المراثي تستدعي الغائب / ناجح المعموري

  • 4-04-2023, 18:46
  • نقد
  • 450 مشاهدة

تحمست كثيراً لشاعر ، اطلعت على تجربته البدئية المبكرة ، وكأن قد جازف عن البطولة الملحمية وحقق نجاحاً ، على الرغم من الملك جلجامش وملحمته هي تجربة فيها مغامرة وقصدية نحو تجديد التجارب والسعي للابتكار . ولذا عرف هو أشياء عن العالم ، الذي تسللت اليه وحاولت اختراق ما يمكن منه وتعرفت على ذكاء منذر عبد الحر مبتكر سلسال في نصه " هذه مزحتنا الاخيرة " وهذا عنصر بنائي جديد ، لم يكن معروفاً ومألوفاً في الحداثة الشعرية ، لكني أعتقد بأنه التقط التداخل ، بين الوحدات السردية في الملحمة ، وبرع بالتقاطها واتضحت لي في هذا النص ، عبر استثمار مدهش ، عندما استعاد بدئية النص " كل ضحكة غرسناها " أفصحت عن وردة " قال هايدجر اللغة بيت الشعر ، ولدى منذر اللغة بيت الورد ، وشحنات اللحظة التي منذ بدئية المخلق والتكوين ، ارتضت مجبرة أن تكون لحظات مزدحمة بالأحزان على الاصدقاء ، الذين شحنهم الموت . مع هبوب الغبار الاسود . وهذه اللحظات هي مزودة من الملحمة ، التي عرفها . وكتب عنها . وظلت تغذية بما هو جديد ومبتكر :

أعلم أنك تخبئ في غدك أنباء 

عن ميتات لا تنتهي 

عن عربات تأخذنا من براثن الحياة 

واحداً .... واحداً 

قف بعيداً 

لا تملك قلباً 

أما تملك عينين تبصران لوعة معذبيك 

وأنت أيها الموت 

يا صرخة الدنيا بوجوهنا 

امهلنا قليلاً 

نريد أن نودع بعضنا بضحكة أخيرة 

وربما يتوق أحدنا لغناء ألم جديد 

لم يرد منذر عبد الحر إفساد حضور البدئية النصية ، الموظفة للملحمة ، كما ذكرت لذا لم يكثر من الإشارات المعبرة عن الحلم . فالضحكة تحولت كائناً حياً ، غرسها الصديقان وأينعت أكثر ، فذهبت نحو الفصاحة ، صارت وردة واحدة فقط ، هذا ما قاله النص . يبدو لي بأن الأرض تمكنت من الإعلان ، وما تحقق مثير ، ومدهش ، ودائماً ما يفضي الشعر لذلك . ومعروف لكل نص جمالياته وادهاشاته الممنوحة له . من اكتماله . وجدته غير المعروفة . ومستحيل أن تحوز الزهرة / عطر الحديقة كلها ، وبعيداً عن الذي يحوط الواحد بالمتعدد وإنه يبقى خيطاً من نسيج متناغم صدى ليبدو متجانسة ، وردة في اضمامة واحدة . الضحكة غرس الشجرة ، الموعد ، الحزن ، الانتظار ، لهفة الترقب ، البكاء ، البريكان . سعدي يوسف ، الموت . وهذه المفردة لا تستمر مثلما ألفت الملاحم . لأن هذا النص استعان بالملحمة وسيمتد معها ، يوظف ما تعطيه من جمال ودهشات ، لأن النص هاو للابقاء على الحياة . لأن اليومي لا يتحول ملحمي ، اليومي حروب مكتظة بالموت :

وأنت أيها الموت 

يا صرخة الدنيا بوجوهنا 

امهلنا قليلاً .

نريد أن نودع بعضنا بضحكة أخيرة 

وربما يتوق أحدنا لغناء ألم جديد 

قف قليلاً 

تأمل جراحنا 

وأحص الزهور التي أسقطتها

من شجرتنا الوحيدة 

للاسطورة حضور مهذب ، جليل ، مهيب ، لم يألفه أحد في مكتوب سابق . منذر هو الوحيد الذي اختار واندهش ، صفق لما عرف ، وذاب به ، ودنا منه مكافحاً ، بما انطوى عليه من طاقة ، لمقاومة الحزن . الوجع وله أسطورته الجديدة ، التي أدخلها مساحة اللعب . كتابة الشعر لعب ، وليونة ، ورقص ، وغناء ، هذه نتاج البدئية ، وكأنها تستولد ما تعارفت عليه . وكان جميلاً ومثيراً وكان اسطورة استولدتها الضحكة ، وارتضت الادخال المنحرف ، وظيفياً واندفع للغرس ، أينع عن شجرة الحياة والحب . التوقع غير المرغوب ، الذي طارده الكائن . منذ لحظة الخلق والتكوين ، مثير الاحزان ، والمراثي ، والمفرق بين الاصدقاء ، والعشاق . صدمة غير متوقعة ، هو المرجح بالتريث والانتظار قليلاً ، هذه أمنية الشاعر ، المطوق على الألم . لديه أمل بسيط ، سهل وممكن أن يدعه قليلاً ، حتى يودع صديقه بضحكة أخيرة ، وهما يرغبان معاً . أو أحدهما . أن يغني ويدفع الألم الجديد الكامن في جوانب كل واحد منهما . وتوارث الافراد والجماعات طقوساً هي مزاولات ملحة وضرورية لتأدية الواجب المتأسس بالباقي عبر التواتر ، ومنها الغناء والحزن وساد نمط ثنائي بكاء وغناء في آن واحد . وأطلق الشاعر صوتاً حاداً . انشحن بالقوة والشجاعة التي تداولها رجال في الأزمات الملحمية : الكلام واضح يتبدّى عن الجرأة والاحتمال والصبر . كي يعبروا عن ديمومة الحياة وسيرورة السردية المعنية بالبرجال . قف قليلاً ، تأمل جراحنا . والدعوة واضحة ضد الموت ، لأن حركيته تجعل الكائن ، العاشق ، خارج محيط الحياة . كل تفاصيل هذا النص مكون بنائي للنص الملحمي . ومن هنا حلت الاسطورة الهادئة ، المرنة ، التي لا يتوقعها متلق ، لكنها لم تكن من فضاء بعيد ، وغريب ، اسطورة الحزن والفجيعة . وما أشارت له مرويات تفاصيل نص " هي فرحتنا الأخيرة " والجوهري بالنسبة لي أنا القارئ الذي فركت الاستهلال ونثر عليّ رائحة الأسطورة التي اعترفت عبر مرثية الصديق الممجد والذي " كل وجع صمتنا أمامنا / غنت ذكرياتنا / لنرسم معاً قارباً / ودعاة خضراً أياماً لاذ خوفنا بظله / محمد علوان جبر حاضر ، فجر بلل الحزن والفجيعة . صديق منحنا لحظة التشارك بين البكاء والغناء ، طقس النسوة المثير للشجن والانقطاع " لأن تفاصيل البطل المكتوبة عنه تصورات شعرية ، جعلته أسطورة ، واستعارت له انبعاثاً مجيداً من سرديات الآلهة الشابة . وأقواهم حضوراً دموزي . الذي نزف دماً وأينع زهر النعمان ، وتجدد الانبعاث للغائب لا يتشابه مع دموزي / تموز حسب مرويات عشتروت . انتشرت زهوره ولم يعد بالإمكان احصائها ، فما تساقط من الشجرة كثيراً ، وظل الغائب موجوداً وله حضور واكتسب حياة مختلفة ، مغايرة لتضغط سيرورة السردية الملحمية على معاودة الانتباه لاحتمال اللحظة المطلوبة . من هنا ضغط استهلال النص على متتاليات النص وعناصر المرحلة من أجل معاودة السيرورة الضرورية ذات العلاقة بالضحكة . وكأن الشاعر الموجوع يوظف الضحكة ليجعلها انبعاثاً ، من خلال الغرس ، وتهب الوردة ، الوردة التي لا تشبه أزهار النعمان في الاسطورة . من كل هذا كتب منذر عبد الحر أسطورة غائبة مغايرة ، هذا مجد الابتكار الذي زحف اليه الشاعر ، بتأن وهدوء ، وهو يرتل نصه الرثائي ، ودعا الغائب للغناء معه . ونجح ما أراده الشاعر وتوقعه النص ، وتغيرت عناصر المراثي ، وابتكرت جمال الصوت . الذي يتمظهر دائماً مخنوقاً مكبوتاً :

قف قليلاً 

أرجوك 

تأمل صوري معك 

كأني أهمس للسماء 

مدركاً أنها فرحتنا الاخيرة 

أعلمُ أن قلبك ما عاد قادراً

على جرح فقدان جديد

لذلك حملت زوادة الشجن 

وطويت بساطك 

راحلاً .

التعاشق لا ينقطع في النص ، بين الكلام الحائز على تجوهر وجوده ، منذ بدئية نص فرحتنا الاخيرة ، منحها خاتمة النص في العطاء والكرم ، فالضحك صار غرساً ، وامتد مع تحولات الغائب ، والباقي ممسكاً بالتواتر . المتعارف عليه ، في ملاحم غرس الشجعان ، وكأن محمد جبر الابرز فيما بينهما .

عندما أقرأ منذر عبد الحر ، أجده يرسم زهوراً ، وينثر لها بذوراً ، وهكذا يؤسس عتبة لأسطورته غير المعهودة من قبل . والغائب لم يكن هكذا ، لأننا نراه ونبتسم له ونلوح له . بالأصابع ونرد بصوت مسموع " أنكيدو " يفرح ويرفع رأسه ويتصالح معنا طويلاً بمعنى منذر عبد الحر لا تؤخذه القراءة بوصفها تأويلاً مجداً ومقروءً واحداً ، هذه الملاحظة بارزة في نصه الرثائي ومن السمات الأوضح والجديدة تغيب الحزن وسيادة الفرح والتبشير به وهذا من خصائص منذر عبد الحر . الغائب حاضر ينتظرنا كي نومئ له بالسعادة . حتى لا ينسى مساء سعادته وشفافيته ، وهكذا تكون فرحة الدلالة التي تعطيها الاسطورة . وارتضت تجيء لي ، أنا وحدي ، من القادر يتلمسها وسط تشيع ثنائي من الرثاء والغناء ضمن نشيد اللذائذ " الذي شاء صاحبه أن يوقعه بصوتين ، صوت البطل الذي يعذب ويروي عذاباته ، صوت الكورس الذي لا يتعذب ، ولا يفهم شيئاً من عذابات البطل . عندما نقرأ الشاعر نراه يشتم . وعندما نفهمه نرى أنه يتمزق ./ د. عبد الكريم حسن / ص96 .