تايلاند شمالا حتى شيانغ راي

طارق حربي
  • اليوم, 01:10
  • مقالات
  • 13 مشاهدة


تايلاند

#شمالاً_حتى_شيانغ_راي

طارق حربي

(1)

ضربتُ موعداً مع الصديقين العزيزين حامد وفلاح ، المُقيمَينِ في مدينة العمارة العراقية، على اللقاء في بتايا ، وكان لنا ذلك في مطلع الشهر العاشر من سنة 2024 . 

مررتُ في صباح اليوم الثاني بمحل صديقتي لغسل وكوي الملابس ، لأخذ دراجتي الناريَّة المؤمَّنة لديها منذ ما قبل الجائحة. وذكرتُ في صفحات سابقة أنها تستخدمها في عملها. ألفيتها وقد تقدم بها السنُّ قليلاً ، وفقدتْ أحد أسنانها! وما لبثتْ أن نادتْ على ابنتها الوحيدة لتسلم عليَّ ، فأقبلتْ باسمةً من خلف كومة ملابس معدة للغسيل ، بيدها تلفونها المحمول ، فإذا هي صبية جميلة شبَّتْ عن الطوق ولم تعد طفلة! وانطلقتْ تتحدث معي باللغة الإنكليزية. بدا لي أن جهودي المبكرة في تعليمها اللغة ، وما أضافتْ لها المدرسة من تعليم خلال ثلاث سنوات لم تذهب سدى ، فسعدتُ لذلك أيما سعادة. وبعد ذلك قدتُ دراجتي إلى حيث ينتظرني الصديقان في باحة الفندق الخارجية. وكان حامد أجَّرَ دراجة، رفض فلاح اللطيف الساخر منذ اليوم الثاني الجلوس خلفه ، واختار الجلوس في دراجتي.

قال ضاحكا

- ما يعرف يسوق خاف يدعمنا! 

في المساء أمطرتِ السماءُ مدراراً ونحن في طريقنا إلى الفندق القريب من ساحل البحر. ولم يعد بالإمكان في فضلة الشارع القريبة منه ، قيادة الدراجتين. وما زاد الطينَ بِلَّةً توقف محركيهما على حين غفلة ، مثلما توقفتِ الكثير من الدراجات والسيارات على جانبي الشارع ، فأخذنا نخوض في المياه التي علتِ الركبتين بعد وقت قصير من هطول الأمطار! وبينما كنتُ أسحب الدراجة العاطلة التي أثقلتْ المياه سيرها الوئيد ، وأخَّرتها الأمواج المندفعة من عجلات السيارات المارة ببطء ، عنَّ لي أن أضيف مسحة ساخرة على الوضع المأساوي ، الذي لم أشهد مثله في تايلاند على الإطلاق ، بعد ساعات أمضيناها في التجوال بين الشواطىء والمتاجر والمولات ، سعداء في اليوم الأول ونحن نقود الدراجتين ونردد الأغاني العراقية القديمة!

في تلك اللحظات التراجيكوميدية بحث الأنا في زوايا ذاكرتي فأحضر أغنية ، ربما لم يسمع بها الجيل الجديد ، ونسيَها الجيل القديم إلّا من كانت روحه متعلقة بأوتار الأنغام العراقية. ولا تستحضرها أناه إلّا في الدندنة مع النفس ، أو تذكرها في جلسة خاصة!

غنيتُ (مشحوفنا طرِّ الهور .. واليوم صيدتنا طيور) للمطربين الريفيين الراحلين داخل حسن وحضيري أبو عزيز ، ثمة رجلان غيرهما يظهران في (الفيديو) بالأسود والأبيض وهما يمخران عباب الهور، ببلم أشبه ما يكون بدراجتينا اللتين غرقتا حدَّ النصف في مياه الأمطار!

***

وجدنا في أكبر ماخور في العالم أن كل شيء زاد ثمنه بعد الجائحة ، إلّا أجرة (التكسي) الزهيدة وتبلغ 10 بات. لكنها تبلغ في مدن أخرى زرتها بعد مغادرة الصديقين إلى العراق 30 بات!

توسَّعَ شارع جهنم بافتتاح المزيد من المتاجر والمطاعم والحانات الليلية والمراقص العربية والروسيّة. فالماخور أصبح دوليا! بل حتى شرطته ضمّتْ إضافة إلى الشرطة التايلنديين ، عدداً إضافياً من الأوروبيين والأمريكيين. وكما في سنوات ما قبل الجائحة تتلألأ الأضواء في شارع الكورنيش المتصل بشارع جهنم ، في إطلالة رومانسية على ساحل البحر المزدحم بالزوارق، لنقل السيّاح نهاراً إلى الجزر القريبة والبعيدة، لكن منظرها كئيب ليلاً حينما تكون هادئة في حبالها. 

توسع سوق العمل في الكورنيش فانضمَّتْ إلى بائعات الهوى وجوه جديدة من بلدان أفريقية وعربية ، ومن جمهوريات الاتحاد السوفيتي القديم ، إضافة إلى عدد قليل من الشاذين التايلنديين من مختلف الأعمار ، الذين راحوا مثل بائعات الهوى ، يتحرشون بالمارَّة الخليجيين والعرب بلهجة عربية مكسَّرة. أما الهنود فبقوا على طبيعة تعاملهم مع بائعات الهوى كما في السابق، كل ثلاثة أو أربعة يتفاوضون مع واحدة على الوقت والثمن ، يردفها أحدهم في نهاية المطاف وراء ظهره على دراجته النارية ، ثم ينطلق بحماس الظافرين بغنيمته إلى الفندق الذي يقيم فيه مع أصدقائه ، في مكان ما من بتايا!


جلوسنا نحن الثلاثة على الشاطئ مساء ، جعلني أقارن التغيير الحاصل بين ما قبل الجائحة بما بعدها.

فبين بائعات الهوى التايلنديات الواقفات على الشاطىء تحت جنح الليل ، فرادى أو في مجموعات صغيرة في انتظار الزبائن ، من يتناولنَ وجبة العشاء السريعة (تأتي بها دراجات التوصيل النارية بينها Grab) ، ومن يُصلحنَ المكياج وغير ذلك. تجمعهنَّ الأرض الثابتة تحت أقدامهنَّ واللغة في بلادهنَّ. وروح السلام والهدوء التي تبعثها فيهنَّ التعاليم البوذية. ومنها أن افعل أيها البوذي الخير واجتنب الشر ، حتى ترتفع فوق الماء الذي يمثل الرغبات والأهواء، مثل زهرة اللوتس رمز النقاء والكلام والعقل ، ومقعد الأرباب ، تُرسم وتُنحت في الفن البوذي وتمتد جذورها إلى الديانة الهندوسية.

أما بائعات الهوى من جنسيات أجنبية ، القادمات من بلدان الفقر والعوز ، فلا يعدم المرء بينهنَّ وجود المعنَّفات ، ومن المؤكد المتمردات على أوضاع اقتصادية واجتماعية سيئة ، وعلى الأرجح الطامحات بحياة أفضل مما عشنَ في بلدانهنَّ ، كالإقتران بزوج أجنبي يحفظ لهنَّ بقيا آدميتهنَّ! أو لا هذا ولا ذاك لكن من يجدنَ متعة في استمرار العمل!

لا يلاحظ السائح شيئاًً من التنافس بين بائعات الهوى من التايلنديات والأجنبيات، فكل واحدة منهنَّ تنال رزقها! وما قسَّمَ لها من خبز حلال الله أو عيسى أو بوذا!


طارق حربي