أساطير لم تكتمل بعد - ناظم ناصر القريشي

  • 3-02-2021, 19:52
  • نقد
  • 858 مشاهدة


 قراءة في ديوان (جمهورية البرتقال) للشاعر ابراهيم الخياط


كما الضوء يهمس في عتمة الليل بكلمات النور , في منتصف الدم ... منتصف الوقت ... منتصف الضوء ... منتصف الحلم ,سينمو المطر في ذاكرة الرغبة ,لكن الحرث و الغيم لا يستجيب للذكريات حيث الشاعر , قاب قتلين أو أدنى , فحقّ عليه القول , بعد أن فرهت أحلامه وهو رهين الوقت والكلمات والتمرد الذي يعبر عنه بإبداعه مرتبط ارتباط جوهري بفهمه للحياة و عشقه الحرية التي لم يطمئن إليها يوما , وهنا تسطع أكثر الأحلام عنفوانا و السعي الى تحقيقها ؛ و أذا أردنا كشف مسار تجربة الشاعر أبراهيم الخياط بجميع محطاتها  علينا تتبع هذه الأحلام في ديوانه ( جمهورية البرتقال) والصادر عن دار الشؤون الثقافية  ؛ أن تتبع هذه الأحلام و حلولها في الدهشة و هي تتكون تكوينها الطيفي و تتغلف بشاعريتها و تتدفق مع الكلمات , حيث صارت القصيدة مكانا لتجسيدها ,  فتغيب ذات الشاعر الأولى و تظهر بتجلياتها و إشراقها مع الكلمات في القصيدة , و هو ينظر الى روحه التي تشعبت بين الأحلام و الكلمات ؛تتجاذبه الأفكار , فكتب وهو يهديني ديوانه ( أسفي عظيم أذا لم تكن ثمة جمهورية أو برتقالات حتى ) وهذا برأيي ما دعاه ليخرج من القصيدة ككتابة ويدخل في قصيدة الحياة , فيقول الشاعر في قصيدة (كاسب كار )

( و صار يبكي

بعد الحزن الأربعين

على رجيف ناياته

حتى

صار يعلم

أن البحر صغير

وأن السماء دون عيونه)

أن رجيف النايات واضطرابها ,ربما يذكرنا برواية هرمان هسه  كلنكسر في صيف الأخير , وبطلها الرسام و هو يصغي الى نفسه والكائنات من حوله لعله يجد جواب لأسئلته الوجودية  , أو يذكرنا بصورة الفنان في شبابه لجيمس جويس وأفكاره التي تتدفق عبر الكلمات , لكن هنا لغة الشاعر وسعت فكره ولحظته الشعرية اتكأت أيضا على مرجعياته المعرفية والثقافية و التراثية ، فهي أضافت الى رمزيته التي احتوت على واقعه و الذي سيعمل خياله على استلهام بيئته ليضيف إليها الكثير , فتداخل النص و الواقع , و الخيال و الحلم , بقصدية التجاوز ؛ و هنا نسأل هل الكلمات تصطفي الفكرة أم الفكرة التي تصطفي الكلمات ، و الحلم قيد التشكل دائما . و التمرد يبعث على الأمل المتجدد في كونه الشعري فيقول ابراهيم الخياط في قصيدة ( الضجة الصديقة )

ترى ـ أمن الضجة كل ما بي ؟

فعند التقاء المساءات

صامتا أفردت بعضي

ورتّقت بعضي بالجلنار

أحرقت دمعي

( و هل دمعي غير ماء ؟ )

وهنا سنجد سبب اختيار هذه الكلمات لأنها الأثيرة الى نفسه القريبة الى العرفان بنبرتها الصوفية و تطابقها مع الفكرة فتجعلها أكثر أشعاعا للمعاني ومن ثم التأويل الذي سيرتكز على معنى التحول في النص الذي يجعل من حضور اللحظة الشعرية أكثر انتشاء و هي تنسجم مع ذات الشاعر و تجسد الفكرة التي سعى إليها , فإطفاء الروح كطعم الغربة , كطعم نبقته  ؛ فكثافة الأحساس بالزمن عبر اللحظة التي تولد في أفق الشاعر تعادل زمن أخر نعبر إليه عبر كلمات الشاعر  للضفة الأخر التي نحن تواقون للوصول إليها ؛إنها الرؤية التي يكشف فيها الشاعر عن نفسه جاعلا من الصور التي يبتكرها  دالة ديناميكية لما يمكن أن  يصبح الحلم نفسه مكاناً لتأكيد الوجود ، و هكذا الشعر بفضائه الرحب فيقول في نفس القصيدة

فعند التقاء المدارات

شاعرا أطلقت قلبي

وسميت عشقي برتقالا

أسكنت حرفي

حيث اختلاف الدروب

إن نشوء القصيدة يعني إعادة تشكيلها للحياة من خلال بنيتها المتناثرة ، و أهمية الشاعر وما يدونه من أبداع تكمن في قدرته في معرفة كيف تفكر الكلمات بالمعنى وكيف ينفلت من مدارات الكلمة ليشكل الصور وينسكب كقوس قزح شفافا و لامعا يحمل رائحة المطر  في ذات القصيدة , و أيضا على البحث عن المعنى بين الفراغات التي تتركها الكلمات وهي تحلق في أفق تأويلها ، بينما روح الشاعر الخلاقة تلوح في البعيد بالتمني فيقول في قصيدة (امرأة الوجع الحلو ) :

مرة صاحبت القناطر,

ألفتها ,

فما عادت الأنهار تجهلني

بت أنا الفنار الذي تراوده عن نفسه

و لا أقول ..

............

تمنحني ضفة للجوار

و أخرى للحوار

و أخرى للخطاوي النبية

إذ تأخذ شكل أنثى

فتأخذني الضفاف

و لا أقول ..

أن الانفلات خارج حتمية الحياة أراها لحظة ممتدة في الزمن ، فهي تعيد خلق نفسها مع كل بداية ,لحياة أخرى غامضة لم نحصل عليها بعد . فالشاعر يحاول أن ينقل الأحلام من مطلق القصيدة الى الواقع ,هو يعرف ويعي تماما ما يريد ؛ فتتلبسه الأحلام بوصفها هاجسا تحاول أن تنجز ما لم ينجز كالأساطير التي لم تكتمل بعد على ورقته البيضاء , فكأن الكلمات تبدع رؤيتها في المسافة بين التأمل و التأويل و تؤجج ذاكرتنا وتشعل فيها شيء عن تلك الملامح العابرة فيقول في نفس القصيدة :

أجيء – كما الليل – عشيا

أهبط

بين فراتين اثنين

أنزوي في ألق العشب

ثم احكي للبساتين الصديقة

عن النار و النارنجة والناطور

الشاعر في تماس مع وعيه الشعري , فهو يبعث خلجات نفسه و أشجانه بوجودها لأقصى و الأثير و يجعل من أفكاره و رائحة البرتقال تسري مسرى الدم في القصيدة وهذا ما يميز شاعرية ابراهيم الخياط , فمنذ البدء ترافقنا الحسرة و الحلم الوحيد الذي يرفقنا هو العودة الى ذلك الفردوس المفقود هناك حيث الزمن والجمال مطلقان , فالشاعر يحاول جاهدا أن يسمو بكلماته حتى تعطي أقصى ما لديها و ينسجم أدائها مع أفكاره ، وبالتالي هي أدواته للتواصل , فالقصيدة تمتلئ بشاعرية انزياحاته التي تختفي خلف الكلمات أو معانيه التي تحوم كالفراشات حول النور ,إذ تمتزج فيها أسطورة العبث و ملحمة الاحتراق باتجاه التحول و الأبتكار والمغامرة وهذا ما سعى اليه الشاعر في لغته و أسلوبه فجعل من الشعر طريقا للحياة وهذا ما نؤيده وندعو اليه , ففي قصيدة (جمهورية البرتقال ) يقول :

بين الأسى

واستدارة النهر الذبيح

كانت خطاي

تنبئ بالجفاف

وتقرأ سورة الماء المدمى

أيامئذ

انتكس القلب مرة

و انتكس النهر مرات

فلم يبق لقلبي سوى ظل أنثى

ولم يبقى لنهرنا الشقي

سوى حثالة الأهل المتسربين

إن الناظر الى شاعرية ابراهيم الخياط سيجده قد واجه هواجسه فلم يكن بمقدوره ألا أن يكون قصيدة وان كل شيء جاهزاً لبدء الحلم في هذه القصيدة التي لم تبتعد عن التفعيله لكنها اقتربت من قصيدة النثر كثيرا , يخبرنا الشاعر الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (الكتابة ليست إلا حلم موجه ) والشاعر ابراهيم الخياط يخبرنا أن الشاعر هو الذي رأى كما دون كلكامش ذلك في ملحمته , فكان كما الحلاج موجة حلمه طواسينه , فكانت نواياه برق و أفكاره مطر