكنْ سهلةً؛ ففي قلبِ هذا السعيِّ النبيلِ، كانَ هناكَ همٌّ خفيٌّ يثقلُ كواهلنا، همٌّ أكبرُ يطاردنا كظلٍّ لا يغيب: همُّ الطعامِ. فمعَ كلِّ قادمٍ جديدٍ، كانت قدورُ الطعامِ التي أعدتها أيادي عمّاتي الكريمةِ تُصبحُ أشدَّ فراغًا. كان الحزنُ يعتصرُ قلوبنا الصغيرةَ كلما لمحنا قعرَ الأواني، وشعورٌ بالعجزِ يتسللُ إلينا. لكنَّ عمّاتي، كنَّ بطلاتٍ لا يُعرفُ اليأسُ لهنَّ طريقًا، يطهون بفيضٍ من الحبِّ، وكأنَّ كلَّ لقمةٍ تُغذي أجسادًا مُتعبةً كانت تروي أرواحًا عطشى.

وما أنْ يشتدَّ الليلُ، حتى تنبعثَ الحياةُ في بيوتنا على ضوءٍ خافتٍ، يكادُ لا يُرى، خشيةَ أنْ يُفشى سرُّنا. أصواتٌ خافتةٌ، لكنها عميقةٌ، كانت تتلو القصائدَ الحسينيةَ. كلماتٌ محملةٌ بلوعةِ الشوقِ وألمِ الفراقِ، تنبعثُ كهمسِ الإيمانِ في أذنِ الليلِ، تغذي الأرواحَ وتجددُ العزائمَ، رغمَ الخوفِ الدائمِ من قدومِ جماعاتِ حزبِ البعثِ الظالمةِ التي كانت تجوبُ القرى كأشباحٍ مُرعبة.

لم يكن خطرُ هؤلاءِ الأشباحِ مجردَ وهمٍ؛ ففي بعضِ الأحيانِ، كانت نفوسُهم الضعيفةُ، وطمعُهم الدنيءُ، يدفعُهم للمساومةِ. كانوا يأتونَ طالبينَ "الحنطةَ" مقابلَ غضِّ الطرفِ عن زوارِنا. ولم نترددْ لحظةً! فالمساومةُ على طعامنا كانت أهونَ بكثيرٍ من تعريضِ أرواحٍ جاءت تطلبُ العشقَ للخطرِ. كنّا نقدمُ لهم الحنطةَ كفداءٍ لكلِّ شيءٍ، فما قيمةُ أيِّ متاعٍ أمامَ قدسيةِ زوارِ أبي الشهداء؟ كانت تلكَ اللحظاتُ اختبارًا قاسيًا، يزيدنا يقينًا ببركةِ دربنا.

ومن بينِ كلِّ تلكَ التحدياتِ، كنا نلمسُ معجزاتٍ صغيرةً تُثبتُ أنَّ يدًا خفيةً كانت تُدبرُ الأمرَ؛ فكثيرًا ما كانَ الطعامُ في القدورِ يتكثّرُ، لا ينفدُ، وكأنهُ مباركٌ بقدرةٍ سماويةٍ، يكفي جميعَ الزوارِ حتى يعودَ والدي وأعمامي مرةً أخرى. كانا يتسابقانِ الزمنَ، يتحدّيانِ الحواجزَ والنقاطَ التفتيشيةَ، مُخاطرينَ بحياتهما لجلبِ المؤنِ الجديدةِ من المدينة. كلُّ كيلومترٍ يقطعانهِ كان صلاةً، وكلُّ لقمةٍ يجلبانها كانت معجزةً بحدِّ ذاتها.

تلكَ الأيامُ، ورغمَ قسوتها وتهديداتها، كانت الأجملَ والأعمقَ في روحي. كانت خدمةُ الحسينِ على الفطرةِ؛ لا تحتاجُ إلى قانونٍ أو إذنٍ، بل تنبعُ من أعماقِ الروحِ لتصنعَ من براءةِ الطفولةِ وعمقِ الإيمانِ، إصرارًا وعزيمةً، بل تحديًا أسطوريًا يُخلّدُ في ذاكرةِ القلوبِ.

.......... 

د. محمد حامد الخفاجي 

العراق، بابل

..........

بقلمي من سلسلة صراع الأجيال

تتحدث عن الحقبة السابقة في ظل النظام البائد قصة حقيقية من طفولتنا وخدمة سيد الشهداء