تشيؤ الفضاءات الشعرية في(أرض بدماء كثيرة)** لمحمد بنيس/كمال عبد الرحمن

  • 9-12-2023, 08:04
  • نقد
  • 399 مشاهدة

مما يؤسف له، ويثبت أن الحاسّة النقدية العربية تشتغل  في الغالب منها على الاجترار والتكرار، أنك ما ان تلفظ او تنطلق بكلمة واحدة، حتى تسمع الاصوات تعلو بالصراخ( فلان الفرنسي قال كذا)،و( أما السويسري.. فاعترض.. وقال)و( بينما الألماني قال كذا.. وكذا) في حين (أن العربي لم يقل شيئا.. وليس بإمكانه ان يقول..) لأنه عائش   أو يعيش على النقل الحرفي والاجترار والتكرار.. لا الابتكرار.

التشيؤ: برأي صديقي كمال ابو ديب"ضمور الجمال وتيبس النبض وهزال العنفوان في الاشياء: أي شحوب الحياة وانكسار التواريخ" هذا رأي نقلته بتصرف.

الفضاء:هو مفهوم مأخوذ في الأصل من " الفضاء الطبيعي"مثل الفضاء الخارجي والفضاء الداخلي، أي (الزمن) و( والمكان) و(الانسان) والموجودات الأخرى،كما ان مفهوم الفضاء يتسع  أحيانا ليشمل ( فضاء اللغة) و( فضاء النقد).. الخ.

أما الشعرية " ما ادراك ما الشعرية؟" فباستطاعة أي منا ان يؤلف كتابا من الف صفحة عنوانه ( الشعرية)، وهذا يشبه مقولة " ياكبسون": بأن الشعرية من كثرة تداخلها وتعقدها تشبه الحدود الادارية للصين" وهذا ايضا نقلناه بتصرف.

لكن الحقيقة ان الشعرية مرت بثلاث مراحل:

 الأولى : (مجموعة من الضوابط الجمالية التي تجعل العمل الأدبي أدبيا) والثانية:( الجمالية = الشعرية) والثالثة)  الشعرية هي تطوير لمفهموم الجمالية) .

إن عتبة العنوان " أرض بدماء كثيرة " تستجيب  منذ الوهلة الأولى  للإدهاش واللغزية من بداية القصيدة حتى نهايتها،فلاتجد ما يوحي بعلاقة المفردة بسردية الحدث، الى أن تقع المفاجأة  في أعماق النص ، وهي نحويا تتكون من مقطعين ( مبتدأ محذوف : هذه ) والثاني (خبر: أرض)، وهو من العناوين  التأويلية وفي هذا التشكيل  العتباتي   الذي يسعى الناص إلى رسم ملامح عنوانه ورفده بلغة عالية الشعرية وخاصة، تقوم على إيهام القارئ –للوهلة الأولى- بتعطيل العلاقة العملية بين العنوان والنص، الأمر الذي يترتب عليه الغوص عميقا في بحر القراءة بغية البحث عن العلاقة التي على أساسها تحاول نصية العنوان الإحالة إلى نصية النص، (1) ،فما الارض التي دماؤها كثيرة؟ أيدركها أحد غير العربي ، ليقول لك على الفور ( فلسطين .. انها فلسطين !)

فبين المرئي والمتخيَّل، تكمن حركيةُ النص، ومِن تداخلها ينشأ فضاءٌ مشحون بالحركة والصورة، يثير المتلقي ويستفزه للإبحار في لجج النص لكشف أسراره وصولاً إلى الغاية المتوخّاة من كل ذلك، والمتمثلة في الاستمتاع بلذّة النص التي تسجّل هنا مذاقاً خاصاً نابعاً من شعرية مغايرة تتفاعل فيها اللغةُ الشعرية على آليات التصوير لتثمر عن ذلك طاقاتٍ جديدة مكتسَبة تستجيب لمقاصد الرؤية البصرية، وضرورات اللغة الشعرية على النحو الذي يتيح للمتلقي فرصة تلقٍّ مزدوجة، تنهل من جمالية التصوير ذي الرؤية البصرية المباشرة، وجمالية القصيدة ذي الرؤيا التخيُّلية (2):

((شبح بعيد. دخان يتفرق في الجهات الأربع.أنباء متقطعة.إنهم هناك.فوق الارض. ينقلون عيونهم الى الارض الممنوعة.يمشون. منذ أول الصباح. لأجل أن يقفوا. فقط لأجل ان يقفوا.

                                    هناك الارض. لاارض سواها)).

إن الفاتحة النَّصّيّة في القصيدة  تعد واحدة من أهم عتبات الكتابة الشعرية، لما لها من دور بارز في حسم توجّه القصيدة وتشكيل رؤيتها وبيان نموذجها" (3)، وعلى هذا الأساس تعمل الفاتحة النَّصّيّة على الكشف عن مقولات القصيدة والتمهيد لأحداثها، فهي بذلك تكشف عن شعرية خاصة تشتغل على فاعلية التركيز العلامي وتبئيرها في منطقة حيوية مركّزة، إلى جانب اختزال الفاعلية الأدبية للرموز في ظلال هذه المنطقة وضخّها بطاقة إشعاع كثيفة تشتغل في منطقتها وتمتد إلى الاعلى حيث عتبة العنوان، وإلى الأسفل حيث طبقات المتن النصي، لذلك تُعَدّ عتبة الفاتحة النَّصّيّة، أخطر عتبة بنائية من عتبات الكتابة، كونها تقرر مصيرَ النص (4)، إذ إنها المحرّض الرئيس لسحب القارئ إلى منطقة النصّ، وعلى هذا الأساس فإن الفاتحة النَّصّيّة لمملكة القصيدة،غالبا ما تشكل نوعا من التماهي مع النص.

مايهمنا في دراسة قصيدة الشاعر بنيس هو (الارض :المكان) و(الزمن) و(الأنسان)،فالارض لاتشبه أرضا أخرى:

((هذا هو الصمت وديعة الذين يشهدون على ارض بدماء كثيرة.

غزة14/5/2018 قتلى. صمت يخترق حاجز الصراخ.وراءً.

ضمير العالم غلق النوافذ والابواب. دماء كثيرة.هللوية لحرية بدون حرية. لديموقراطية بدون ديموقراطية. لحقوق بدون لاحقوق ولاانسان.هللويا. نفاقكم وصل الى ارض بدماء كثيرة.غزة. عيناي. مفتحتان.أنظر اليك. غزة. في داخلي سكاكين الصمت تمزق الكلمات.أجل! أجل! ما يحدث. معتاد.وداعا يا كلام المنافقين.يقول لي الصمت . انصت اليه. من الارض. من ارض بدماء كثيرة يصعد الى حنجرتي.

                               مجرد كلام مبتذل.

حتى لاتغضب اللغة.فوق الارض ابناء غزة يتحركون.

يركضون؟ حاملين نازفا حتى الموت.

ما الذي كان يفعل؟.كان يسمي الارض بما تحب ان تكون. بما تحب ان تبقى. وهم من فوق ارضه يطلقون الرصاص عليه.يقتلون.

أرض بدماء كثيرة. غزة 14/5/2018. قتلى. قتلى. 

قتلى قتلى قتلى

أبناء فلسطين يسمون الارض بما تحب ان تكون))

وبما ان الفضاء الشعري يتشكل من جملة عناصر،لذلك يأتي التماسك البنيوي في النص من خلال هذه العلائق النصية   من (زمان) و(مكان) و(شخصية) و(حدث) و(ورؤية)، وقد اصبح المكان(( مفتاحا من مفاتيح استراتيجية النص بغرض تفكيكه واستنطاقه، والقبض على جماليات النص المختلفة))(5)

وقد صرح افلاطون بأول استعمال اصطلاحي للمكان، اذ عده حاويا وقابلا للشيء،فأخذ اهميته في البحث الفلسفي بعد هذه الاشارة،وقسم ارسطو المكان على قسمين: عام،وفيه الاجسام كلها،وخاص لايحتوي اكثر من جسم في آن واحد (6)،ولدينا عدد كبير من تقسيمات المكان:

1.قسم مول  ورمير المكان اربعة انواع حسب السلطة(7)

أ.عندي

ب. عند الاخرين

ت.أماكن عامة

ث. المكان المتناهي

2. وقسم بروب المكان على ثلاثة أنواع هي:

أ. المكان الاصل

ب. المكان الذي يحدث فيه الاختيار الترشيحي وهو مكان عرضي ووقتي

ت. المكان الذي يقع فيه الانجاز والاختيار الرئيس وقد سمّاه غريماس باللامكان.

وتجاوزنا عددا من تقسيمات المكان التي ذكرها(غالب هلسا وياسين النصير وشجاح العاني وغيرهم)أما بسبب تشابهها مع الاقسام السابقة أو تكرارها أو لاتخدم دراستنا هذه ،والشعرنة هي تطوير لمفهوم الجمالية كما نادى بها جاكبسون، اي سحر الوصف وجمالية اللفظ، ودقة التعبير.

واذا جئنا الى تقسيم بروب،فان بنيس نجده يشتغل قبل كل شيء على شعرنة( المكان الأصل)، حيث الأنتماء المصيري(اللذيذ ـ المؤلم) للجذور الاولى،(( حيث الأحساس بالمواطنة وأحساس آخر بالزمن..فكان..وكان: رمزا،وتأريخا قديما وآخر معاصرا،شرائح وقطاعات،مدنا وقرى، وأخرى اشبه بالخيال كيانا تتلمسه وتراه))(8) :

(( متى نشأت؟. لااعرف. وهم هناك.أبناء فلسطين في شساعة الارض كانوا. في ارض كنعان كانوا. مع الريح  الزرقاء كانوا. مع اشجار الزيتون. في حقول مشمسة كانوا. مع امواج المتوسط  ومراكبهم كانوا. مع صلواتهم في القدس كانوا. هنا الارض. لاارض سواها.

في اول الصباح يمشون. أبناء فلسطين. عيونهم نشيد.

أرض. هي قطعة من الارض. القى عليها هيرودوت السلام. عبر صلة وصل مع الشام. 

أختان تلعبان . في فناء مشترك. ))

ان المكان في القصيدة السيرية ــ اذا قلنا بان هذه القصيدة هي سيرة وطن ـــ هوأحد الأركان الرئيسة التي تقوم عليها العملية السردية حدثا،وشخصية،وزمنا،فهو الشاشة المشهدية العاكسة والمجسدة لحركته وفاعليته(9) ولكن هذه المركزية التي يتمتع بها المكان لاتعني تفوقا أو رجحانا على بقية المكونات السردية الأخرى وانما هي ناجمة في الأساس عن الوظيفة التأطيرية والديكورية التي يؤديها المكان(10) وتميل قصيدة ( أرض بدماء كثيرة) الى تمثيل حالات انسانية واخرى وجدانية خاصة،تستمد فضاءاتها من الواقع الفلسطيني/ العربي  والمعايش اخلاقيا وانسانيا ووجدانيا من  الشاعر بنيس ، وتنمو القصيدة فنيا باتجاه بنية الإطالة والإستطالة أحيانا رغم كثافة التركيز، وعلى الرغم من ثراء قاموسه اللغوي وخصبه وتنوعه الا انه يبدو دقيقا في انتقاء المفردت ودلالاتها السيميائية والإيحائية ،وحريصا على انتقاء كلماته وتركيزها وشحنها بالدلالات الكبيرة والاستعارات الجميلة:

((أخاف من الحروب تذوب

 في قيظ

الظهيرة

كل شيء صاريبعد

يختفي عني

سوى وجه الطفولة شاحبا

متشظيا فوق التراب

 

سميتها أرضي

بها ابتدأت جهات علمتني

 أن أتيه

 وانتشي يوما فيوما

عندما ناديت 

لم اسمع جوابا

ربما اختطفت يد أرضي 

 واعطتني بلادا من قبور

من عويل 

من حداد))

ويبقى الشاعر محمد بنيس ملتصقا بحاسة المكان،سواء كان المكان(عندي) أو (المكان الأصل)، و أماكن( الآخرين) التي نمر بها ونعيش فيها قليلا أو كثيرا  ،هي في الواقع   أماكن مؤقتة وليست أماكن(أصلية)،فهي فضاء عرضي لايلبي حاجاتنا الانسانية البريئة في الانتساب الى  الجذور الاولى والوطن الاول، والآخر هو الفضاء المكاني الحقيقي القادر على تشكيل ملامحنا الثقافية وأصالتنا التأريخية، لذلك  فان الشاعر بنيس يغوص انسانيا في فضاءات الاماكن  الأصلية ، فهولا يرى مما يرى الا التراب الفلسطيني، فنجده يتفاعل مع اماكنه جيئة وذهابا في المسافة المائزة بين الماضي والحاضر:

(( الارض: التي عليها الناس. كتب احد

الارض: التي عليها نمشي. وتنتج النباتات. يكتب آخر

الارض: التي نراها.

نراها. مسطحة . غنية .يابسة. مأهولة خصبة . قاحلة . مزهرة.

. مرتفعة.

صاح هذه قبورنا تملأ الرحا

                               ب فأين القبور من عهد عاد

خفف الوطء ما اظن أديم ال

                              أرض  من هذه     الاجساد))

 

 

أما الزمن الفلسطيني فهو زمن خاص لايشبهه زمن آخر أيضا، ويمكن تعرف الزمن بأنه (الخيط أو السلك الذي تنتظم به البنية التعبيرية القصصية،وان الروائي أو القاص لايستطيع كتابة نصه من دون زمن ،لأن التتابع الزمني يتدخل في تنظيم اصغر وحدات الجملة( 11) .

,يستند الترتيب الزمني في النص الشعري على ما قدمه الشكلانيون الروس في التمييز بين المتن الحكائي،والمبنى الحكائي،فالأول يضم المتوالية الحكائية في سيرورتها الزمنية المنتمية الى عالم واقعي حدث في ما مضى من الزمن بنسق ترتيبي للمتواليات الحكائية على وفق تسلسل زمني متصاعد يسير الحكاية سيرا حثيثا الى نهايتها(12)،أما الثاني فيضم سير هذه المتواليات في مسار زمني فني تترتب فيه المتواليات الحكائية ترتيبا لا يخضع فيه لمبدأ السببية،بل لحاجات جمالية تخضع لزاوية رؤيةشخصية تؤدي الى تغيير مسار واقعية الحكاية وخطية البناء التصاعدي(13)،ويمكن ملاحظة أربعة انواع من الزمن في هذه القصيدة وعلى النحو الاتي:

1.زمن السرد الشعري

2.زمن استباقي

3.زمن استرجاعي

4. الزمن النفسي

زمن السرد:

يتناول  جيرار جينيت هذا الموضوع بشيء من الدقة والتفصيل،فيغير   ـــ كما يرى حسن بحراوي ايضا ـ المشكلة من أساسها من خلال النظر الى الزمن السردي، بوصفه نوعا من انواع الزمن المزيف وان الحكاية مقطوعة زمنيا مرتين،فهناك زمن الشيء المروي وزمن الحكاية(14 )،وزمن السرد يقع بين الزمن الاستباقي  الذي هو استحضار المستقبل في الحاضر بطريقة ما،وبي الزمن الاسترجاعي وهو استحضار الماضي بطريقة (التداعيات) أو (الفلاش باك)،اما زمن السرد في  هذه القصيدة،فيتمثل في الآتي:

(( أرض كعروق دالية

في السر تصحبني

الى ليل ينام على الضفاف

أرض كأن عروقها أوراق دالية

تسيل بظلها

زمنا

يطول مرددا لحنا

من الألم اغمريني بالذي يبقى

الذي

مازلت أبصره

 ولا أقوى على حزن

تضاعفه

 مشاهدة

 الدماء

أرضي أقول

 وفي الحروف صدى

أتى من لامكان))

هذا هو زمن السرد،زمن كتابة النص، المتشكل من عنقود أفعال الحاضر(( تصحبني/ ينام /تسيل/ يطول/مرددا/يبقى/أبصره /أقوى / تضاعفه/ أقول) ويستمر زمن السرد في القصيدة من خلال تشكيل السرد المتنامي في الحاضر دون الحاجة أو اللجوء ــ مؤقتا ــ الى استرجاع أو استقدام الزمن. 

ولكن زمن السرد لايمكن ان يتحرك جيئة وذهابا وفي الاتجاهات كافة بشكل دائم من دون الحاجة الى التعالق مع الماضي أواستقدام المستقبل،فالفرد هو ابن الازمنة الثلاثة،كل انسان كان له (مستقبل) فأصبح مع مرور الزمن(حاضرا) وأخيرا تحول هذا (الحاضر ) الى(ماض ) بفعل دورة الحياة الطبيعية ،وهكذايتشظى الزمن في القصيدة،بين(حاضر/حالي) وبين تداعيات يضعها السارد الشاعر بين قوسين،حينما يتكلم عن ماضيه،وبين كشف اوراق المستقبل عاجلا أم آجلا.

الزمن الأستباقي:

هو تقنية  سردية تدل على حركة سردية تروى أو تذكر بحدث  سابق مقدما(15)،أي انه  ـ الاستباق ـ يروى أحداثا سابقة عن أوانها أو يمكن توقع حدوثها(16) ويتطلب ذلك((القفز على فترة ما من السرد وتجاوز النقطة التي وصل اليها الخطاب لأستشراف مستقبل الاحداث،والتطلع الى ماسيحصل من مستجدات))(17)

بهذا المفهوم يعني التوغل في المستقبل الحكائي القريب او البعيد،والافصاح عن الهدف أو ملامحه قبل الوصول الفعلي اليه،او الاشارة الى الغاية المستقبلية قبل وضع اليد عليها(18)

ومهما يكن من أمر،فان الحاضر قد يحتاج لأستكمال بنيته السردية الشعرية الى استنطاق أو في الاقل استحضار شيء من الماضي وشيء من المستقبل ــ كماأشرنا سابقا الى ذلك ــ، أي قدلا تكتمل الحادثة الآنية الا بحادثة ماضوية أو مستقبلية،وهذه المستقبلية تقع في الزمن الاستباقي للنص كما في :

 ((    سنعود

رغم الصدى الذي

تكسره ابواب العالم

 وأنا في الصمت أهتف

أملأ صدري بصعقتك

بيني وبينك

عهد الا اخون

ماشهدت عليه زمن 

هو الحداد

بأي عيون سأنظر الى السماء في ارض بدماء كثيرة

كلماتنا متفحمات عبارة مازالت معلقة اعلى من الخوف

كانوا عازمين متيقنين 

أبناء فلسطين النشيد على لسانهم

وردة ملحمة هيئتني لأصمت

في ضجيج الارض))

هذه المقطعية تشتغل على ثلاثة أفعال( كانوا:ماض: بمعنى يكونون) و( اخون: مضارع) و( سنعود: مستقبل) والتأويل هذا مرتبط ب( الحياة التي هي ماض ومضارع ومستقبل) وهذه الافعال   تعمل بثلاث دلات زمنية، لكنها مع هذا تشتغل بشكل واضح على رؤية مستقبلية.

والزمن الاستباقي هو توقع ما سيحدث في القريب العاجل أو البعيد الآجل،وماله علاقة مباشرة في الحاضر أو زمن السرد.

الزمن الاسترجاعي:

يعرف الاسترجاع  في المنظور السردي بأنه(( ذكر لاحق لحدث سابق للنقطة الزمنية التي بلغها السرد))(19)وعلى ذلك فكل عودة الى الوراء تشكل بالنسبة للسرد استذكارا يقوم به الماضي،يحيلنا من خلاله على أحداث سابقة عن النقطة الزمنية التي وصلها   السرد (20)،ويكشف عن جوانب مهمة تسهم في أضاءة النص،ومن بين الاجناس الادبية المختلفة تعد السير ذاتية أكثر من غيرها احتفاء بهذه التقانة(21)

ان تقانة الاسترجاع تؤلف((نوعا من الذاكرة في النص التي تربط الحاضر بالماضي وتفسره وتحلله،وتضيء جوانب مظلمة من أحداثه ومسارات هذه الاحداث في أمتدادها أو انكساراتها))(22)،هذا فضلا عن وظائف عديدة منها (ملء الفجوات التي يخلفها السرد وراءه،وكذلك الاشارة الى أحداث سبق للسرد ان تركها جانبا،أو اتخاذ الاستذكار وسيلة لتدراك الموقف وسد الفراغ الذي حصل في النص..ووظائف أخرى لم نذكرها اختصارا وايجازا)(23).

فالزمن الاسترجاعي لايشتغل على الذكريات أو التداعيات أو الفلاش باك فحسب،بل له وظائف أخرى ينبغي استدعاؤها من الماضي لتعزيز الحاضر وتطوير بنية النص،بما يستطيع هذا الماضي من سد فراغات التشكيل العام للقصيدة :

((  عندما اتيت الى العالم

وجدت الارض التي اعيش عليها باسماء

من معجم الحرب والسلم

ومن معجم السيد والعبد

كذلك كانت قيل لي 

كذلك تكون 

قديما سقط ميزان العدل في وحل  المقت 

الكراهية النبذ ظل المستضعفون مكروبين

يستسلمون لايستسلمون))

فواضح ههنا ان الاحداث وقعت في الماضي ( عندما أتيت/ وجدت الارض/ كذلك كانت / قيل لي، قديما سقط العدل..الخ)، وان كان فيها ثمة تعالق خفي او ظاهر بين الازمنة الثلاثة، لكنها في العام تحدثت عن الماضي.

الزمن النفسي:

الزمن النفسي في الأدب عامة والشعر بخاصة زمن ذاتي خاص ، لاتحكمه معايير الزمن  الموضوعية الخارجية مثل (ليل. نهار. ساعة . دقيقة.. سنة . شهر.. الخ)   اذ يسير بخطى مختلفة تبعا لأختلاف الاشخاص ، وفي الواقع في مناسبات مختلفة لدى الشخص الواحد ، لأن  الفرد يحمل المكان والزمان معه  كطرق ادراكه الحسي ، فهناك الذين يمشي معهم الزمن، والذين نحب معهم الزمن ، والذين يعدو معهم الزمن ، والذين يقف معهم ساكنا(24).

ولايقاس  الزمن النفسي بزمن الساعة بالزمن، بل يقاس بالحالة الشعورية واللحظة النفسية ، اذ " انه زمن نسبي داخلي يقدر بقيم متغيرة باستمرار بعكس الزمن الخارجي الذي يقاس بمعايير ثابتة"(25) فلا توجد لحظة فيها تساوي الاخرى" فهناك اللحظة المشرقة المليئة بالنشوى التي تحتوي على اقدار العمر كله وهناك السنوات الطويلة الخاوية التي تمر فارغة كأنها عدم ))(26).

خلاصة الزمن النفسي انه يطول في الصبر والانتظار والقلق، ويقصر في السعادة والنشوى ولذة الحياة.

 لكن الزمن الفلسطيني زمن صعب مركب معقد لاسعادة فيه يا للاسف:

((رأيت

غزة بجناحين 

من زمرد

تطير

في الجهة المقابلة غرباء يرفعون الانخاب

ويتبادلون الهدايا على ارض فلسطين

اخرون في امكنة لااحد يراها

يتفجعون  لأجل غزة بدماء كثيرة))

تتحدث القصيدة بقدرما تتحدث عن سيرة ذاتية لوطن اسمه ( فلسطين)، تشتبك به وحوله عدد من المستحيلات والمعجزات، ومن خلال تعالق المعجزة بالمستحيل،تولد الانتفاضة التي هي الحل والأمل الوحيد لشعبنا الفلسطيني، يقف التاريخ شاهدا على وجع الازمنة العربية، حاضرا في مآسيها التي لاتنتهي الا لتبدأ من جديد، لكن الوجع الفلسطيني، وجع من طراز خاص، لاتشبهه أوجاع اخرى، وجع بدماء كثيرة:

(( هذا الذي لا تريد

 أن تراه وحده في العينين

يثبت اما اقتنعت بعد

 ان الليل والنهار متساويان في الفجيعة

 انهما الحفرة ذاتها للضحايا الضحايا الضحيا

من بني ارضي وقتا لوقت

صدرك ينزف السماء

في مكان الرحمة هائمة خرساء

ومن شدة الوحدة اصوات الى اللاقرار

تهوي تسد منافذها

أعالي اليأس كان النشيد

يزنر جبهتك او يتوجها

ثم غطى الرماد الرأس الكتفين

الصدر الاطراف

 شفتاك هامدتان

من يجرؤ ان ينأى عن الدم وحيدا))

ان قصيدة (أرض بدماء كثيرة ) للشاعر الناقد المعروف د. محمد بنيس  تقوم  على مجموعة من التقانات الفنية التي تؤهلها للمضي في مصاف القصائد الناجحة بما تمتلكه هذه القصيدة من مؤهلات وضع فيها الشاعر تجاربه الفكرية والثقافية والإنسانية والإبداعية، فنحن وقبل كل شيء نجد أنفسنا بإزاء عمل شعري راق يشتغل على حساسية كتابية ممكن كشف أغوارها وسبر كنهها وكنايتها من خلال المسافة المائزة المتحرّكة جيئة وذهاباً بين الجرح والدمعة. 

تشتغل هذه القصيدة على تعالقات فكرية اجتماعية ثقافية في هذه الأرض المملوءة بحقول الغام الأسئلة، والسياجات الشائكة بالدهشة والمفاجآت. في هذه المسافة الساخنة؛ بل المشتعلة بعلامات التعجب، يتشكلن وطن حرام (كأنه أرض حُرّمت على أهلها)، وطن يمسي على جرح ويصبح على دمعة، وطن  تتشيئن فيه المسافات فتتسع الثغرات، تزرع في جنبيه وخاصرته الألغام، تخنقه الأسيجة، فينعزل عن العالم، يتألم وحده، يعاني وحده، يضع يده على الجرح "الممتد من السرة حتى الرقبة" كما يقول لوركا، لعله يوماً يقوم من علته معافى الحال، كما كان جميلاً قوياً منذ الأزل، وحينما يقول باشلار: "البيت هو ركننا في العالم، انه - كما قيل  مراراً - كوننا الأول، كون حقيقي بكل معنى الكلمة)(27)، فهو يقصد فلسطين البلد الذي كان والذي سيكون وليس ما هو كائن الآن! فلسطين التي كان أجمل بيت في العالم. بين جرح ودمعتين تبدأ قصيدة بنيس، وبين موت وصرختين تكشف أوراقها التي تتحدّث عن بلد ليس كمثله بلد، وهل من بلد يشبه فلسطين؟:

((قتل. لااعرف كيف اسميك

ولااعرف احيانا

كيف انادي  في الآلام عليك

فتشت كثيرا

عن كلمات كانت امنيتي ان اختار اسما منها

ازرق منفردا

يمتد طويلا من ايام القتل

لى جثث القتلى

قتل يتواصل في غزة متشحا بسواد

لاتبلغه الكلمات

هنالك

يفترس الطغيان ضحاياه

لعلك تبصرهم

يمشون مع الشمس ضحايا الارض يضمون

الارض 

الى انفاس

لا يشربها غير العشاق))

وختاما تحتاج  هذه القصيدة الملحمية للشاعر د. محمد بنيس   الى قراءات نقدية متعددة فهذه فسحة صغيرة انطلقنا من خلالها لدراسة عدد من  الفضاءات في شعره،هذه القصيدة التي تمثل جانبا مهما من جوانب دراسة شعر شاعر مارس الصدق الشعري في أقواله الشعرية عندما صدق بوصف(الاماكن الاصلية) ــ أي الوطن : فلسطين ـ بتأزماته وآلامه   ثم أطر الواقع بالأسئلة، بل بكثير من الأسئلة  المسردنة ،لقد روى لنا الشاعروقائع ومفارقات شعرية فيها الكثير من الادهاش..ونجح بذلك وتفوق.

 

 

الهوامش والمصادر والمراجع

 

** قصيدة ( أرض بدماء كثيرة) للشاعر د. محمد بنيس، منشورة في مجلة الادب الحديث " ديوان الآن"، الناشر بيت الشاعر ودارة الريشة للنشر الثقافي،نابلس، فلسطين،  العدد الثاني 2019،:9

1.أنظر كتابنا: العنونة وتمظهراتها في النص الادبي الابداعي العربي، قدم له: أ.د. محمد صابر عبيد، دار الزوايا، بغداد ، 2019،:17

2. السرد بالتصوير الحكائي في قصة ( صور) د. خليل شكري، (مشترك) دار الحوار، سوريا، 2011.

: 80ــ 81

3.بلاغة الاستهلال عند سعدي المالح، جميلة عبد الله العبيدي، ضمن كتاب "أسرار السرد" (مشترك).،دارالحوار ،سورية،:39 

4.العتبات النصية في قصص كمال عبد الرحمن،زهراء الشرابي،رسالة ماجستير،جامعة الموصل، كلية التربية، 2012،:90

5. شعرية المكان في الرواية الجديدة، ،خالد حسين حسين ،:،6

6.الشخصية الاشكالية في خطاب احلام مستغانمي الروائي،حميد عبد الوهاب، ماجستير،:35

7.مشكلة المكان الفني ،يوري لوتمان،ت:سيزاالقاسم،مجلة(الف)ع6،القاهرة، ،1986،:34

8.الرواية والمكان، ياسين النصير،الموسوعة الصغيرة(57)،دار الحرية للطباعة،بغداد،1986م،:ج1،:51

9شعرية المكان في الرواية الجديدة،الخطاب الروائي لأدوارد خراط نموذجا،خالد حسين حسين،سلسلة كتب الرياض(82) مؤسسة اليمامة الصحفية،2000م،:65

10الشخصية الاشكالية في خطاب احلام مستغانمي الروائي،حميد عبد الوهاب، ماجستير،:35

11..أركان القصة،فورستر،ت:جمال عياد جواد،مراجعة:حسين محمد،دار الكرنك،القاهرة،ط1ـ1960،:53 ـ5

12 القصيدة السير ذاتية: د.خليل شكري هياس:302

13 نظرية المنهج الشكلي،نصوص الشكلانيين الروس،ت:ابراهيم الخطيب،مؤسسة الابحاث العربية،بيروت،1982،:185،وينظر: جمالية العلامة الروائية:46

14.خطاب الحكاية،جيرار جينيت،ت:محمد المعتصم وزميليه،،المجلس الاعلى للثقافة،القاهرة،ط2 ـ،1997،:45،وانظر: بنية الشكل الروائي،حسن بحراوي،المركز الثقافي العربي،بيروت ـ الدرا البيضاء ،ط:116،1990

15.خطاب الحكاية:51

16م.ن:82

17. بنية الشكل الروائي:132

18 تشظ