التشيؤ واغتيال الأسئلة الكبرى في (أموات بغداد) لجمال حسين علي/ كمال عبد الرحمن

  • 28-07-2023, 10:07
  • نقد
  • 822 مشاهدة

التشيؤ: برأي صديقي كمال ابو ديب"ضمور الجمال وتيبس النبض وهزال العنفوان في الاشياء: أي شحوب الحياة وانكسار التواريخ" هذا رأي نقلته بتصرف.

تنهض القيمة السردية في رواية (أموات بغداد) للمبدع العراقي جمال حسين علي على مجموعة من التقانات الفنية التي تؤهلها للمضي في مصاف الروايات الناجحة بما تمتلكه هذه الرواية من مؤهلات وضع فيها الروائي تجاربه الفكرية والثقافية والإنسانية والإبداعية، فنحن وقبل كل شيء نجد أنفسنا بإزاء عمل سردي راق يشتغل على حساسية كتابية ممكن كشف أغوارها وسبر كنهها وكنايتها من خلال المسافة المائزة المتحرّكة جيئة وذهاباً بين الجرح والدمعة. 

تشتغل هذه الرواية على تعالقات فكرية اجتماعية ثقافية في هذه الأرض المملوءة بحقول الغام الأسئلة، والسياجات الشائكة بالدهشة والمفاجآت. في هذه المسافة الساخنة؛ بل المشتعلة بعلامات التعجب، يتشكلن وطن حرام (كأنه أرض حُرّمت على أهلها)، وطن يمسي على جرح ويصبح على دمعة، وطن  تتشيئن فيه المسافات فتتسع الثغرات، تزرع في جنبيه وخاصرته الألغام، تخنقه الأسيجة، فينعزل عن العالم، يتألم وحده، يعاني وحده، يضع يده على الجرح "الممتد من السرة حتى الرقبة" كما يقول لوركا، لعله يوماً يقوم من علته معافى الحال، كما كان جميلاً قوياً منذ الأزل، وحينما يقول باشلار: "البيت هو ركننا في العالم، انه - كما قيل  مراراً - كوننا الأول، كون حقيقي بكل معنى الكلمة)(1)، فهو يقصد العراق الذي كان والذي سيكون وليس ما هو كائن الآن! العراق الذي كان أجمل بيت في العالم. 

تشيؤ المكان

بما ان الفضاء السردي   يتشكل من جملة عناصر، لذلك يأتي التماسك البنيوي في النص من خلال هذه العلائق النصية من (زمان) و(مكان) و(شخصية) و(حدث) و(رؤية)، وقد أصبح المكان "مفتاحاً من مفاتيح استراتيجية النص بغرض تفكيكه واستنطاقه، والقبض على جماليات النص المختلفة"(2). وكان أفلاطون صرح بأول استعمال اصطلاحي للمكان؛ اذ عده حاوياً قابلا للشيء، فأخذ أهميته في البحث الفلسفي بعد هذه الإشارة. وقسم أرسطوطاليس المكان على قسمين: عام، وفيه الأجسام كلها، وخاص لا يحتوي أكثر من جسم في آن واحد(3)، ولدينا عدد كبير من تقسيمات المكان:

1. قسَّم مول ورمير المكان أربعة أنواع بحسب السلطة(4) هي: أ. عند الأخرين. ب. أماكن عامة. ث. المكان المتناهي

2. وقسَّم بروب المكان على ثلاثة أنواع هي:

أ. المكان الاصل.

 ب. المكان الذي يحدث فيه الاختيار الترشيحي وهو مكان عرضي ووقتي. 

ت. المكان الذي يقع فيه الإنجاز والاختيار الرئيس وقد سمّاه غريماس باللامكان.

وتجاوزنا عدداً من تقسيمات المكان التي ذكرها غالب هلسا، وياسين النصير، وشجاع العاني، وغيرهم. أما بسبب تشابهها مع الأقسام السابقة أو تكرارها أو لا تخدم دراستنا هذه، واذا جئنا إلى تقسيم بروب، فان الدكتور جمال حسين علي  نجده يشتغل قبل كل شيء على شعرنة "المكان الأصل"، حيث الانتماء المصيري (اللذيذ ـ المؤلم) للجذور الأولى "حيث الإحساس بالمواطنة، وإحساس آخر بالزمن.. فكان.. وكان: رمزا، وتأريخا قديماً وآخر معاصراً، شرائح وقطاعات، مدناً وقرى، وأخرى أشبه بالخيال كياناً تتلمسه وتراه"(5):  الرجل الذي عاد من موسكو يتفاجأ باغتيال الأسئلة الكبرى " كيف انتهكت بغداد؟.. من سلخ روحها قبل جلدها؟"، ثم يدور في متاهة السدى يصعقه السؤال الأعظم " كيف اختفت عائلته في غياهب العدم .. الأخوة الأربعة الذين كان يرتجف بين أيديهم المكان .. ويهرب الزمن من سطوتهم اذا غضبوا.. أخوة البراءة والضحك والشجاعة.. يبتلعهم الغول فردا فردا.. تتناهبهم المعتقلات ..ويضيعون في مستنقعات الدم غير الأخ الذي هرب الى خارج العراق بتشجيع   من الأب خوفا على سلالة العائلة ( ترمز الى سلالة العراق) من الانقراض:

  (( ومن المؤكد أنهم جميعا أرادوا إخراج الأصوات التي تودعه ، ولكن أيا منهم لم يفلح في قذف الكلمات التي يريدها ، فلم يملكوا الحيل الكافي والطاقة اللازمة لاستنهاض حبالهم الصوتية ، وإن كانت شفاههم تتحرك ، لكن أي صوت لم يخرج منها لغاية اللحظة الفاصلة التي توقفت فيها سيارة مساعد المهرب الذي سيلقي به خارج الحدود مع القطعان وبدو الصحاري الآمنة. 

   ولأول مرة يحمل أبوه الحقيبة بدلا عنه ، أراد أن يفعل شيئا للفتى الذي سيهرب طويلا ولن يراه ، حمله الحقيبة الخفيفة للغاية كأنها إمساك بتاريخ الولد الذي سيقدر عليهم فقدانه إلى الأبد وتشبث برائحة منه وذكرى سيعيدون محاكاتها مع كل قمر. وما أن استجمع قواه أجلسه بالسيارة مثل أم تضع رضيعها في المهد ، وضع أبوه الحقيبة على ركبتي الفتى وقبـّله وكان يتكلم ، كل جسده يتكلم ، لكن بدون صوت أيضا ، لقد كانت كل مشاعرهم وعباراتهم محبوسة في إبريق لا قرار له وسرعان ما فصلتهما هاوية لا مدى لها ، فهل كان على الفتى الجلوس في سيارة المهربين تلك اللحظة لو تنبأ فقط بأنها المرة الأخيرة التي سيرى فيها أباه يحشد كل قواه لكي يحرك شفتيه بلا صوت؟ ولسنوات طويلة أراد ترجمة الكلمات التي كانت مرسومة بملامح أبيه وخرجت منه بأنفاس لم تقو شفتاه على ترديدها :

 

     لا تجعل عيوننا ، من الآن ، تحن إلى وجهك 

     لا تجعل أمواج البحر تباعدنا الآن ، أو 

     السنين التي قضيتها بيننا تصير ذكرى  )) الرواية: ص108

 

ينظر العائد من موسكو الى بغداد فتتلاطم بين عينيه الأسئلة الكبرى ((إني لأفتح عيني حين افتحها/ على كثير ولكن لاأرى أحدا))أكان (دعبل الخزاعي) عليما بمحرقة بغداد؟ أين ذهبت بغداد؟ أين اختفى أهلها؟  أأعلنت جسدها كوطن أنثوي مشاع يمكن لأي من الناس العبث به، "غزاة، قتلة، مفخِّخون، سماسرة، سراق، مفسدون، عهّار، مرجو فجور، مغتصبو فتيات وأطفال صغار، عابثون بالمال العام، وغير ذلك مما نعرفه جميعاً، عن هذه النماذج البشرية المتوحشة، التي طلعت علينا بهمجية من جحور الشر لتنقض على براءتنا، وتحيلنا الى هشيم معدوم" 

لم تكن بغداد هكذا منذ أن خلقها الله، كانت مرآة الجمال، وابنة التواريخ الجميلة، وحفيدة الحضارات العراقية العظيمة، لكن غربان الشر التي جاءت تحت ذرائع شتى من الشوارع الخلفية بأوروبا ومن فنادق وبارات أمريكا، من هنا وهناك، حطّت غيمة بشرية فوق العراق، فأمطرت زقوماً وطائفية ومحاصصة وشلليّة وعصابات مزقت العراق العظيم، العراق الجميل، وكان الطاغية قد هيّأ الفرصة لهذه الشراذم لتحتل بغداد ومدننا الجميلة الأخرى حينما شمّر عن غبائه وحمقه وأعلن معاداته للقوى العظمى في العالم وهو الضعيف في كل شيء، فبدأت الأيادي الآثمة تغتال الجمال أولاً، ومن ثم غاب الأمان وسقط كل شيء، وشاع الدمار وانتشر الفساد، وتحوّل العراق إلى مضغة سهلة ميسرة بين فكي الظلم والظلام، ومن هنا تبدأ رواية  جمال حسين علي (أموات بغداد)، وهنا تنتهي، تبدأ بين دمعتين وجرح، وتنتهي بين جرح ودمعتين:

    ((أي أماكن آمنة ، لا ، لم يبق مكان آمن في المدينة كلها ، الأمان الوحيد الذي تبقى هو أن الناس تعودوا على القصف والحرائق والموت.

    أدرك وقتها بأنه لا جدوى من البقاء ، فلا هو مقاتل ولا يستطيع العيش مدنيا ومن غير الممكن أن يفقد جوهر وجوده في البلاد وسبب عودته الرئيسي في موت سخيف ، فلا النهار أو الليل يوقف المعارك و لم يعد شيء هنا أسمه الهدوء ، وفي تلك اللحظات التي يقطع بها الهدوء الحرب ، ينامون قربه ليتفحصهم ويشعر بأنهم زائدون على هذه المدينة ، تمر أمامه لوحات الحرب ولياليها وأعين الناس المتعبة التي يتلقفها في الصباح ، عيونهم المؤرقة المبددة بالدخان والجوع. 

    حتى قواعد إخلاء الجرحى تغيرت في هذه المعركة ، بقى المستوصف الذي كان عيادة شعبية ، لا يتسع حتى للعاملين فيه ، فما حال مئات الجرحى، كان أغلب المقاتلين يسعفون رفاقهم في الشوارع ويحملونهم الى أقرب منزل، خاصة الجروح البسيطة.  عدا الجرحى الذي يتركون في الشارع حتى يموتوا. فالذي يسقط على الأرض ولا يخلي نفسه سيكون في عداد الأموات. المواقع التي يسقط بها جريح أو قد يكون قد فارق الحياة ، لكنه سيجلب معه قتلاه، أي أن محاولة إنقاذه ستؤدي الى مقتل آخرين ، هذا يترك ! ينادونه ، إذا استطاع الزحف ، بعضهم زحف لكن القناصة الأمريكان يلتقطونهم مجددا، والحل أن يبقى هكذا مسجى ، ينزف ويتألم حتى يموت ! )) الرواية: ص 128

إن المكان في الرواية هو أحد الأركان الرئيسة التي تقوم عليها العملية السردية حدثا، وشخصية، وزمنا، فهو الشاشة المشهدية العاكسة والمجسدة لحركته وفاعليته(6) ولكن هذه المركزية التي يتمتع بها المكان لا تعني تفوقاً أو رجحاناً على بقية المكونات السردية الأخرى، وانما هي ناجمة في الأساس عن الوظيفة التأطيرية والديكورية التي يؤديها المكان(7) وتميل رواية (أموات بغداد) إلى تمثيل حالات إنسانية وأخرى وجدانية خاصة تستمد فضاءاتها من الواقع العراقي المعايش أخلاقياً وإنسانياً ووجدانياً، على الرغم من انها تتحدث عن هرب البطل الى موسكو وجولاته حول العالم من اجل تطوير نفسه وابتكار افكار ورؤى وطرق علمية جديدة لفتت انتباه العالم، او في البلدان اين ما حل بها، فمع "الرجل = البطل" و"جمال حسين علي" معاً، تنمو الرواية فنياً باتجاه بنية الإطالة والإستطالة أحياناً رغم كثافة التركيز وثراء قاموس جمال اللغوي وخصبه وتنوعه إلا أنه يبدو دقيقاً في انتقاء المفردات ودلالاتها السيميائية والإيحائية، وحريصاً على انتقاء كلماته وتركيزها وشحنها بالدلالات الكبيرة والاستعارات الجميلة: 

   (( وما أن يدبّ في استنهاض الخجل أو بعض قطرات منه ، فلا ضيق ولا حرج على من أهملتهم السنون وبغت في أستارهم الأيام وأهدته وإياهم مساجلة السائل والمسئول ، السارق والمسروق ، وطبعا القاتل والمقتول. 

   وكما الأولون ، يرقب الشمس وانحدارها وتواطئها مع قطاع الطرق ، فثمة كيلومترات يطلق عليها : طريق الصد وما رد ! وأخرى حيث يقطن العتاة منهم فحياته مرهونة بالصدفة ومحتوياتها وهوامشها وانشغالهم وحيث لا يعلمون وبوقود سيارته وحنكة المقود. لكن ما الذي يستطيع أن يفعله لو صادفه منحدرا لا يستطيع الإمساك به ، فهؤلاء وضعوا فيه القير وهو ساخن ومن ثم دسوا فيه الصخور لكي تمتزج بالشارع وتصبح حاجزا طبيعيا يجبره على التوقف في النقطة التي حددوها ، لكي تبدأ بعدها عملية الانقضاض عليه كمهر لا حول له ولا قوة)) الرواية:ص 130

ويبقى الروائي جمال حسين علي ملتصقاً بحاسة المكان، سواء كان المكان (عندي) أو (المكان الأصل) وأماكن (الآخرين) التي نمر بها ونعيش فيها قليلاً أو كثيراً، هي في الواقع أماكن مؤقتة وليست أماكن أصلية، فهي فضاء عرضي لا يلبي حاجاتنا الإنسانية البريئة في الانتساب إلى الجذور الأولى والوطن الأول، والآخر هو الفضاء المكاني الحقيقي القادر على تشكيل ملامحنا الثقافية وأصالتنا التاريخية؛ لذلك فإن جمال حسين علي يلتصق بالعراق التصاقاً حميمياً من خلال روايته هذه، فالرواية تبدأ بالعراق وتنتهي بالعراق:

    ((ويقول لهم أي جواز سفر لمواطن عراقي داخل الرقعة الجغرافية لترابه الوطني ، تبرز لديهم قدرة مزدوجة على الجدل غير النافع ، ليضطر في النهاية لدفع مبلغ إضافي في المباراة المملة للحصول على اللقب السيء الناشبة بين القرى المحاذية لطرق الشمال البغدادي. فقد اعتاد سائقو الطريق على رواية حكاياتها الشنيعة وتفاصيلها البغيضة. وترتفع وسط الحشائش أعمدة دخان تتسرب من صهريج أحرقوه للتو أو سيارة شرطة مفجرة. 

   ولو نضيف عصف الرياح ومطبات الشارع الطبيعية والمفتعلة على سرعة السيارة وظلام السماء الدامس ، فكيف بالإمكان تجاوز العربات المحروقة الميتة وسط الطريق ؟!

   اجتاز كل هذه المصاعب ليتوقف عند : جسر الحيرة ،، جسر الألغاز ، جسر المصائب ،،، ملخص اللدغة وقمة اللوعة ورهبة المفاجأة وتلاطم الانتظار والرغبة التي لا تجلو أملا والذي يسمونه في أوراق وسجلات البلدية : جسر الموت ! 

    هو الوحيد الذي دمره فدائيو الدكتاتور مرة و الأمريكان مرة ثانية والمتطوعون العرب ثالثة وأتباعهم وفلولهم ومن لم لمهم رابعة.   وأهميته تنحصر في أنه يربط بغداد بالعراق كله والعراق بالعالم الخارجي و بدونه لا ينبعث الطنين ولا تزدهر الورود ولا يستقر الرحيل مستقره في العاصمة. ولأن جميع الأطراف المتحاربة بحاجة إلى الجسر فقد سرقوا جزء من موازنة البلاد لينتفوا منها شيئا لإعادة بنائه ، لكن الشركة التي حاولت تثبيت دعائمه هددت وقتل مقاولها الأول ، ومنذ ذلك الحين توقف العمل به. لكن الأمريكان لم يسكتوا لأنهم أحوج الآخرين إلى جسر لنقل معداتهم الضخمة ، فبنوا لهم جسرا بواسطة الهندسة العسكرية يتسع لدبابة باتجاه واحد. واستغله العامة في حالة عدم وجود أرتال في الطريق)) الرواية: ص 134 

وهكذا، فإن رواية (أموات بغداد) تبدأ من العنونة الأسمية، وذلك من خلال الأسم  (أموات)، ولم يقل (موتى) أو (قتلى)، فهذه العتبة العنوانية تشغل على تفعيل نوعين من الدلالة، الأول: اسمي (أموات) والثاني: مكاني (بغداد)، كما حققت ثلاثية التميز والتفرّد والإبداع، من خلال (الصعق) و(الإدهاش) و(المفاجأة)، هذه العناصر التي ارتكزت عليها الرواية في صناعة نص سردي هويته "الإنسانية"، وسيرته "المفاجآت"، ونهايته "الصعق" عندما فخخ السارد نهاية الرواية بظلام ينفجر  أو يتفخخ على أبرياء  بغداد العاصمة والعراق كله.

الرواية تتحدّث عن   "الرجل= البطل"  خرج من العراق هاربا وعاد اليه عالما، يعاهد نفسه على الوفاء لذكرى عائلته التي افترستها أنياب الظلام، ينذر نفسه لحب عراق لم يعد فيه عراق، لكنه يفاجأ بأن الموتى أكثر من الأحياء (كما في مدينة النجف)، لم يعد للموت طعم ولا معنى ولاقيمة انسانية وخلقية،تشتت بغداد بين قصف امريكي وعصابات لصوص وقطاع طرق، وخوف وجوع وفقر، مات الأمان في زهرة السلام بغداد، كل شيء فيها يدمر او يقتل او يحترق، وانتشرت ظاهرة فريدة في الزمان هي امتلاك العراق مئات المقابر الجماعية التي تمتد (من زاخو الى الفاو) أي من أقصى شمال العراق الى أقصى جنوبه، دهش بل صعق الرجل من صورة بغداد التي بدأت تتوضح أمامه تدريجيا، واستغل علومه التي تعلمها في الخارج لمعاينة الجثث ودفن المونى وتعاون مع منظمات عالمية بهذا الصدد، لكنه كان يحس العراق كله لم يعد الا مقبرة جماعية كبيرة:

    ((  تذكر الرجل ما كتبه أبوه عن الجثث التي تملأ الشوارع بعد كل ثورة. وهي الآن تملأ الشوارع أيضا بعد هذا "التحرير". وهذه المرة اختلف أصحاب الجثث ، فهناك الجنود الذين ماتوا داخل دباباتهم وخلف مدافعهم التي وضعت في قلب العاصمة وفي مناطق تظللها الأشجار ، التي اعتقد جنرالات الجيش أنها ستحميهم وتخفيهم عن ثاقبات الجدران بالليزر وتلك الترددات التي تكشف فولاذ الأسلحة مهما كانت عملية الإخفاء متقنة.

  مات الجنود دون أن يعلموا بموتهم وتركت جثثهم في الساحات والحدائق والبساتين ، وأولئك العابرون ماتوا أيضا ومات الكثير من الناس ، فقد كان المحتلون يصوبون نيرانهم على كل شيء يتحرك في الأسبوع الذي سبق دخولهم المدينة وفي اليومين الأوليين من دخولهم لها. 

   ولم تكن هناك مؤسسات صحية فالجميع لاذ بالفرار ، الناس فقط أخذوا على عاتقهم دفن الناس ، كل في مكانه ، فاتحين بذلك ظاهرة القبور المجهولة التي أخذت منها كل الأحياء البغدادية نصيبها. والموتى الذين تتناقل أعدادهم تقارير الأجهزة المعنية ، هم الذين تم العثور على جثثهم والى حد ما التعرف عليهم. 

   ولأن للموتى ميزة مزاحمة الأحياء بروائح خاصة منحهم إياها الرب لكي يجبر الناس على دفنهم ، ولأنه لا يوجد أحد يستطيع العيش بالقرب من جثة ، فقد تنوعت أساليب الدفن ، وبدأ الناس يتحدثون عن المفقودين بالرغم من عدم عثور أحد على مفقود حي ، فإذا كان لا يوجد أحد منشغل بأمور الأحياء فوثبات الطبيعة أنست أيضا أمواتها)) الرواية: ص 55

لا جدوى من الأسئلة، انه القدر البغيض،  وهاهم يقتلون الأسئلة الكبرى، بل يغتالونها، هذا هو الصباح العراقي: عبوة ناسفة أو مفخخ مسعور أو صلية طائشة من بندقية مستهترة  سواء كانت امريكية أو عراقية لافرق هي وسيلة باذخة للموت  اليومي المجنون ،أو انتحاري غسل دماغه وما زال تحت التخدير وهو يفتش عن زر تفجير حزامه الناسف، موت يومي، موت مجاني، دمار لا يصدق، بلد تحوّل إلى خرائب وأوبئة، وجيوش من الفقراء تبحث عن لقمة خبز فلا تجدها حتى في القمامة، هذا هو الحزن العراقي العظيم. 

بناء الشخصية

تعدّ الشخصية من أكثر العناصر فاعليةً في بناء الرواية، لكونها العنصر الوحيد الذي تتقاطع عنده العناصر الشكلية(8)، وتتأتى أهميتها المتزايدة من قدرتها - بفعل مبدعها - على الكشف عن الصلات العديدة بين ملامحها الفردية والمسائل الموضوعية العامة، بمعنى تمكّنها من خلق فضاء واصلٍ بين الذاتي والموضوعي أو الخاص والعام، فتبدو مشكلتها انعكاساً لمشكلة إنسانية. 

وعلى الرغم من اختلاف تعريفات الشخصية، فإن شبه إجماع - من الوجهة النفسية - يشير إلى أن الشخصية هي "بناءٌ فرَضِيّ، بمعنى أنها تجريد يشير إلى الحالة الداخلية والبيئية للفرد"(9)، ويختزل محمد عزام الشخصية في القصة العربية إلى ثلاثة أنواع(10):

- الشخص الإيجابي: الذي يعمل من أجل تغيير المجتمع نحو الأفضل (الشخص المفلس في النهاية) رغم جهوده ومحاولاته التغيير. وهذه الشخصية تمثلها شخصية "الرجل = البطل" في الرواية.

- الشخص السلبي: الذي يعمل من أجل تأييد السائد، واستغلال الوضع إلى أقصى حد.. إنه "الفهلوي" الأناني الذي يدوس على القيم لتحقيق طموحاته الشخصية. وهذه تمثلها أكثر من شخصية في الرواية، منها شخصيات عديدة في الرواية لايمكن احصاؤها.

- الشخص الإشكالي: الذي يؤمن بقيم إيجابية في عالم منْحَط، لكنه لا يجابِه كالشخص الإيجابي، ولا يخوض في فساد الواقع، كما يفعل "الفهلوي"، وإنما يكتفي بالرغبة في الإصلاح(11). وهذه الشخصية تمثلها شخصية "الوزير" في الرواية. 

وفي ضوء النظر إلى الشخصية من خلال هذه الرؤية، يقدم إدوين موير (Edwin Muir) أنماطاً من القصص، منها قصة الحدث، وقصة الشخصية، وقصة الدراما(12). 

إن "قصة الحدث" تصف وقائع غير مألوفة بطريقة تهدف إلى الإمتاع، حيث الحبكة فيها تتماشى مع رغباتنا لا عقولنا. وكما تخطّط الشخصيات في قصة الحدث بطريقة ملائمة للحبكة، فإن الحبكة في "قصة الشخصية" تهيَّأ لتوضح الشخصيات، أما "قصة الدراما" فإن الهوة فيها تختفي بين الشخصية والحبكة، فالسمات المعينة للشخصيات تحدّد الحدث، والحدث بدوره ينمّي الشخصية(13).

الروائي جمال حسين علي روائي خاص، تكمن خصوصيته في قدرته على استخراج شخوصه الروائية من قلب الجرح العراقي، شخصيات متجانسة وغير متجانسة، نماذج شريرة ، وأخرى إيجابية، شخصيات مكافحة، وأخرى عالة على الزمن ، لكنّ  جمالاَ المبدع يشعر بها ويعيشها ويعايشها لحظةً بلحظة، ولا يرسم نهاياتها كما يشاء؛ بل كما تشاء الأقدار، ومن الأمثلة على ذلك حكاية عائلته التي ابتلعها الغول، وما تبقى من العائلة مات حسرة وكمدا على فراق (الأبناء الأربعة) أبطال بغداد وشجعانها، وحكاية (الرجل = البطل) في الهرب من بين أنياب الموت  والالتجاء الى انياب الغربة، حكاية عاصمة اسمها (بغداد) وحكاية بلد اسمه ( العراق) 

وفي حقيقة الأمر، فإن الروائي عندما يكتب أي حرف عن أية شخصية، فهو يتحدّث عن العراق، عندما تتألم الشخصيات، فهو يقصد ان العراق يتألم، فالعراق حاضر في هاجسه وخاطره وتفاصيل حياته اليومية. من هنا فعندما يتحدث عن آلام وأحلام (الرجل)، فإنه يتحدّث عن أحلام العراق وآلامه، (الرجل = البطل) شخصية قلقة متأزمة قبل أن يغتصبها الأسى، وقعت بين فكي وحش مخيف اسمه الألم، موجة التألم التي أصابته برحيل عائلته اغتيالا بلامعنى، وسيف الألم الذي ضربه فأفنى أيامه حسرة وهو يرى بأم عينيها العراق، تفترسه غربان الزمن المظلم، بلد فيه مئات المقابر الجماعية، ماذا يعني هذا؟ هل تمت ابادة الشعب واستبداله بشعب آخر،موتى قتلوا بطرق عجيبة ، ذبحا بسيوف مثلمة، شنقا بحبا متهرئة، صعقا بالكهرباء في بلد لايوجد فيه كهرباء، وفوق   هذا كله يجلس الجلادون يتناولون الطعام والمشروبات على جثث المغدورين الذين لم تجف دماؤهم بعد:

  (( - أمامنا سجل جديد من الجرائم ضد الإنسانية سنفتحه في العراق. ولدينا الكثير من المقابر التي ملئت بالبشر يصل عددها حسب تقديراتنا إلى 270 مقبرة جماعية فيها أكثر من 400 ألف جثة ، فقد كانت الحافلات تقل المئات يوما بعد يوم وسنة بعد سنة لتدفنهم في الصحاري والسهول الرملية وحان الوقت لنكشف لذوي الضحايا هذه الحقائق المريعة. لقد عملنا مع زملائي سابقا في حقول الإبادة الجماعية في راوندا وسيراييفو وأدغال القتل في كمبوديا وقبلها نجحت منظمتنا في كشف جرائم الإبادة الجماعية في الحقبة النازية. قمنا بكافة الاستعدادات لتجهيز الفريق بكامل المعدات التي يحتاجها وسنرافقكم في هذه الرحلة العصيبة علينا جميعا ولكن لا ينسى أي منا حجم المهمة الإنسانية الجسيمة التي ألقيت على عاتقنا و صلاتي لكم بالتوفيق. 

   دخلوا بعدها بالتفاصيل الفنية المتعلقة بالأجهزة وكل الصغائر الخاصة بأفراد الفريق ابتداء من المروحيات والخيام والكمبيوترات لتسجيل أسماء الضحايا وتصويرهم استنادا لمعلومات إضافية قدمتها جمعية السجناء الأحرار وجمعية الشهداء ومنظمات إنسانية ظهرت بسرعة والتجهيزات الخاصة بما فيها الملابس وأدوات الحفر وانتهاء بالأكفان الشرعية والبلاستيكية و التوابيت والتركتورات ، كل شيء تمت مناقشته على أعلى مستوى من الدقة ، وبدا أن الفريق يحمل تفانيا كافيا لإنجاز هذه المهمة التي كان ينقصها عدد كاف من المختصين بالطب الشرعي وأعاقتها المواقف العاطفية من ذوي الضحايا الذين قاموا بالحفر قبل وصول الفريق المتخصص و تنفيذ هذه المهمة بناء على معلومات شهود عيان ، التي حدد الاجتماع مسارها من وسط البلاد، حيث تم الإعلان عن أول مقبرة جماعية في المسيب بالقرب من مدينة الحلة ليس بعيدا عن موطن البابليين الأوائل))  الرواية: ص37

ومن هنا، تبدأ مرحلة جديدة من حياة (الرجل = البطل) الذي ينذر نفسه وفاء لأهله ولأبناء بلده،وعلى الرغم من ان رسالة والده كانت تشغله كثيرا، وبخاصة أنه حدد لأبنه موعدا يلتقيان فيه عند قبر الأم،الا أن( الرجل) لم يرهقه مطاردة الجثث من مكان الى آخر، يتعاون مع المنظمات العالمية والجهات الحكومية المحلية بهذا الصدد، يوظف طاقاته العلمية التي درسها في الخارج ثم طورها تطويرا كبير خدمة للأنسانية، يعمل بلا كلل ولا ملل ليل نهار، براتب او بدون راتب، يعمل ويعمل ويعمل، وعيناه على موعد المقبرة، حيث الفرصة الاخيرة لألتقائه بآخر أفراد عائلته الأحياء، وعندما يحين الموعد ويذهب الى المقبرة، يجد أنه أضاع أمه وأباه في وقت وآحد، لكنه يصرعلى العمل، فحص الجثث، تصنيفها، ودفنها، وهذا أقل شيء يقدمه للعراق.

رواية ( أموات بغداد) نص سردي مائز راءٍ ،لا يتحدث السارد عن رواية أو  أهل أو صديق إلا والعراق ماثل بين عينيه، أموات  بغداد، زمن معاق ومكان مساق إلى التفخيخ والتفجير والتهجير،  في بغداد الصباحات منداه بالدم ورائحة الموت، فأينما تولي وجهك فثمّة موت، الحاكي جمال حسين علي يتكلّم وعيناه على العراق الذي يختصر أوجاعه بآلام بغداد، ما مر يوم والعراق ليس فيه موت وتفخيخ ودمار.

ان رواية (أموات بغداد) هي وثيقة يدمغ بها الدكتور جمال حسين علي العالم كله، وهو ينظر بعين الإهمال الى بلد عظيم يتمزق، شاركت دول ظلامية وسياسات عرجاء في النيل منه، تحقيقا لأهدافها وأهوائها وأمزجتها المريضة، هذه الرواية تقف بثبات إلى جانب روايات عراقية وعربية أخرى، عرّت الواقع العالمي و العربي وفضحت تخاذله بإزاء دول عربية  كالعراق وسوريا وغيرها، يتمزق البلد بضراوة شديدة، من خلال حروب خارجية وأهلية لا ناقة للعراق فيها ولا جمل.

نجح الدكتور جمال في روايته هذه وأوصل الرسالة كاملة، وهي حكاية بلد قطعة من جنة يتحول بين ليلة دون ضحاها الى جحيم لا يطاق.

 وختاما فان  رواية (أموات بغداد) لجمال حسين علي قالت الكثير والكثير، مما لم تقله روايات عربية وأجنبية، كما أن هذه الرواية تحتاج الى قراءات نقدية متعدّدة.. وإصغاء نقدي  خاص، رغم صوتها الهادر في الزمن، فهذه فسحة صغيرة انطلقنا من خلالها لدراسة المكان والشخصيات.  

لقد أطر جمال الرواية بكثير من الأسئلة وتفوق عندما صدق بوصف الأماكن الأصلية بغداد  والعراق عامة بأزماتها وآلامها وإحباطاتها، سردن أسئلته وغلفها بدم الكلمات، ونجح أيضاً عندما قدم لنا في روايته حكايات مملوءة بالعجب والتعجب والمفارقة، لقد روى لنا  جمال حسين حكايات شخوصه بشعرية عالية فيها الكثير من الإدهاش.. ونجح وتفوق ليمنحنا أعلى شعرية في تأسيس حبكة محكمة، تسردن من خلالها المكان في المسافة المتميزة بين جرح ودمعتين، فاشرق النص بكلماته التي لا تشبهها كلمات.

 

 

 

 

 

الهوامش  والمصادر والمراجع

**جمال حسين علي: أموات بغداد، رواية – دار الفارابي، بيروت – 2008 طبعة أولى طبعة ثانية – دار الكتبي – القاهرة – مصر،2015

 

1. غاستون باشلار: جمالية المكان، ترجمة: غالب هلسا، ص 36، سلسلة كتب الأقلام (1) دار الجاحظ للنشر، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1989.

2. خالد حسين: شعرية المكان في الرواية الجديدة.. الخطاب الروائي لإدوارد خراط نموذجاً، ص 60، سلسلة كتب الرياض(82) مؤسسة اليمامة الصحفية،2000م.

3. حميد عبد الوهاب البدراني: الشخصية الإشكالية في خطاب أحلام مستغانمي الروائي، ص 35، رسالة ماجستير، كلية التربية، جامعة الموصل، 2009.

4. يوري لوتمان: مشكلة المكان الفني، ترجمة: سيزا القاسم، مجلة (الف)، العدد 6، القاهرة، 1986، ص 34. 

5. ياسين النصير: الرواية والمكان، ج 1، ص 51، الموسوعة الصغيرة العدد (57)، دار الحرية للطباعة، بغداد، 1986م.

6. خالد حسين حسين: شعرية المكان في الرواية الجديدة.. الخطاب الروائي لأدوارد خراط نموذجا، ص 65، خالد حسين حسين، سلسلة كتب الرياض(82) مؤسسة اليمامة الصحفية،2000م.

7. يوري لوتمان: مشكلة المكان الفني، ترجمة: سيزا القاسم، مجلة (الف)، ع6، القاهرة، 1986، ص 34.

8. حميد عبد الوهاب البدراني: الشخصية الإشكالية في خطاب أحلام مستغانمي الروائي، ص 2، رسالة ماجستير، كلية التربية، جامعة الموصل، 2009.

9. قاسم حسين: الانسان من هو؟ ص 13، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1984م.

10. محمد عزام: فضاء النص الروائي.. مقاربة بنيوية تكوينية في أدب نبيل سليمان، ص 86، دار الحوار، سوريا، 1996.

11. جميلة عبد الله العبيدي: بلاغة الاستهلال عند سعدي المالح، ضمن كتاب "أسرار السرد"، ص 43، تأليف مشترك.

12. د. محمد صابر عبيد: توصيف كتاب بلاغة القص، تأليف مشترك، دار الحوار، سوريا، 2011.

13. د. كمال أبو ديب: جدلية الأنسنة والشيْأنَة، مجلة "ثقافات"، جامعة البحرين، كلية الآداب، العدد: 5.

 

.......................................

لمتابعة نشاطات الاتحاد:

الويب/ الاتحاد:

https://iraqiwritersunion.com/

الفيس بوك/ الاتحاد:

https://www.facebook.com/iraqiwritersunion?mibextid=ZbWKwL

الانستغرام/ الاتحاد:

https://instagram.com/iraqi_writers?igshid=MzNlNGNkZWQ4Mg==

انستغرام متحف الأدباء:

https://instagram.com/writers_museum?igshid=MzNlNGNkZWQ4Mg==

الفيسبوك/ متحف الأدباء:

https://www.facebook.com/profile.php?id=100089542158676&mibextid=ZbWKwL

قناة الأدباء/ يوتيوب:

https://youtube.com/@user-db3ks4fl6m