نعم لثورة تموز عيداً.. لا للتبعية وصمةً - د.نادية هناوي

  • 6-11-2020, 19:03
  • مقالات
  • 1 097 مشاهدة

ليس من قبيل الصدفة ولا المفارقة أن يكون (تموز ) زمن العراقيين وحدهم لا غيرهم، يجري في عروقهم ويمضي معهم حيث يمضون يلازمهم كالنار الأزلية التي ما أن تخفت حتى تتجدد، منبعثاً فيهم كقوة بناء وحضارة غابرة تارة، ومحك استحقاق يعوضهم عما خسروه أو ضيعوه في أحيان من الزمان تارة أخرى.

والعراقيون القدماء منذ سومر وأكد وآشور كانوا يرون تموز إلهاً للخصب والنماء وموسماً للعشق ورمزاً للتوالد والعطاء فلا يمر عام عليهم إلا تموزهم معهم يقدمون له النذور والقرابين معيدين له الحياة وهم يعلمون أنه لا ينساهم ولا ينسونه. حتى إذا نهض من رقدته شامخاً مهاباً جسوراً استمدوا من نهضته نهضتهم فكانوا الأباة على الضيم والدعاة إلى الحضارة والبناة لكل ما هو مجد.

ولم تكن حياة العراقيين القدماء منتشية بالأمل سوى بتموز الذي به تنضح الجرار وتهتز الأرض بما حملت وينمو الزرع ويثقل الضرع وتخضّر الدنيا وتزهو. نعم إنه تموز الذي به تزداد أرواح العراقيين نمواً وتطلعاً إلى غد سيكون تراجيديا بعودة تموز إلى رقدته؛ بيد أن ما اكسبه إياهم من نهضته سيمنحهم العزم حتى يحيا من جديد في العام القادم ليشحنهم بالقوة والارتقاء والعزم، مالئاً صدورهم بالإرادة التي بها يواجهون شهوراً من اليباس والقحط والبرد. وإذا كان البكاء هو عزاء البابليين على رقدة تموز؛ فإن الولاء له في رقدته هو الأمل الذي به يبقى تموز محملاً بكل ما هو خيِّر وجميل.

من هذا العشق العراقي القدديم لتموز انطلقت شرارة التمجيد لأدونيس تموزاً إغريقياً وحاكى بعل الفينيقي تموز السومري. ومن هذا التمازج بين الزمان (تموز) والإنسان (العراقي) صار تموزُ بالنسبة إلينا شهراً ليس ككل الأشهر. إنه الشهر الطقس والشهر الذاكرة والشهر الفصل الذي فيه كل ما هو فخر وانتصار واقتدار وانعتاق والشهر الذي فيه يهل السعد والوعد والخير والفضل فلا أعراس ولا ختان إلا في تموز.

وتموز هو الشهر الذي فيه خُطت صفحات تاريخنا الوطني حروفاً مضاءة بالأمل والألم وبالفرح والدموع، فكانت للعراقيين صولات وجولات وهم يستردون حقاً مضاعاً أو أرثاً غابراً ويحققون انجازاً عظيماً أو يؤدون عملاً جباراً.

وأي عراقي ما أن يعود بالذاكرة قليلاً الى الوراء أيام الطفولة أو خلال مرابع الصبا وعنفوان الشباب حتى يجد أن له في تموز ذكريات نجاح وانتقال وتقدم. ولعل أول النجاحات نجاحه المدرسي مغادراً مقاعد الدراسة منتقلا من مرحلة أدنى الى مرحلة أرقى وأعلى لتأتي من بعد هذا النجاح نجاحات في العمل وأخرى في الحياة.. فكأنها المشيئة الربانية التي جعلت تموز لنا وحدنا مصيراً فيه نقيم ثوراتنا وفيه نعلن عن وجودنا ونؤكد هويتنا. وما من ثورة لها في تاريخنا البعيد أو القريب أثر وفعل؛ إلا هي تموزية بالمفهوم النهضوي التحرري لتموز ولاسيما في تاريخنا المعاصر الذي فيه كلل العراقيون صبرهم بنصر مؤزر تحقق في يوم تموزي عظيم انعجن في جينالوجيا ذواكرهم الشعبية واختلط روحياً في أعماقهم الأبية، إنه يوم الرابع عشر من تموز 1958 .

بهذه الثورة التموزية قاد شعبنا الغيور نفسه بنفسه رافضا أن يبيت على ضيم المستعمر فما خشي بطش حكام متخاذلين ولا طأطأ رأسه تذللا لاجنبي ولا ضعف ولا خان ولا نكث ولا خدع؛ بل استمد العزم واستلهم العقيدة حتى أخذ حقه بيديه.

بالثورة التموزية تربينا على تبجيل الثورة المجيدة محتفين بها عيداً وطنياً، فيه ينهض تموز من رقدته كل عام لينهض بالعراقيين كما نهض بأسلافهم السومريين والبابليين والأكديين مستجيباً لنذورهم متقبلا قرابينهم معيناً لهم على أعدائهم وممداً فيهم العزم ومزيداً نار غضبهم على من يخونهم ويستغلهم وينهب ثرواتهم.

بالثورة التموزية الرابع عشرية هوت عروش العملاء وسقطت ذرائع الرجعيين المتواطئين منكسي الرؤوس أمام الأسياد الأجانب، بائعي العراق بثمن بخس من أجل حفنة امتيازات وهبات تزيد صورهم البيدقية ذلة بأجسام ظاهرها بدلات أنيقة وربطات عنق منسقة كأنهم هم أصحاب القرار بينما باطنها يكشف عنهم بلباس خدم ذليل يمسِّحون الأكتاف ويعتاشون على فضلات موائد المستعمر.

بالثورة التموزية ارتفعت رايات الحق والتضحية وتنكست أعلام المرتزقة فتهاوى الباطل وقامت الجمهورية العراقية من الرماد عنقاء على بأس ومضض وشدة وعناد وهي تعلن أن العراقيين إذا أرادوا فعلوا.

وعلى الرغم مما رافق هذه الثورة وتلاها من مصاعب؛ فإنها جاءت بالمكاسب والانجازات التي لا تخطئها عين المنصف الحصيف ولا تغيب عن أذهان الصادقين الأمناء. هي مكاسب عظيمة لان منافعها ما زالت الى اليوم تترى منذ لحظة الانبثاق الاولى في 1958 والى اليوم؛ لا لشيء سوى أنها لحظة عشق وحياة.

وحري بمناسبة بهذا العظم والشموخ وهذه المعاني والسمات أن تكون لنا ولأجيالنا القادمة ذخرا نحتفي به عيدا نستذكره لأننا حققنا فيه انجازات ومكاسب يصعب الإحاطة بها في هذا المقال ولأن فيها تتوكد هويتنا وتشمخ أصالتنا بامتداد حضاري عريق ننتمي فيه لاولئك الأسلاف التموزيين السومريين والأكديين والآشوريين.

إذن لا غنى لنا عن تموز كما لا غنى له عنا، فلقد تلاقينا بمشيئة مقتدر لقاء حياة بكل معانيها الاجتماعية والسياسية والفكرية واللغوية والادبية، فكنا مهد أولى الحضارات على وجه الأرض قاطبة.

ولنا على صعيد الشعر والقص أمثلة مستمرة لمبدعين استلهموا من تموز أعز أعمالهم وأغناها، وفي مقدمتهم الرصافي القائل:

إذا انقضى (مارت) فاكسر خلفه الكوزا ... وأجفل بتموز إن أدركت تموزاً

أكرم بتموز شهراً إن عاشره ... قد كان للشرق إكراماً وتعزيزا

شهر به الناس قد أضحت محررة ... من رق من كان يقفو إثر جنكيزا

وكذلك السياب الذي وجد في تموز عراقيته فلم يغالط نفسه ولا ضميره هو يقف في وجه الموت غير مستسلم لنهاية وهو الذي تقنع بتموز مهابة، فتحمّل التضحية من أجل عشتاره: ( لو أنهض لو أحيا / لو أسقي آه لو أسقي / لو أن عروقي أعناب / وتقبل ثغري عشتار)

فكيف بعد ذلك ننسى تموزنا عيدا نحتفي به في أنفسنا قبل أن نحتفي به مع بعضنا بعضاً ونتفاعل معه شعبيا قبل أن نتفاعل معه رسمياً؟ أ يكون غير تموز بديلاً عن تموز إلا إذا كنا قد قبلنا أن ننسخ عراقيتنا بعراقية أخرى نصفها تابع ونصفها مشلول ؟ وكيف نقبل بغير تموز عيداً وهو معنا يعيش بيننا ويمشي في عروقنا نابضا بالحياة ؟ وهل لنا أن نستغني عن تموز عيداً وننسى أن 30 حزيران التي منها انطلقت شرارة ثورة العشرين تتلاقى حتماً وبُداً بشرارة ثورة الرابع عشر من تموز لتستمرا بعد ذلك كل واحدة تكمل الأخرى؟ وما الغاية من عيد ينسينا وحدة أمجاد حضارتنا التي لا تفصل بينها العقود والقرون بل هو تاريخ يمتد إلى الحاضر ويتجاوزه الى الغد القادم؟

ولا غرو إننا إذا قبلنا غير تموز عيداً فكأننا سلَّمنا لموتنا الجماعي ونسينا ذاكرتنا الجمعية. وهو ما يريده القابعون في كواليس معينة ممن تغيظهم الانجازات التموزية التاريخية.

أقول هذا وأنا أعاضد وأساند ما تفضل بطرحه الناقد الكبير الاستاذ فاضل ثامر في مقاله الموسوم ( لا بديل عن الرابع عشر من تموز عيداً وطنياً للعراقيين) المنشور في جريدة المدى العدد 4786 بتاريخ 11/10/2020 وفيه ناقش مقترح تغيير العيد الوطني الى يوم الثالث من تشرين الأول مؤكداً ضرورة أن يكون 14 تموز من كل عام يوماً وطنياً ذا قيمة رمزية واعتبارية لا يحملها اليوم المقترح من قبل مجلس الوزراء وهو 3 تشرين الأول.

وأشد على يديه مؤيدة اقتراحه نظراً لمصداقيته ومنطقيته ومعي سيشد على يديه أيضا كل عراقي يجد نفسه تموزياً لم تغيّر صنف دمه التدخلات والمغريات ولم تبِّدل هويته ولسانه جوازات بديلة أو مشتركة أو دبلوماسية ولم تطمس بصيرته وتنيم ضميره مصالح ضيقة ومطامع مبيتة .

قد يقال إن يوم 3 تشرين ليس اقتراحاً لأنه ناجز ومفروغ منه ولا تعديل عليه ولا نقاش فيه وسيعلن على الملأ قريباً شئنا أم أبينا فنقول إن كل أمر يُدبر بليل يظل مؤقتاً ومهزوزاً، إذ سرعان ما ستمحوه النهارات التموزية الحارقة لينتهي ويذوي من تلقاء نفسه... ولنا في ذلك شواهد ليست بعيدة يعرفها كل حصيف وشريف.

وقد يقال إن هذا المقترح الجديد قدمه أصحاب الخبرة والشهادات من المؤرخين والمفكرين فنقول إذن: سموهم لنا إن استطعتم واعلمونا ما شكل لجانهم وما طبيعة اجتماعاتهم ؟ ثم متى اجتمعوا وكيف جُمعوا ؟ وما نوع ولاءاتهم ؟ وما الدرجة الرسمية التي يتمتعون بها ؟ وما شهادات ميلادهم قبل شهادات علمهم ؟ وأية درجة من المقبولية لهم في الشارع الشعبي العراقي ؟

والاستاذ فاضل ثامر بحكم ثقافته ومكانته في الوسط الثقافي العراقي والعربي قريب الصلة ويعرف ما لا نعرفه عن تلافيف هذا الموضوع والغايات الكامنة من وراء إثارة هذه المسألة الحيوية التي تمس حياتنا وتلامس قضايانا المصيرية السياسية والاجتماعية ومنها ما ذكره في مقاله آنف الذكر الذي فيه وصف 3 تشرين بأنه(( تمرير)) قائلاً: ( إن تمرير مثل هذه التعديلات ليس بالأمر الهين لأنه يتطلب اجماعاً وطنياً وشعبياً , ونذكر جيداً الاعتراضات الكبيرة التي برزت عند محاولة تغيير العلم ، واختيار علم جديد ، حيث رفضت جميع النماذج المقدمة , واقتصر الاتفاق على إجراء تعديلات بسيطة تمثلت في حذف النجوم الثلاث فقط. كما جرت محاولة أخرى لتغيير النشيد الوطني ..) هذا الى جانب ما كشفه من أسباب توجب الإبقاء على تاريخ العيد الوطني الرسمي الحالي المقترن بثورة الرابع عشر من تموز بوصفها ثورة جذرية عبّرت عن طموحات الشعب العراقي وآماله التي ظلت معلقة طيلة أربعين عاماً، بسبب ارتهان سيادة العراق بهيمنة الإدارة البريطانية وسفارتها، وإفراغ الاستقلال السياسي وانضمام العراق لعصبة الأمم عام 1932 من جوهره الحقيقي، مفنداً مزاعم وزارة الثقافة ومنها أن اليوم الحالي ،أي يوم الرابع عشر من تموز لا يحظي بأجماع شعبي ومن ثم فإنها أي وزارة الثقافة بصدد البحث عن يوم آخر يحظى بمثل هذا الإجماع والمقبولية) .

وما من عجب في أن ثورة الرابع عشر من تموز 1958 لم تكن مجرد حركة إصلاحية وانتفاضة سياسية او انقلابا عسكريا وانما هي ثورة شعبية حقيقية اشتركت فيها كل طوائف الشعب ومكوناته ناشدة التغيير الذي يصب في خير الشعب ويحقق له مصالحه من التعليم والصحة والضمان الاجتماعي الى الزراعة والمحاكم والخدمات العامة وتحرير الثروات الوطنية من أيدي المحتكرين وغيرها من التطلعات التي ما كان شعبنا يبغي بلوغها بطريقة دموية أو فاشستية عنيفة بل بطريقة تموزية تجمع التحرك العسكري بالوعي السياسي الوطني؛ المنبثق من فكر جبهة الاتحاد الوطني وتوسيع مدى الانتفاض الشعبي الى حدود الاعتراف الدولي.

هكذا قوضت ثورة الرابع عشر من تموز الفساد والفاسدين حكومة ومجلس نواب ودستوراً زائفاً ونظاماً بوليسياً على حد رأي الرصافي القائل( علم ودستور ومجلس أمة ...كل عن المعنى الصحيح محرف )، ورفضت بكل أشكال الرفض احتكار السلطة والتلاعب بمقدرات الشعب بحجة ( الديمقراطية الملكية ) المزعومة، منتقلة بالعراق من بلد تابع للأحلاف الاجنبية ومعسكر غربي إلى بلد جمهوري مستقل غير منحاز.

وثورة 14 تموز لا تخمد حتى تزداد أواراً ولا تنضب إلا لتعيد تخليق ذاتها من جديد متناسلة ثورة عن ثورة وانتفاضة عن انتفاضة. وآخر نسلها وليس الأخير ثورة الشباب التشرينية الراهنة. الشباب الذي أرادته حكومة الطوائف فائضاً عن الحاجة فهب عن بكرة أبيه معلنا ابتداء من 25 تشرين الأول 2019 والى اليوم انتماءه التموزي لثورة الرابع عشر وهو ينادي أنه ليس عاطلاً ولا فائضاً وأنه قادر على أن يتجاوز منظومة النخب السياسية والأحزاب التسلطية وكتلها الكونكريتية ويقول قولته الحق ( نريد وطناً )

نعم نريد وطناً حراً له عيد تموزي واحد لا ثاني له، كتبه القدر عليه أزلياً ليكون هويتنا المغروسة في أنساغنا والمنصهرة في كينوناتنا دماء تصعد وتنزل في دورة تاريخ دائمة التجدد والتوالي على مر الأزمان.