لبابة السر بين الواقع والأسطورة (الجزء الثاني) - محمود خيون

  • 18-12-2020, 13:24
  • نقد
  • 1 252 مشاهدة

في الجزء الأول من هذه الدراسة لرواية الكاتب والناقد الكبير شوقي كريم ( لبابة السر ) أشرنا الى أن أستطاع وبحرفية ومهنية قل نظيرها لدى غيرة من الكتاب الذين يحاولون مزج الواقع بحكايات الأساطير وماورثنا عنها من مفاجآت ومفارقات قد يقف المرء عندها حائرا لايعلم من العلم الأ اليسير لفك رموزها وأبطالها الذين حملوا ألقابا مثيرة مثلما أستخدمها الأقدمون في الأساطير فمثلا تموز أله الخير وعشتار أله الحب وبلوتو أله الموت وحارسه سيربيروس ذو الرؤوس الثلاثة في الأساطير الأغريقية ...
وهنا نعيد القول بأن شوقي كريم استطاع أن ( يولف ) ذلك المزيج والخليط الصعب من الأحداث والشخوس واحالتهم الى شخوس عرفناهم من خلال ما أورثوه لنا من مآس وأحزان وذكريات تعصر قلوبنا قبل أن تجوس أعماقنا بأقدامها المشوهة الغريبة اذ مازالت آثارها تحتل مساحات كبيرة من رمال قلوبنا التي لاتعرف أي معنى للحب مثلما عرفت حدود العشق الممنوع الذي يتحدثون عنه ...
ففي الأساطير كان لسطوة الملك اليد الطوى والقوية لتسخير كل متعة من أجل إرضاء نزواته ومن مهه من حاشية .. ومن يعترض ذلك فسيكون مصيره الموت على يد السياف الذي يقف عند الأبواب ... وتأسيسا على ذلك فمن المستحيل أن يتحقق الحلم الكبير للناس العاديين في تجسيد المبادئ والقيم التي قد يتجه بعض الناس الى اعتناقها كما يعتقدون عاداتهم ودياناتهم وبأطيافهم كافة .. وهذا الشيء تتضح معالمه الكابية والجاردة  من خلال مايحاور بطل الرواية وهو يكرر القسم ( لمبرودك) بالقول ( أظن أني أصدق سيدي دون القسم بأله مثل مرودك !!..) ثم يردف ( لم لاتريدني أن أقسم بمرودك وهو رب بابل وناصرها ؟!..) ويؤكد ذلك في الأجابة ..( ها أنت تجيب على سؤالك رب بابل وناصرها ..) ويتجلى أمر الطغاة وسطوتهم على رقاب الناس وأمتلاك اراداتهم وسلب أوطانهم في هذه المحاورة
العجيبة التي يزجنا فيها شوقي كريم من دون أن يلاحظ أنه كشف الستار عن عنجهية الألهة أو الملوكية وسلطانها في الأرض من خلال ( مامعنى أن يكون الرب ربا أن هو أخل بربوبيته ولم تصر على ابقائه .. مرودك هذا أله مجنون جعلته النذالة يودع بابل بين الموت ...)
وهنا تبرز معالم الأحداث جلية يوم كان من يرأس العباد يمتلك شجاعتهم وبسالتهم واقدامهم على الموت بعد أن تعدى ذلك الى أمتلاك ثوراتهم من خلال اشعال الحروب المتعاقبة وزجهم كالقطيع في أتونها الملتهبة ضحايا لتهوره وعشقه للدم ولروح المغامرة وحب السيف الذي ضاع بريقه من صبغة الدم التي تغلف جميع أضلاعه .. عندما يتساءل الكاتب ( وأين هم الأن – لم لايقولون شيئا عن ذبح بابل من القفى ...) ويبقى الكاتب حائرا ( بين كائنات مأت احشاءعا بجيف الأضاحي وتركت الجوع يسري بين أوصال العامة .. فهو يرى أن الكهنة أشد خطرا على بابل من قاتليها ..) ..
أن هذا النشيج الروحي والنزيف الذي يمثل الدم المهدور ومنذ بداية ظهور صناع الحروب بأبهى صورة لجبروتهم وبطشهم فقد تمعنوا في حرق روما ةأجزاء كبيرة من أرض الخليقة حتى كانت مهاراتهم تتجدد في كل مرحلة من مراحل نضوج الأنسان لتنفجر فجأة على شكل دوي كبير وكتلة غائمة تحملها ألسنة النيران واللهب ليحرق الأخضر واليابس  
(فالبابة السر ) هي الوحيدة التي تتحدث عن معرفة الجذور الفكرية لأعتماد الأسطورة في رسم اللوحة الكبيرة لما يمارس من عنف ضد الأنسان ومنذ بداية الخليقة وجاءت بشيء أروع من قدرة الكاتب شوقي كريم وبراعته في إعطاء تلك الأساطير روحا متقدة برد الفعل الكبير على العنف الذي مارسته الألهة ضد الأنسانية جمعاء وهذا أعلى درجات الحبكة الفنية في بناء الرواية وجعلها أسطورة تضاف الى مسيرة الأحاث التي عاشها الناس رغم انوفهم .. ومثلما رسم فلاديمير نابوكوف وماركيز وغوغول واتسانس جيبور جيبو ونيكولاي كازنتزاكي وغيرهم المعالم الحقيقية والخفية لبناء الرواية الرصينة .
تبقى ( لبابة السر) هي إشارات ومعالم واضحة تذكرنا بأمكنة وشخوص عاشوا على هذه الأرض وبنوا فيها وعمروا وأعلوا البنيان ثم من بعد ذلك جاءوا بطوابير من الخونة والضعفاء ليبدوا بخرابها كما فعل المغول والتتار وهولاكو وحرق كل نبته طيبة في حقولها ومزارعها .. فكانت أرض بابل هي الشاهد الوحيد الذي تركه لنا الكاتب الكبير شوقي كريم في رائعته هذه التي دمج فيعا الواقع والتأريخ والأسطورة بأروع ( خلطة) أدبية وحرفية ومهنية عالية ...
أن ( لبابة السر) تعد إضافة كبيرة لتأريخ هذه البلاد وسرد مثير لما شهدته من احداث ومغمرات كان أبطالها الحقيقيون هم من خلف لها أكبر رصيد من الحكايا الغريبة والمريبة التي لايمكن لاحد أن يمحوها بجرة قلم أو يتناسى فصولها مثلما أراد لها شوقي كريم ( أن تظل أشتعالا دائما واغنيات تعبأ الحناجر بالفرح والأمنيات ) .. لكنه يعود بترديد السؤال المحير ( فمالك تبويد تواجه السيف بوردة .. مالك تبدل العويل بغناء عذب .. مالك تريد لسومر ان تواجه النار بهدوء وأنتظار لامبرر له ..) ..
اذن يبقى شوقي كريم عائما في ثورته خالدا في نفوره من كل شيء لايستطيع أن يفني الأرض ويطمس معالمها حتى تظل بابل ترفل بعزتها وترتدي ثياب العفاف التي مزقها صهيل الخيول الجامحة في لجة الأنتظار الطويل خلف اسوارها لعودة اوروك وهي تقيم الصرح الخالد وتتلو لسومر أعذب الأناشيد .