كانت البلدة تُدعى “إيلنوور”، تقبع عند حافة الغابة الشمالية، حيث تتلاقى الثلوج مع خطوط السكك المهجورة، ويبدأ الصمت في استنشاق شتائه الأبدي.
لم يكن في البلدة ما يُغري البقاء: كنيسة صغيرة تتهدّم من الداخل، محطة قطار صمّاء لم تعبرها عجلات منذ خمسة وعشرين عامًا، ومكتبة بلدية بقيت تفتح أبوابها دون قُرّاء. لكن “جوليان هاورث” بقي. كان الوحيد الذي آمن أن للأماكن روحًا، وأن الروح لا تُغادر قبل أن تهمس شيئًا أخيرًا.
لم يكن جوليان شاعرًا، لكنه كان يحتفظ بمفكّرة جلدية، يدّون فيها أسماء الطيور التي لم تَعُد تزور النوافذ.
كان يعمل ساعاتٍ طويلة في ترتيب قبور البلدة، كما لو أنه يؤمن أن الحشائش إن نبتت فوق اسمٍ، نسيَ صاحبُه أنه وُجد ذات يوم.
في كل صباح، كان يذهب إلى المقبرة، يربّت على شواهد الموتى كما يُربّت المرء على أكتاف أصدقاءٍ رحلوا باكرًا، ثم يعود ليجلس على السلالم الخشبية أمام بيته. لم يكن ينتظر أحدًا، لكنه كان يُهيّئ نفسه دومًا للوداع.
في المساء، يشعل مدفأته، يقرأ بصوتٍ عالٍ من رواية ديكنز، رغم أن لا أحد في البيت يسمع، ثم يكتب سطرًا واحدًا في دفتره:
“كل الذين أحببتهم رحلوا، وما زلتُ أُعدّ الكراسي حولي كأنهم سيعودون.”
حين أتى الشتاء الأخير، كان جوليان قد شاخ تمامًا. لم يعد يسير إلا بعكازة خشبية صنعها بنفسه من شجرة القيقب التي سقطت بجانب الكنيسة. وفي ليلةٍ شديدة العزلة، جلس يكتب رسالته الأخيرة، على ورقة ممزّقة من روايته القديمة:
“إلى من سيعثر على هذه الكلمات،
أنا جوليان هاورث، آخر من شهد على حياة هذا المكان.
لم أمت حزنًا، بل امتننتُ لأنني كنت آخر من أطفأ الضوء، وآخر من أغلق النافذة بأدب.
إن مررتم هنا ذات مساء، وأنصتمُم للرياح، فاسألوا عنها… قد تهمس باسمي.”
وفي الصباح، عثرت فرقُ الإغاثة على جسده ممدّدًا على الكنبة، بجانبه مدفأة خامدة، وبقايا شاي بارد.
كان وجهه هادئًا كأنّه نام على كتف الزمن، وقرر ألا يصحو.
ومنذ ذلك الحين، يُقال إن الريح حين تمرّ في إيلنوور، تُصدر صوتًا يشبه حروف اسمه…
#بشار_البندر