بلاد حسن عجمي

  • أمس, 16:32
  • شعر
  • 25 مشاهدة

بلاد حسن عجمي | حسين السياب


لم تَعُد الأيامُ لي،

تتكَسَّرُ في يديّ ككُؤوسِ السرابِ،

ولا ذاكَ الجدارُ

الذي كانَ يَلتصقُ بي كظِلٍّ أليفٍ،

يُرافِقني أينما مشيتُ،

أو جلستُ، أو مُتُّ في صمتِ المساءِ الطويل...

الطريقُ إلى "مقهى حسن عجمي"

لم يَعُد يُثيرُ شغفَ الغيمِ،

ولا يُغري الحنينَ بأن يُهدهدَ غُربتي..

حتى ضحكاتُ الشعراء المُنهكين

غدَتْ بُكاءً خفيّاً

تتوارى في زوايا المقهى الكئيبِ...

كأنَّ المدينة أغلقت أبوابَها،

كأنَّ البلاد تلاشت

خلفَ ضبابِ الحنين..

كأنّي أَنطفئ،

كأنّي أكتبُ للمرةِ الأخيرةِ...

أمشي،

والشوارعُ تَـنأى كأنَّ الخطى ليست لي،

والزُّقاقُ يُنادي غريباً سواي،

والنخلُ – آهٍ من النخلِ –

انحنى كشيخٍ يَعُدُّ الغائبينَ على أصابعه اليابسة...

أين صوتُ أمي؟

كانت يداها

تخيطانِ لي قميصَ الشعرِ

من طينِ النهرِ..

وحين جئتُ – كأني لم أجئ –

لم أعرف البيتَ،

لم أجد في البابِ وردة،

ولا في الظلالِ أنفاسَ أبي،

كلُّ شيءٍ تحول إلى رمادٍ

ينتفخُ في ذاكرةِ الغياب...

كأني لم أعد،

ولا القصائدُ تعرفني حين أناديها،

هاربة من دفاتري

كالعصافيرِ حينَ يُداهمُها صيفُ بغداد فجأةً..

كلُّ شيءٍ يُباغتني بنُكرانه،

حتى المرآةُ

تَرُدُّ إليَّ وجهاً غريباً،

بعينَينِ غارقتَينِ في سؤالٍ قديمٍ:

هل كنتُ حقًّا هناك؟

هل مشيتُ يوماً في شارعِ الرشيد،

وكتبتُ اسمي على طاولةِ المقهى

برمادِ سيجارةِ شاعرٍ ميِّتٍ؟!

لكن،

في زاويةٍ مبلّلةٍ من الليل،

أسمعُ مطراً خفيفاً،

كأنّهُ يُربّتُ على كتفي،

ويهمس:

ما زالَ فيكَ رمادٌ

يشتَهي أن يكونَ جمرةً!