صدور العدد الرابع للعام الثالث والستين من "مجلة الأديب العراقي" بطبعة غنية بالجمال
يوم اللغة العربية فعالية مشتركة بين اتحاد الأدباء وكلية التربية في الجامعة المستنصرية
اتحاد أدباء العراق ينهي مشواراً ناجحاً في معرض العراق الدولي للكتاب
اتحاد الأدباء يبارك للأدباء الفائزين بجائزة الأبداع العراقي والمكرَّمين بقوائمها القصيرة..
الشعر والأدب الساخر محاور جديدة طرحها اتحاد الأدباء في معرض العراق للكتاب
الأجيال الأدبية والمسرح الجماهيري أهم محاور اتحاد الأدباء في معرض العراق للكتاب
(١٥) كتاباً جديداً يصل لجناح منشورات الاتحاد بمعرض العراق الدولي للكتاب
د.سلمان كاصد
من النادر حقاً أن نجد تعالقاً واعياً بين ثلاثة نصوص من أجناس أدبية متعددة ومختلفة ، ( الشعر والرواية والفيلم ) .. هذا الأمر يبدو نادراً فعلاً ، وإذا اجتمعت هذه الأجناس معاً ، فهذا لايكون مطلقاً الا من باب المصادفة التاريخية التي لاتتكرر كثير إلا بمثل اجتماع "الإلياذة" ( شعراً ، وقصة ، وفيلماً " في عصور مختلفة لكن أن يحصل ذلك في عصر واحد ، فهذا ماسنجده في فيلم ( في انتظار البرابرة ) حيث اجتمعت قصيدة فسطنطين كفافيس الشاعر اليوناني . التي تحمل العنوان نفسه برواية ( في انتظار البرابرة ) للروائي الجنوب افريقي الحاصل على جائزتي البوكر ونوبل ( جون ماكويل كوتزي) والصادرة عام 1980 والفيلم ( في انتظار البرابرة ) للمخرج (سيروجيرا ) إنتاج عام 1999 في 113 دقيقة الذي وظف عبقريته الاخراجية فيه ببراعة .
يقول فسطنطين كفافيس في قصيدته ( في انتظار البرابرة ) :-
(الجنود وصلو الحدود ، وقالوا لاوجود للبرابرة ، ولكن بدون البرابرة ماذا سيحصل لنا ؟ أولئك البرابرة المقترحون كانوا حلاً من الحلول ، التي تبرر وجودنا دفاعاً عنكم )..
تلك القصيدة هي باختصار شديد حكاية الرواية التي كتبها ( ج . م . كوتزي) وهي حكاية الفيلم الذي اخرجه ( سيروجيرا) .. والذي ظل الاسم " في انتظار البرابرة" ثابتاً ولم يتغير في القصيدة والرواية والفيلم .
الفيلم من تمثيل ( جوني ديب) "بدور العقيد " والذي سبق له ان مثل دور (جاك سبارو) في فيلم ( قراصنة الكاريبي ) و (مارك رايلانس) بدور القاضي ، وروبرت باتيسون بدور مفتش المخازن ، و (غانا بايارسايخان) بدور الفتاة البربرية ، و(جريتا سكاتشي) بدور مي و(سام ريد) بدور الضابط و(ديفيد دانسيك) بدور المساعد.
ثنائيات الرواية
مستوطنة حدودية معزولة في أقاصي(امبراطورية ما) بمواجهة قبائل بربرية مختفية وراء الصحرا والجبال ، تعيش بهدوء وهي متطامنة مع الاآخر المجهول .
يحكم المستوطنة قاض متواضع يوشك على ترك الوظيفة ، بسبب تقاعده، ولا نجد صراعا هناك بين الحاضر / الأنا والغائب /الآخر ، سوى حالة واحدة أراد فيها بربري ويطلق عليه أيضا (بدوي) ، أن يعالج ابن أخيه من مرض البرص الذي أصيب به ( لاحظ دلالة ذلك فيما بعد) فجاء به إلى المستوطنة ، بوصفها رمزاً للتحضر والإنسانية بفعل دور القاضي الذي يحبه جميع سكان المستوطنة كونه رحيما.
يصل العقيد (الممثل جوني ديب) ممثلاً عن الامبراطورية في مهمة التحقق من تهديدات (البرابرة) التي لاوجود لها أصلا .
يخلق العقيد جواً متوتراً منذ البدء بينه وبين القاضي الذي يؤكد له الأخير أن لا يوجد أي صراع بين القلعة والآخر المجهول القاطن وراء الصحراء والجبال ،هنا تتعقد الزيارة التي لابد لها أن تجد قضية ، اذ لارجوع للعقيد لعاصمة الامبراطورية بدون تحقيق في قضية ما أي قضية ، ولابد من الخروج بتقرير ..
تلك هي (الدولة) وأنظمتها الفاشية التي تحاول جاهدة أن تخلق صراعاً حتى لو كان وهمياً بين الأنا / المعلوم و الآخر/ المجهول ، في محاولة لأن يبقى الشعب مستفزاً متوقعاً الأسوأ ، الحرب ، الموت في أية لحظة ، بينما يبقى العقل / القاضي ، مدافعاً عن العدالة واللاعنف ، وبالتالي هذا لايرضي النظام المتعسف ، الذي يحاول إرباك السطح الهادئ لإثارة الزوابع .
حاول المخرج ( سيروجيرا) أن يقدم رؤية تاريخية عن انتهاك السلام في التاريخ فما كان عليه إلا أن يلجأ إلى (صلب المسيح) وعودتة حياً .
صلب المسيح
يحنو القاضي على المشردين ، كحنو المسيح على المرضى والمصابين بالجذام ، اذ ينتقل ليلاً لتفقد ساحة المستوطنة ، وحين يعثر على فتاة بربرية كسرت قدماها يأخذها ليداوي جراحها، ويستطيع بعد أن يبذل جهداً في استطبابها " لاحظ حركة يدة معمدة بالماء على قدمي الفتاة كحركة يد المسيح المفترضة " .
تشفى الفتاة ويأخذها مع 3 جنود ليسلمها لأهلها القاطنين لما بعد الصحراء (البرابرة) عابراً الصحراء الشاقة ويقفل راجعاً ، ولكنه يجد قراراً من العقيد باستجوابه واتهامه بالتعاون مع البرابرة وإفشاء مخططات الإمبراطورية .
يقاد بعد تعذيبه المرير إلى (الصلب) على يد الجنود .
يتم رفعه إلى منصة الإعدام فيعلق عليها ( القاضي) بعد أن يمشي طريق الآلام وهو مصفد اليدين بالحديد كالمسيح عاري الصدر ممزق الثياب ووسط هياج سكان المستعمرة الموهومين / كاليهود في أورشليم ( في استفادة من التاريخ المسيحي بشكل واضح) ليصعد منصة الاعدام متألما من خيانة الناس بالرغم من طيبته معهم .
لكن يكسر المخرج أفق توقع المشاهد إذ لم يتم صلب القاضي اذ نراه يعود في شوارع المستوطنة ليصبح كناساً في أروقة القلعة ، ويؤتى بعدد من البرابرة المسالمين الغائبين تماماً عن الفعل الحكائي ، ويطلب من فتاة صغيرة أن تضربهم بعمود من الحديد . وكل ذلك من أجل خلق الكراهية في قلوب سكان المستوطنة ضد البرابرة الفقراء .
وتبدأ السلطة لابالدفاع عن السكان وكأننا نشعر أنها تدافع عن وجودها ، بخلق قضية من لاقضية .
لم يستمر الأمر هكذا إذ تواجه الامبراطورية ممثلة بالعقيد وجنوده تواجه المجهول في عمق المجهول أيضاً .
يتجاهل المخرج عالم البرابرة ، يتجاهل ماهو مجهول أصلاً ، وهذا عين المنطق مادام المجهول ( البرابرة) مختفين عن المشهد فلماذا تذهب الكاميرا لهم ؟ ولماذا يضع المخرج (سيروجيرا) معركة واقعية بين جيشين ( جيش الامبراطورية بقيادة العقيد الحاضر في الرواية وجيش البرابرة الغائب الذي لايريد صراعاً ؟ ولذا فقد توصل المخرج إلى حل معقول ومنطقي وهو أن يقدم نتائج المعركة التي لم نرها ابداً وهي هزيمة جيش الامبراطورية بلجوء العقيد إلى المستوطنة مرعوباً ، منفرداً هارباً ، مهزوماً ، طالباً من القاضي الذي استطاع استعادة شخصيتة المؤثرة الإنسانية عدداً من الخيول غير أن القاضي لايمتلكها .
تندحر الامبراطورية ، تندحر قسوة السلطة الغاشية ، يتراحع العسكر هاربين من الوهم الذي أراد أن يخلقة قادة الإمبراطورية.
الرواية في الفيلم .
تمثلت القصيدة بوصفها رمزاً أراد منه (كفافي ) أن يصور فكرة فلسفية شاملة عن الدولة التي تذهب بأفعالها العدوانية إلى الذرائعية ، كي تحافظ على وجودها ، إذ لا دولة بدون عدو ، ولا شعب بدون وهم المعاداة وبهذا الفكر الخلاق لكفافي انتقل هذا التمثل الى رواية (كوتزي ) الذي صنع عالماً غاب عنه :-
1/ اسم الامبراطورية
2/ البرابرة وجيوشهم
3/ العالم الآخر ماوراء الصحراء
4/ سمات وملامح المحارب الآخر الذي لاوجود له
لهذا نجد أن مجمل الوجود يبدو متمركزاً حول الذات الواحدة التي تحاول أن تخلق وتحارب الوهم من أجل تأكيد الذات . والإما فائدة الذات إن لم يكن هناك الآخر إذ لا وجود لطرف دون آخر حتى لو كان وهمياً،
و مثالنا على ذلك " نحن بوصفنا وجوداً" والآخر المختفي الذي نجده في أفعالنا وهو الشر بوصفه وهماً . مخلوقاً في ذاتنا والذي عادة مانخلق صراعاً معه وباستمرار.
لم يخرج (سيروجرا) عن الفكرة الفلسفية للقصيدة أو الرواية غير أنه استطاع أن يحول مفهوم القصيدة إلى فعل على الماضي ، وان يدين السلطة وشرورها وهزيمتها وتخليها عن الشعب ، حتى أن الشعب وصل إلى حالة من الفزع في زمن الفوضى، بهزيمة الدولة وتفشي الهلع في لحظة انهيار الجيش ، وهي حالة تتكرر عند كل شعوب البشرية متمثلة ب" النهب والسلب " الذي حصل حالما هرب جيش الامبراطورية "العقيد وما تبقى له من الجنود" المفزوعين .
الفصول الأربعة
يقسم المخرج (سيروجيرا) الفيلم ( في انتظار البرابرة ) الى أربعة فصول ، وكأنه يحاكي سيمفونية (الفصول الأربعة ) لفيفالدي ، ولكن مافاته حقاً أن يستخدم موسيقى السيمفونية ، بشكل رمزي وهادئ ليتطابق التوظيفان في السيمفونية والفيلم ،وبذلك يدخل السيمفونية بوصفها نصا حياتيا تعبر النغمة كونها رمزا عما يجري في (الصيف والشتاء والربيع والخريف) كما عبر المخرج علنا عن تحولات الفصول في الفيلم . وبذلك اعطى المخرج المساحة الزمنية التي تدور فيها أحداث فيلمه , وهذا بمثابة فعل رمزي عن عمق التحولات التي لم يحصل فيها أي صراع سوى صراع الوهم داخل بنية المجتمع السلطوي.
التساؤلات
يحتمل الحوار بين القاضي والعقيد بين الشرع والسلطة صراعاً خفياً بين العقلانية /القاضي واللاعقلانية / العقيد ، الذي جاء وهو يضمر حقداً على وهم في أعماقه .
تبدأ التساؤلات التي يطلقها القاضي عن سبب العدوانية وتبدأ الأسئلة المواجهة التي يركبها العقيد من أجل خلق قضية .
قلت : حاول المخرج أن يحاكي المسيح في هدوئه الذي قدمته الكتابات الانجيلية ، وماقدمته الافلام الغربية حين اقتيد مطوقاً من رقبته للمقصلة ، وبذلك حاول المخرج بأقصى طاقته أن يدين السلطة ، وحتى بعض فئات الشعب التي هللت للسلطة ، حين بدأت تشجع صعودة بأمر السلطة ذاتها إلى المقصلة المسيحية باسم الحفاظ على القانون ، وعدم التجديف والقناعة بالآخر والتواطؤ معه .
الانا المتمركز
يضع المخرج معادلاً موضوعياً للآخر أي البرابرة وهو "الطبيعة" وكأنة بذلك يريد إشعار المشاهد والمتلقي بأن الآخر يبدو متسامحاً هارباً من الاحتكاك بالحضارة المزيفة ، حضارة القتل والموت ، وذلك بان يجعل الآخر حاضنا الطبيعة الخلابة البكر ومتماهياً معها ، الماء النقي في الفيافي ، الأشجار الخضراء ، البرك الشفافة ، الليل الصافي ، فضاء مفتوح، فيه من الطمأنينة مايكفي لكي تشعر بانسانيتك .
هذا الفضاء هو ماكان يعيش به الآخر بينما أغلق (الأنا) ذاته بين أسوار وجدران القلعة التي بدا فيها الليل جاثماً ، والأطفال لامساحة لديهم ، لافضاء أخضر سوى شجرة واحدة يتيمة يدورون حولها وسط ساحة القلعة (المستوطنة).
رموز جميلة حقاً قدمها لنا هذا الفيلم . ولم يكتف المخرج بذلك فختم نصه الفيلمي بهروب الجميع عن القلعة سوى أولئك الأطفال الذين يلعبون حول الشجرة ، ويصعدون جدران القلعة فينظرون إلى جنود من تماثيل أخذت مواقع جنود مهزومين ، حيث أوحى لنا المخرج أن الدولة والسلطة باتت مثل تمثال (الفزاعة) خيال المآتة ، بينما كان ثمة غبار كثيف يتضخم في الأفق البعيد وهو مقبل باتجاه القلعة من الصحراء,وهنا يصيبنا الفزع حقا وهو مالم نتوقعه ونتساءل : هل جاء البرابرة؟
تمثلات الغياب
ظل البرابرة غائبين ، وغابت الدلائل على خيانة القاضي ،وغاب سبب الصراع ، وغابت روح العشق بين القاضي والفتاة البربرية ، وغابت خاتمة الفيلم ، وغاب اسم الامبراطورية ، واسم المكان ، واسم المستوطنة والزمان ، غابت المحاكمةالعادلة في اتهام القاضي في ظل الحضارة .
تمثلات الحضور
ظل الأنا حاضراً ، الدولة بقسوتها ، بجنودها ، حضرت القوة ، كما حضرت المستعمرة بقلعتها والسجن والخوف والتعذيب .. وحضر التاريخ المسيحي الذي لايزال يقارع السلطة الآخر في أناها ، أعماقها وتحاربه هي ايضا بما يطلق عليه " المظلومية "
فيلم يمتلك نظرة فلسفية رافضة للعنف وافتعال الأزمات التي تصنعها السلطات المتعسفة.
فيلم يقول أشياء كثيرة!