الحوارات الخرساء لامرأة صاخبة في قصص شوقي كريم - محمود خيون

  • 10-03-2021, 20:26
  • نقد
  • 1 017 مشاهدة

( قطار احمر الشفاه )


الجزء الأول


الكثير من الكتاب والشعراء تحدثوا عن البؤس والضيم الذي لحق بالإنسان ودمر ذاته وشرأب ومن دون سابق إنذار ليحطم كل ارادات الناس الفقراء والمعدمين الذين مافتئوا يعيشون على أجنحة الأحلام الوردية وهي تعاشرهم داخل نفسوهم وعقولهم، فيعيشون لحظات هانئة قبل أن تطرق ابوابهم اليقظة فيعود كل منهم يعيش حياته خارج إطار تلك الأحلام فيعود لعالمه التعيس...ونحن نرى أن شوقي كريم أراد كشف الحقائق أكثر في مجموعته القصصية( قطار احمر الشفاه ) مثلما كشف الروائي العالمي فكتور هيجو في روايته ( البؤساء أو البائسون ) عن حجم الظلم الإجتماعي في فرنسا بعد سقوط نابليون والثورة الفاشلة ضد الملك لويس فيليب... ويصف هيجو حياة الناس بأنه نوع من جحيم بشري تسببه العادات والقوانين في بلاده...ولم يقتصر ذلك على البؤساء فقط بل صدرت روايات كثيرة تتحدث عن عذابات الإنسان وحجم الجوع والظلم الذي يعيشه على الرغم من الوعود التي يطلقها المتنفذون من حوله لتبرير ذلك بالصعوبات الاقتصادية والحالة الإجتماعية التي تعم البلاد.. ومن تلك الروايات رواية الفقراء وعناقيد القصب والغجرية وذهب مع الريح والحرام ورواية الخبز الحافي وملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ والجوع للكاتب النرويجي كنوت همسون.. 

والمتمعن في قراءة تلك الأعمال الكبيرة يرى أن الجوع لايقصد به إلى حد ما جوع البطن أو الحاجة إلى ملء البطون....بل فسره البعض الجوع الإجتماعي بكل صنوفه الأكل والملبس وما يترتب عليه كذلك الحنين والجوع إلى الجنس واحتياج الخلق من كلا الجنسين إليه...فالحرمان يشمل كل الجوانب المجتمعية التي تحيط بالإنسان وتكون المصدر لانبعاث روح معذبة تعيش في داخله وتعشق وتشتهي وتميل إلى رغباتها بالإكراه أو الرضا.. ومن هذا المدخل يخوض بنا شوقي كريم في غماره مع قصة المجموعة الأولى( انحسار ) إذ يعترف بأن( لا فائدة في الركض وراء سراب لامرأة تهميم في أفق صحراوي محترق الأطراف، أتحمل رائحة الروث العفنة كالموت، اسطبل كهذا..رجل مجنون مثلي بهواه لايمكن ان يضع الموت عليه رداءه!! ) ...ثم يردف..( أحسست شيئا غير تأجج رغبتي الأزلية تلك اللحظة الهرمة من الزمن!!- كان ابي يغازل أمي يضربها على مؤخرتها مازحا وكنت أحاول منعه لكن الرجل ضربني بحذائه على خاصرتي واوما إلى رجل آخر رأسه كرة عتيقة..فجردني من ملابسي وضربني على اليتي كما كان أبي يغازل امي فاحسست إنتشاءً غريبا وعرفت لمَ كانت أمي تصبغ وجنتيها بالديرم ما يحل المساء !! )....

وهنا يكشف شوقي كريم عن حجم الكبت والحرمان الجنسي الذي يمتلك كل أبطال قصصه ومن دون تمييز أو هو يتحدث بضميره الغائب وهو هنا يعتقد بأنه السبيل للخروج من هذا الجحيم الذي يعيشه بمرارة والم وشوق.. فهو هنا يذكرنا بأعترافات رجل من الجنس الأبيض لهمبرت همبرت حين كان يعصر قلبه الشوق لتلك الفتاة الصغيرة والتي لم تتجاوز الثانية عشرة من عمرها وكيف كان يمني النفس بأن تسنح له الظروف بأن يفترسها حتى يشبع ذاته من رحيق النهدين الصغيرين كرمانتين في غصن طري....

ولم تنتهي عند الكاتب تلك الجائحة فهو مازال يراقب عن كثب تصرفات والده وعشقه الجنوني لامرأة باسقة مثل جذع نخل يافع...كان يكره أن تراوده سحابة تغطي حجم الضوء الدافق من بين طيات مفاتن جسد تلك المرأة التي ولدته بالخطأ فصار صبيا ينام على حجرها ويلثم حلمة نهدها من حين لآخر حتى يرتوي بذلك الرحيق الإلهي السائل الأبيض ( الحليب) والذي يشبه إلى حد ما السائل الذي يشربه والده عند كل مساء.... 

(ورأيت  وجه أبي يبتسم لأمي بود وأمي تداعب خصلات شعرها بدلال مغتاج وانا أدور ورأسي تحت اغطيتي، فما أسمع غير فحيحهما..)..

بهذه الصورة المباشرة تختلج لدى الكاتب احاسيس كثيرة تذهب به بعيدا حيث يغور في أعماق الرغبة واللذة التي يشعر بها وهو يراقب عن كثب أنفاس أبويه وهي تتلاحق من شدة وهول الممارسة الحية لمشهد من مشاهد الشعور الإنساني بمتعة الإجتماع... وربما يتضح ذلك الأمر جليا من خلال الحوار الصامت والاخرس بين امرأة وزوجها..( أمي قالت مخاطبة أبي.. آه لوكانت لدينا غرفة ثانية!! )...

وفي قصة( العرق)  نصدمُ مرةً  أخرى بشوقي كريم وهو يبدأ المحاورة مع أمه وكأنها عشيقة قديمة...وهي كانت تحلق عاليا صوتها يطوف في أرجاء الغرفة الطينية مرتطما بجدرانها ليعود مكسور الجناحين( أماه كوني صادقة...؟! قلت هامسا:- هل أحببت والدي ؟؟!). .

وبهذا المشهد يعيد لنا شوقي كريم حوارات سابقة لعشاق امتلأت قلوبهم غيرة على حبيباتهم.. ثم يردف بالسؤال:- أمي هل احببتي أبي..؟! ...وكأنه يغار من والده فكيف به إذا أبتعد بخياله أكثر وصورها بين احضانه تتلوى مثل أفعى من شدة اللذة!!!...

ويعاود الوصف( لمست حافة ثوبها الفضفاض بخشوع وثني كأني أدخل معبدا بابليا...انها دفئي...صوري التي أبدد اوهامي أمامها...استدرت أراقب القمر...سمت بداخلي همسات تثير رماد النار الخابية قالت.. :- التراب سيغطي العرق ويمنعه من الظهور...واردفت :- الصحراء وفيه...والليل يودع نجوم السماء...)...

بهذه الايحائية الموجزة والمترادفة يرسم لنا الكاتب هذه المشاهد المثيرة وكأنه يريد أن يخرجها على شكل مسلسل تلفازي أمام أنظار الناس أجمعين ليقول لهم أنه عاشق لتلك المرأة التي أرادت أن تبرر انبعاث شهوتها بقدرة( العرق ) أو كما يطلقون عليه ( عرق السواحل ). على إضعاف قدرات النساء أمام شهوات الرجال العنان...

وهذا المعتقد يتأكد لنا بما لايقبل الشك في سردية التص المباشر الذي اقحمنا الكاتب شوقي كريم فيه...( هزت رأسها..اغلقت باب الغرفة رفعت قدح الشاي لتصبه في جوفها تضاعف نقيق الضفادع،  عادني غضبي إليها وكأني أراها لأول مرة..  نهضت أبسط ظلي أمامي، خرج صوتا مرتعشا...اريد أن أنام...)  

ويتأكد للقارىء حقيقة الامر أكثر في محاكاته الأخيرة من المعتقد عند اهالي الجنوب أن من يعثر على عرق السواحل يستطيع أن يقتني كل امرأة والعرق كما يعتقدون يجلبه القنفذ عندما يرى باب حفرته مسدودا بالطين....وتأتي المفاجأة عندما يعود بنا شوقي كريم إلى عوالم المرأة وخبايا من هواجسها التي يمكن فك طلاسمها على يد رجل محترف وهذا ما أتضح في قصته ( الرابع الأخير ) ...( سباب الأمهات اللواتي اعتقدت الجرف يثرثرن غير ابهات بالعيون الجاحظة والمحدق بشراهة بين الافخاذ )..

وهنا تتجدد لدينا الصورة التي ترسم لنا معالم الجوع الجنسي والجسدي وحب المفاتن ومنها سيقان وعضلات النساء البيضاء والبضة...فنحن نرى الكاتب عبر أبطاله لايقف عند هذا الحد فهو يأتي بصورة أخرى ولكن أكثر وضوحا( ثمة امرأة كانت تخوض بالماء وكأنها تبحث عن شيء اضاعته،  ماذا لآ أحد يدري؟!.. قالت العجوز التي أشعلت سيجارة وبدأت تنادي بصوت خافت على حفيدها الذي كان يمتطي حصانا من قصب يصهل...ما أن تضربه الريح بعصا، وخلفه صبية تضع عند اذنها اليمنى ريشة ديك مات قبل هنيهة بين صاحبته التي تصرخ مولولة لاعنة حظها العاثر، ووحدتها، وحيدة وسط سوق تسوده ذئاب، من لي، وفراشي بارد كالثلج ومقفر كصحراء، وزمنها الرديء الذي ماترك بين يديها غير حطام أشياء قديمة )....

لقد صور لنا شوقي كريم الحالة بأدق تفصيلاتها، فراش بارد كالثلج..وزمن رديء وحطام لأشياء قديمة... اذن فالجوع لحنان الجسد المتمثل بالرجل يعود ثانية في قصة من قصص( قطار احمر الشفاه ).. وهاهي تعود لنا من جديد( عادت تنادي على حفيدها الذي احتظن الفتاة خلف خربة طينية ملطخة بالحناء ومتوجهة بدائرة من الشموع، انت الفتاة متوجعة..فأزداد الصبي قساوة ومد يده إلى ماتحت ثيابها وطوح بالريشة بعيدا...فبكت الصبية وتملصت من بين يديه، وكسمكة لبطت فترة...)..

بهذا المشهد يذكرنا الكاتب بمعاناة همبرت همبرت أو ديمتروف نابوكوف مع فتاة أحبها وصارت مثل النار المتقدة في روحه وعقله في اعترافات رجل من الجنس الأبيض أو( لوليتا ) .  عندما يصفها ب( لو) أيتها النار المتقدة في روحي.. كان كان يشعر بنشوة كبيرة وهو يجلسها على حجره يتحسس أنوثتها وهي تحرك مؤخرتها يمينا ويسارا وكأنها كانت تدرك أنه يشعر بالنشوة واللذة في أن واحد....

وفي مشهد سردي آخر يروي لنا شوقي كريم ( كيف تصبح الليالي طويلة اسنة حين تدخل فراش امرأة وحيدة منسية مثلي، امرأة هجرتها الايام حتى باتت لاتفرق بين رائحتها ورائحة الموت،  امرأة اوصتها العرافة يومآ.   )..

وتتلاحق المشاهد في دراما حادة وثاقبة تتنقل بمهارة ودراية وحبكة مابين زوايا الكاميرا التي أراد لها الكاتب أن تلتقط كل مايتحرك من حولها...( ارتعشت روحها وانهمرت ماطرة بغزارة وهز جسدها زمهرير الليالي، فرقدت دافئة وجهها في كوة الجدار، مدمدمة بصوت حزين، أنه الليل فلتنتزع العين أحلامها فذبال الشموع انطفأ،  كانت المرأة تطوي جسدها أمام النظارة بأنشراح وامرأة تستر عريها الناحل بثوب اسود مغادرة قطار أحلامها...).


بهذا الوصف الرائع ورصانة الكلمات والشاعرية السردية الفائقة بقدرتها على تطويع المفردات لصالح البناء الفني للقصة إستطاع الكاتب شوقي كريم ان ينتزع من قلب اللوحة ما يريد الوصول إليه للوضع النفسي الذي يعيشه الإنسان عندما تنهشه الوحدة والغربة وخاصة النساء الوحيدات....