قال د. احمد سوسة في كتابه ( تاريخ حضارة وادي الرافدين ط1)
يمثل هذا النقش المدّون على ختم اسطواني ، يعود الى العهد السومري القديم قصة آدم وحواء التوراتية ، يشاهد فيه رجل على رأسه قلنسوة ذات قرنين وامرأة بدون لباس الرأس جالسين الواحد امام الاخر . كل منهما ماد يده لاقتطاف التمر المحرم من شجرة الحياة ( شجرة معرفة الخير والشر ) وتشاهد الحية منتصبة واقفة خلف المرأة وهي تغريها للأكل من التمر المحرم عليها اكله . والظاهر هنا ان الشجرة التي حذر آدم وحواء من الاكل منها والتي ورد ذكرها في التوراة ( تك : 2= 15ــ17) هي شجرة النخل .
اعتمد الاستاذ احمد سوسة على النص الاجنبي في تفسير الاسطورة التي عبر عنها هذا الختم . والمعنى المفترض ضعيف جداً لان شجرة الفردوس التي تهيكل حولها النص التوراتي لم تكن النخلة ، بل هي شجرة التفاح والبعض قال بانها شجرة الرمان او التين .
السؤال الذي يثير رأي الاستاذ احمد سوسة هو ان الخطيئة التوراتية لاحقة للأسطورة السومرية التي بالإمكان قبول المعنى الذي تضمنته تفاصيل الختم ، وهذا امر صحيح جداً ، لأن مكونات الختم السومرية تشير بوضوح لأسطورة التابو التي استعارتها التوراة التي كتبت بعد الاف السنوات ، لان تدوين التوراة حصل في القرن السادس والسابع ق . م بينما تاريخ الختم الاسطواني يعود للمرحلة الحضارية المقترنة بالعهد السومري القديم .
والفرق كبير بين المرحلتين . والفردوس السومري حاضر ومعروف في عديد من الاساطير الخاصة بالاله انكي والام الكبرى السومرية ننخرساك . وتضمنت اكثر من اسطورة عفوية الطرد لإله ما ، مثلما حصل على سبيل المثل مع الاله انليل عندما اغتصب الالهة لذا لا يمكن اغفال الاصل السومري للطرد التوراتي ، ليس هذا فقط ، بل هناك كثيراً من الاساطير العراقية ، حصل سطو واضح عليها . وقد درست هذا الامر في اكثر من كتاب ، صدر لي في بيروت وعمان ومنها : الاسطورة والتوراة / المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، واقنعة التوراة + التوراة السياسي + موسى واساطير الشرق عن الدار الاهلية في عمان .
انا اكثر ميلاً للأصل السومري لهذه الاسطورة ، لان وجود النخلة كاف لتأكيد ذلك ، لأنها معروفة بانتشار زراعتها في العراق قديماً . ويعتبر النخل من اكثر الاسباب الموضوعية التي شجعت الاقوام السامية ، على ترك الجزيرة العربية والهجرة الى العراق . وقال الاستاذ شوقي عبد الحكيم ما يؤكد وجهة نظري ، حيث اعتبرها الساميون شجرة الحياة في جنة عدن . والنخلة شجرة الميلاد عند كل شعوب غرب اسيا ، وجاءت من اسمها تسمية فينقيا او فينيق ، بمعنى " الدامي " وربطت شعوب البحر الابيض المتوسط بين عمليات اخصاب النخيل او ما يعرف بــ " الطلع " او التلقيح التي بدونها لا تطرح النخلة او لا تثمر ، والعلاقة واضحة بين النخل وبين الموت ثم القيامة ، او توالي الولادة والاستمرار .
اعتقد بأن المرأة الموجود مع الاله في الختم الاسطواني السومري هي الهة ، على الرغم من عدم وجود الطاقية المقرنة ، لكنها جالسة على دكة الالهة ، والدكة رمز تعريفي بالمكانة المقدسة ، ولهذا ارتحلت صفة النخلة الرمزية والدينية واقترنت بالإلهة عشتار ، وصارت شجرتها المقدسة . ومن اسمها تسمت مدن تدمر في كل من الشام واليمن والحجاز ، ومثلما قال الاستاذ شوقي عبد الحكيم .
كما دخلت النخلة في الاساطير الاغريقية ، فكل من الالهة ، ابولو ونبتون ودلين ، ولدوا تحت نخلة وكذلك المسيح في الميثولوجيا السامية والاشارة واضحة وصريحة لذلك في القرآن الكريم . ولان الاسطورة عنصر مركزي في صياغة النظام المعرفي ، فانها دائماً ما تكون محتشدة بشبكة من الرموز هي الابتداء الاول في الحضارات الشرقية ــ والعراقية أولاً ــ لتحديد ملامح الكتابة الصورية . وتختلف هذه الاساطير برموزها عن القصص والخرافات والحكايات الموظفة للرموز التي تقترب مما هو موضوعي ، لذا انا اعتقد بأن الاسطورة التي تضمنها الختم الاسطواني السومري ، يفتح لنا محاولة للاقتراب من العلاقة الممتدة والموروثة بين مكونات الاسطورة لاحقاً ، من خلال رموزها التي لم تتفكك ، بل ظلت حاضرة ، معبرة عن نظام متداخل ، ليؤكد بعداً ثقافياً ودينياً ، يتجه نحو الخصوبة بالحياة ومثال ذلك استمرار العلاقة بين النخلة الرامزة للآلهة المقدسة والافعى التي ظهرت في الختم اول مرة . حيث ظلت الحية رمزاً وعلامة دالة على الام الكبرى الاسطورية ، والالوهة المؤنثة وكشفت التنقيبات الاثارية وجود الافاعي / الحيات في معابد الالهة الكبرى ، لأنها تتماثل معها بالوفرة ، واستمرار حياتها وتجدد انبعاثها . وظلت الحية في المعتقدات الشعبية ، التي هي عقائد موروثة ، مقترنة بما له صلة مباشرة بالمقدس ، حيث دائماً ما تختار الحية مكانها للاختباء او الاحتماء في قلب النخلة ، وكأن هذا التواجد اشارة واضحة للعلاقة الاسطورية الاولى . وايضا لها اقتران مع الطين / الحيطان الريفية التي تلوذ بها ، وهي ( الحيطان الطينية ) تومئ للحظات تخليق الام الكبرى واعتمادها على مادة الطين المقدسة .
ويثار سؤال متكرر حول العلاقة التي تحدثت عنها ، وهذا الامتداد المستمر مع انحرافات معينة ، اقول بالإمكان التعامل مع مكونات الاسطورة بانها ليست منطقية ، لكنها ليست معزولة عن المكان ، الذي انتجتها ودفع بها للتداول عبر الطقوس والعقائد ، وانا اؤمن بأن الاسطورة طاقة رمزية ، غير قابلة للتعطل ابدأ ، بل تظل حاضرة وبتفاوت ، وفي احيان اخرى تحتفظ ببنية صغرى من الما قبل ، وتدفع بها لاستكمال الدور المعرفي ، غير القابل للتعطل الكلي . ذلك لسبب جوهري وهو ان لغتها خاصة ، لا تقرأ بسهولة ، اعتقد بانها متماثلة تماماً مع النص المكتوب بلغة اجنبية ، او تشبه الحلم ، وكلاهما بحاجة للترجمة ومن بعد اقتراح تأويل لها .
تظل النخلة احد اهم الرموز الموضوعية المتعايش معها من قبل الجماعات التي لم تكف عن انتاج عقائدها وطقوسها ، ولان بدايات النخلة ــ كما في الختم السومري ــ دينية / مقدسة ، ظلت تحمل هذه الصفة في الارياف ، واطلقت عليها الجماعات " العلوية " وعلى الرغم من انها مصدر حياتي ، تعايش معها الكائن وسيظل حتى الابد . ابتكرت الجماعات لها محرماً وهو لا يجوز جني تمرها بعد غروب الشمس لانها تصرخ ، والدرس التربوي والاخلاقي واضح ولا يحتاج للتفسير .
كان انشاء البساتين منذ 5500 سنة ، اي مطلع عصر الوركاء زمن بداية الكتابة ، وان ظهور العلامة المسمارية التي يكتب بها اسم البستان قد ظهرت منذ ذلك العهد ــ ويرى الاستاذ طه باقر ان النخلة كانت اول شجرة غرسها الانسان في جنوبي العراق .
وطائر الفينيق او النخيل ، اسطورة كنعانية معروفة ، يحج هذا الطائر الى مدينة بعلبك ، ويموت بها وينبعث ثانية هناك . وقال عنه هردوت : يشبه هذا الطائر العنقاء . العلاقة خفية بين طائر الفينيق وبين شعاره المقدس " النخلة " وايضا بين عقائد الحياة والموت ومن بعد التجدد / الانبعاث والصعود ثانية .
" اكرموا عمتكم النخلة " لأنها خلقت من فضلة طينة آدم قال عنها القزويني : انها تشبه الانسان من حيث الاستقامة . وامتياز ذكرها عن انثاها واختصاصها باللقاح . ولو قطع رأسها هلكت ولطلعها رائحة المني .
النخلة مقدسة في بابل وفينيقيا والجزيرة ، وهي صورة للحياة " سواء نظرنا اليها من حيث هي كائن واقعي او من حيث هي رمز حي " .