الانتحار صمتاً - حيدر المعموري

  • 21-08-2020, 11:05
  • قصة قصيرة
  • 1 011 مشاهدة


(عليك أن تحاول اللحاق بالآخرين والانغماس بينهم وإياك أن ترفعَ رأسكَ. حدق إلى الحضيض واصرخْ بقوةٍ مع الحشودِ وإلا فلنْ تخرجَ الكلمات من حنجرتِك الموبوءةِ مرةً أخرى) .

الوجعُ يتخبطُ بقوةٍ بينَ قضبانِ أضلاعِهِ المرتسمةِ كالخيوطِ على الرقاقةِ الشفّافة التي ما زال الاختصاصي المفترضُ يتفحصُها بنظراتٍ متشككةٍ كأنّها دليلُ إدانةٍ مستعيناً بالضوء الكاشف لمصباح النيون الملتهب . تساقطتِ المفرداتُ على سطح الصمت مشوبة بالاتهام فيما تهاوت بقاياه السائبة على المقعد الصلب الذي يقيدهُ بشكل محكم، لم يكن هنالك ما يمكنُه إخفاؤهُ أو الاعتراف بهِ فانفلتتْ حواسُهُ بتأثير اللامبالاة تزحفُ على الرداءِ الأبيضِ المُبقّع برذاذ الدم والذي لم يتمكنْ من إخفاءِ الاسوداد المطلق الذي يرتديه جرّاح الخفايا المُريب. بترفعٍ مختلطٍ بالاتهام ، إفتعلَ الاهتمامَ المطلوب ليتمكن من حقنهِ بعقار الموعظة . أرادَ أن ينتفضَ لكنَّهُ لم يعدْ يقوى على الرفضِ فالاتهامُ المسرطنُ بالوعيد يحاصرهُ بقوةٍ ( عليكَ أن تعتادَ الترديدَ والهتافَ، إنتحبْ، عليكَ أن تنتحبَ، المزيدَ من السياطِ والدموعَ وستشعرُ بتحسن مؤكد). الخضوعُ يتكثفُ في الأعماق التي طالما عربدتْ وتسكعتْ على قارعةِ الرفضِ والتمرد. تلاحقهُ المفرداتُ الموصوفةُ للشفاءِ المنتظرِ من العزلة والانتظار وحيداً وسطَ غبارِ الموت والجنونِ العاصفِ الذي اجتاحَ المدينة بغتة ولما يزلْ يطمسُ معالمَها القديمة ويحيلُ طرقاتها الى متاهاتٍ تفضي الى العدمِ .

وسطَ أنين المجلداتِ القديمة المتناثرة على البلاط المغطى بالفقر والغبار وبقايا الأوراقِ الممزقةِ ، ينازعُ بيأسٍ نوباتِ الذلِّ والعتة التي تمكنتْ من الوعي في النهاية. لم يعدْ يطيقُ العزلة والمُضي متلصصاً بمحاذاة الوجودِ قابعاً بينَ جدرانِ التوحدِ المصمتة التي تحتوي ما تبقى من رغبةٍ ومقتنياتٍ آيلةٍ للاندثار في مقبرة التلاشي . تفسخ الزمنُ مستسلماً لجرثومة الانتظار الممض رغم الصلاةِ والنداءات وقضم الأوراقِ والتغاضي فيما دوّي الصراخ الدفين يخبو في الأعماق ودهاليز الخلايا والذاكرة المحتضرة. لم يعدْ يذكرُ على وجهِ التحديد متى أغلقتْ أبوابُ الحنجرة وأطفاَ السكونُ أجيجَ الرفضِ المستعرِ في صدرهِ منذُ التكوين لكنّهُ ما زال يستحضرُ بصعوبةٍ وتواطؤ من اللاوعي ذكرى قبضتهِ التي كانتْ تعتصرُ كتابَ التفسيرِ المُبهمِ وهو يتابعُ من بعيد أهازيجَ النمل البشري الملاحق لأرتال المصفحات الظافرة التي فضَّتْ بكارةَ المدينة التي كانت منيعة.

الحشودُ المستبشرةُ بالعارِ تحيي الرؤوسَ الناتئة من فتحاتِ الفولاذِ والمتطلعة الى البعيدِ عبر زجاج العدساتِ المعتمة. كان هنالك قطيع من الخرافِ يأكلُ ويلهو بالقربِ من الجزّار بلا مبالاة في انتظار الدور كي يعرضَ شهيّاً للجوعِ والشبقِ . إنسلتْ من باطن الفوضى قطةٌ مذعورة لاحقتها طفلةٌ انتعلتْ الفقرَ سرعانَ ما تكسرتْ صرخاتُها واختلطتْ بالأشلاءِ الملتصقة بالجنازيرِ المُسرعةِ . عندها تفجرَ جسدُهُ عن صرخةٍ ملتهبةٍ بالنقمة تلاشتْ على سطحِ الضجيج المعدني المعزز بالسخرية والعته والسعار. تهاوى على نفسهِ مستعيناً بالتغابي مفتعلاً الذهولَ حتى استفاقَ مسخاً هجيناً مستسلماً بلا هويةٍ يقتادهُ الذلُّ بحثاً عن أي انتماءٍ يمنحهُ تعريفاً جديداً .

تتلاعبُ الريحُ المشبعة بالغبار بهيكلهِ المترنحِ بهيكلهِ المستسلم لوطأة ثقلٍ أزلي أحنى عمودَهُ الفقري لكنّه ما زالَ يتشبثُ بهِ مرغماً رغمَ أنهُ سيخمدُ أنفاسَهُ يوماً ما . رغم الدهشةِ التي استوطنتْ آثارَ وجهَهُ المتعب لم يثره إصرارُ ذلك العجوز المنقرض على مقاومة الانهيار والمضي بلا توقفٍ.عاودَ تلمس الطريقَ المريب المؤدي إلى قلبِ المدينة بحذر مدججاً بالوهم ومحاولة التغاضي متلاشياً بلا ضلالٍ تقتفي خطواتِهِ المترددة .

السماوات كما عهدها آخر مرةٍ مازالت مترفعة مكفهرة ملبّدة بالنقمة. رائحة الشواء تتصاعد من أتون المدينة الملتهبة بالثأر والخبل. تلفتَ مثقلاً بالوجل قبل أن يتعثرَ في متاهة الهواجس التي تؤدي الى الخواء المحاذي لحدود القيامة المؤجلة. بذاكرة مضطربة يحاول تفسير بواكير الضجيج الذي ينكأ مسامعَهُ بإصرار فينكمشُ من جديدٍ في قاعِ الفزعِ متواصلاً باللا وعي واليأس الأليم ليستمرَّ في التوغل مكتشفاً التضاريس الطارئة التي تحجبُ المزيدَ من المخاوفِ المتمثلةِ بانقضاض المخلوقات المختصة بالحقدِ التي تتلذّذ بالسطوة والدماءِ .

ها هيَ فوهات الفضول والازدراء تحاصرُهُ بغتةً تُعرّي خفاياه وتدفعُ بخطواتِهِ الى المزيد من التلعثمِ والاضطراب. لم يعدْ بمقدورهِ أن يتقهقرَ فقدْ ابتعدَ كثيراً عن أسوارِ الُعزلةِ الحصينة وعليهِ أن يتابعَ رغماً عنه كما هو شأنه دائماً . فتّشَ برهبةٍ عمّا تبقى من ذخيرة العزم في جعبة الحنين فلم تسعفهُ الحكايا والأساطير القديمة . فوهات السخرية المصوبة الى رأسهِ تتواطأ مع قيظ الظهيرة لإذابة ما تبقى من التعقل الممتزج مع الذكريات النازفة من جراحات الهزيمة الكبرى . إخترقتْ بقاياه المهيَأة للنقمة نيران السخرية المنطلقة بلا تحفظ لتجهزَ على ارتباطِهِ المنسي بخرافةِ السمو الموروث فأسلمَ نفسَهُ للطرقاتِ والخرائب تعبثُ بحواسِهِ كيفما تشاء لتتساقطَ في دوّامة التسولِ على بوّاباتِ الانتماء الفوضوي المذلّ علَّهُ يقتنصُ شيئاً من الطمأنينة المؤقتة ولكنّ بلا جدوى فكلُّ العناوين تأنفُ أن تمنَّ عليه بنعمةِ اللجوء والتخفي وتقحمُه أكثر فأكثر في أجيجِ الذعر المستعر في داخلهِ. ألقى بجسدهِ المتعب متوارياً عن الانظار خلف تلالٍ آنيةٍ من الكتب والجثث والنفايات التي تكونت فجأة بعد النكبة. كانت ملامحُ الموتى مألوفة رغم أنها قد استترتْ بجذاذات الأوراق التي تطايرتْ من المحرقة. كانت تناديه بوضوح تتصلُ بهِ تلاحقهُ تتوحدُ معه وتتقاسمُ الانكسار والأبَدية والحلم المنقرض. إحتضنَ كتاباً ممزقاً ثمَّ عاودَ المضي من جديد.

كانت الأزقة المعتمة تتقيئ الظلام والموت والغموض . تتناثرُ الصور والمقتنيات القديمة على قارعة العدم فكلّ شيءٍ قابل للنشور في قيامة التجديد المزيف. المعدات والحاجيات والأرواح والآلهة والمشاعر. حتى الموت سيتكفلُ الغرباء بتجزأتهِ على مراحل لتسهيل السدادِ . باغتَهُ صفٌّ منتظم من أسنان بيض مشحوذة بعناية تبدو مهيأة للمضغ والتقطيع في لوحة إعلان تحاولُ التعبير عن الفرح المعلب في ضحكة الشقراءِ المجتزأة من مجرة الحلمِ وهي تعدُ بالكثير وتحقنُ أمنياتِ الحشودِ بعقارِ الانفلات الشاذِّ من القلقِ العضال لملاحقة الوهمِ المستوردِ من وراءِ البحارِ.

قوافلُ الفولاذِ المتواصلة تستحوذُ على الأفقِ وتحجبُ الشمسَ المتساقطة في الشقِّ الغربي من الامتداد المُسطحِ بلا نهاية . تملأُ الشوارعَ وتسدُّ الفراغاتِ . تلتهمُ كلَّ ما تصادفُهُ من قرابين الحياة. إستفاقَ متكوراً في زنزانة التردد المستديم فقد عاودتْهُ آلامُ الصمتِ بقوة تجبرُهُ على احتضار أوامرَ الاختصاصي المتوعد في انتظار قيامة الضجيج المختزن. أصوات الطلقات الطائشة تتوالى مع ضربات الجزّارين على الأشلاء المتناثرة. ارتمى وسط الحشودِ غاطساً في لجّة الاضطراب المجنون الذي طالما هدّدَ انعزالَهُ الذي كان يظنُّهُ سرمديّاً. استسلمَ للموجات التي أخذتْ تتلاعبُ بذهولهِ بلا مقاومة بحثاً عن استقرار طارئ ونهائي في قاع العدم في تخلٍ واضحٍ عن القلقِ والانتظار والترهات. لكنَّ أوجاعَ الصمتِ استمرتْ تقبض على حنجرتِهِ معززة اليقظة الأليمة . تصاعدَ الضجيج والهتاف المسعورُ مهللاً وسطَ صالة كبرى بدت مهيأةً للجراحات المميتة. تيبستِ الهياكلُ واصطفتِ الحواسُ متأهبة شاخصة. الرؤوس تنتفخُ كالإسفنج في تهيؤ طوعي لاحتواء المزيد من الصراخ المُبللِ بالموعظة والمحاذير . ها هو الاختصاصي المفترض جراح الخفايا يظهر مجددا يعتلي صهوة الترقبِ متوسطاً الجماجمَ والبقايا التي ظهرتْ متفسخةً من ورائهِ على مرتسمِ عملاقٍ. لم يكنْ يتيح الفرصة للإتباع كي يظهرَوا الانبهار المطلوب بل استمرَّ يصوّبُ كلماتِهِ المعدنية الى العيون المزججة بالحبور في انتظار لا يشوبُهُ المللُ للعطايا الوشيكة محذراً من الكائنات المتشككة التي مازالتْ تختبئ وسط الآثار وبين الكتبِ والخرائبِ والمنسياتِ متنكرةً بالجنونِ والطفولةِ. تطاولت فوّهاتُ الأسلحة حتى لامستْ جبينَهُ الرخو. يشعرُ بأنّه مكشوفٌ رغمَ ارتدائهِ البلاهة واللامبالاة الغريزية. إستفاقَ محاصراً بزمجرة قطعان من الضواري التي اقتنصت استغراقَهُ النادر للحظات. لم يعد أمامَهُ سوى الاستسلام لظلام المدينة العابق بالرعب والهواجس. كانت الجدران كما الوجوه الهائمة مصمتة جاحدة تحتقنُ بالرغائبِ الدفينة . لم يَعدْ بمقدورهِ احتمالُ المزيد فتوقفتْ قدماهُ بلا إرادة عند بناءٍ قديمٍ ينتظِرُدورَهُ في قائمة الفناء. تلاشت زمجرةُ الكلابِ مع الريح التي أزاحتْ ترابية الأزمان بسطوة غير منتظرة. خلعَ نعليه في استجابة حسّيةٍ لشحنة القداسة التي ألمّت به فجأة . ارتقى عدة سلالم بلا خوفٍ . لم يعدِ الظلامُ يغشى الأشياء كما اعتادَ أن يتوقع رغم أن ذلك لا ينفي اتباعهُ لذلك الضوء الخافت الذي كان ينسكبُ كنبوءة مُبدَّداً العُتمة. إحتضنتهُ الطمأنينة بلا مقدماتٍ حتى أغرتْهُ بالاسترخاء المناقض للمعطيات. لم يعدْ يعنيه صوتُ الطائراتِ الذي كان يبعثرُ سكونَ الليل مختلطاً مع أصواتِ السعار في حَفلاتِ المَوتِ اليومية . ترجلتْ مخاوفهُ فعادتِ الأمنياتُ تنبضِ من جديد. كان ذلك المسكن المسور بالسمو يتماهى مع لذة استذكار الملاجئ التي احتضنتْ اشلاءَهُ في حقبة الفناء الأولى. المكان يعبقُ بضحكاتِ الصغار الذين كانوا يمارسون اللهو على ضوء المحبة التي تكفلتْ بترطيبِ صحارى التوجس المستحوذة على الروحِ . المجانين يتشاركون التعقلَ والحكمة بصمتٍ فيما توسّدَ الآخرون المجلدات القديمة. تفتت الأحجار في جدولٍ مجاورٍ يتصل بالنهر خلسة وانسابَ الماء من بينِ فتاتِها بحذرٍ ثمَّ بقوةٍ مستعيداً هيبةَ الجريان بلا توقفٍ . شقّتِ الكلماتُ طريقَها من بينِ شفتيه بلا تحسبٍ. لم تعدِ الحنجرةُ مثقلةً بالوباء أو المحاذير. تناسى العواقبَ ولم تعدْ صورة الاختصاصي المخيف تستحوذُ على المُخيلة. بدأ يثرثرُ كصبيٍّ مشاكسٍ. انطلقت كلماتُهُ تصافحُ الحبورَ والأضواءَ البعيدة في المدى. لكنّه لم يحصدَ سوى التساؤلاتِ التي تتوارثُ بعضها في حلقاتٍ أبدية من الحيرة. واتاه نداءُ الفجر مؤججاً التأنيب الدفين كأنّهُ يخاطبُه بالذات لأول مرةٍ في تواطؤٍ من الأمل الموبوء بالوهم والعجز المستديم . مضى منقاداً الى مصدر النداء وقد استبقى ايمانَهُ الوليدَ مؤتمناً لدى قاطني البناء المترفع مستغيثاً بالسماء التي بدت نجومُها تحدقُ إليه متسائلة. جلس بعيداً عن الحشود المستسلمة للفناء الحتمي في انتظار المستجدات من الوعيد والوصايا والهباتِ التي قد لا تأتي يوماً ما . إنتفض وهو يرى المختصَ يقبضُ على الفجر مُدّعياً الصلةَ بالسماء هذه المرة. ها هو من جديد يشير اليه يتفحصهُ بذاتِ النظراتِ الحُبلى بالاستقراء والشكِّ والتأويل والأحكام الإلزامية. كان الرداءُ الأبيضُ المبقعُ بالرذاذِ الدموي الذي يأبى الزوالَ يلتفُّ حولَ رأسِهِ على هيأةِ مخروطٍ مرتفعٍ هذه المرة يخفي السماءَ المؤطرة بنافذة ضيقة وقد اكفهرتْ وبدتْ أكثر غموضاً وهي تنأى مبتعدة. كان هنالك عرشٌ مرتفعٌ تظللهُ بركة مياهٍ بدأ المتصل المفترض يغرقُ فيها بانتظار أن تسحقَهُ سنابكُ الخيول الظمأى في خضم استماتتهِ ليبدو في عيون الإتباع كجزءٍ من قداسة المشهد المستنسخ من الخيال. عاودتْهُ آلامُ الصمت الإجباري فيما يتلظى جحيمُ الرفض في أعماقِهِ. صرخَ الآخرون ... لبيك... لبيك ... لبيك . نهرَهُم المختص بجزع فـاتقدتِ الحناجر بالدعوة للثأر والانتقام. أفلتت منه صرخة استغاثة مريرة اختصرت احتجاجات السنين الدفينة. تقاذفتْهُ أمواجُ الحقد كقطعة حطام غارقة تحاول الفكاك من القدر الى الضياع. تدافعوا يتعثرون بالجوع والشغف تواقين للسحقِ  والتدمير للتبرؤ من الذنوب والأوجاع الأزلية . كانت المجنزرات الغريبة قد تكفلت باكتساحِ ما تبقى من البناءِ المهجور وقاطنيه وبعثرة محتوياتِهِ التي تلألأت كقطعٍ من النفائس وسطَ العُتمة والضجيج الذي تصاعدَ واختلطَ من حولهِ حتى أفقده القدرة على النطق والاحتجاج الى الأبد.