أكثر ما يستدلُ عليهِ القارئ بعد التمعن في النص : استبطاناً\ استنطاقاً \ استقراءً ، هو الحصيلة المبتغى منها ؛ معرفة كنهة الرؤى التي من ورائها كان ذلك المتن . فيتجلى ذلك لاحقاً قراءةً ، بأن الشاعر قدَ بني أساسه على المناورة ، الحوار بالتناوب والتكرار في اشتغاله ، هذا الاشتغال ؛ أو قُل التوظيف أصلاً ، يستمدهُ من مسرح الحياة - الطبيعة - الدورة الحتمية .
فالتكوين الفلسفي – الصوفي والمتناقضات والمقاربة ومقارنة الشيء بالشيء أيهما الأصلح ، لذا كانت مناورتهِ موفقة كلياً بتدرجات الحالة الذي أراد منها الشاعر شاؤول ... ثم أخذهِ بالحد المعقول من البناء الذي صنعهُ ، كما هو انتقال العين من تتابع النظرة من بقعةِ لأخرى تزاوج بها اللونية بتشكيل لوناً آخر متجانساً قدر الإمكان مع رؤاهُ التي أراد صياغتها ..
يلاحظ في قصيدتهِ " دورة الجسد " بأنهُ تناول المحور الأساسي لذلك البناء ألا وهو " القمر " الذي أدرك دورتهِ – منازلهِ – تحولاتهِ ، وقد شكل – نسج – صاغ ، حول هذهِ المثابة بما يخالج رؤاهُ . قارن بهِ أي " القمر " أوقات اليوم بتناوبها ، لذا رص أدواتهِ أو رصفها كي تكون دعامة ذاك الأساس ، وقد وفق في ذكر أسمي الإشارة للحدث البعيد – المسميات مذكر \ مؤنث – اللحظة بـ ذلك – تلك ؛ وما ترتب عليهما من معرفة الوقت بهما ، بدليل الحدث فترة " الظهيرة " لذلك ذكر تلك " الظهيرة " دون سواها في المشهد وبإمكانهِ أن يوظف " الظهر " بدلاً عنها وتنتفي الحاجة إلى التذكير ، غير أنهُ شخصها كي يكون التساؤل عليها أكثر .
هي التي أي " الظهيرة " أفضت على دورة الجسد بالتبادلات لاحقاً ، فكان الماضي هو المعني بأحداثهِ لمناورتهِ أي " الجسد – الكلام في تبادل الأدوار معاً ، كثنائي متتابع ولقاؤهما في الزمان – الصباح – الظهيرة – المساء " العصر " الليل – وصولاً إلى الفجر معززاً بتحولات القمر كمطابقة لتقويم نهاري – أرضي يقابلهُ مواقيت سماوية كما في التحولات \ هلال – تربيع أول – تربيع ثاني – بدر – محاق ، واستهلال غرة الشهر القمري - هلال - ثم يتابع دورتهِ وينتهي ثم يبدأ بـ هلال آخر . إن التدرج الحياتي متلازمة منذ نشوء الحياة ، هذه العوالم الأثيرية التي تناولها الشاعر تكتنفها شطحات صوفية تتوالد في جسد النص أبداً :
كان القمرُ أخضرَ
ذلك الصباح
الجسد من أعشاب غزيرة
الكلام من أوراق لا تنتهي
= حيوية
أستهل بـ كان في الماضي وأستمر توظيفهُ في الفقرات اللاحقة حسب دورة اليوم ، ربما من التماهي جُعل للقمر اللون الأخضر ، محاكاة الماضي . هذه في رؤى وأخيلة الشعراء تُعبر عن تفاؤلهم بهذا اللون لاسيما وأنهُ القمر المؤثر في حياتنا اليومية ، حيثُ إن الأبحاث العلمية – الفلكية أثبتت باكتساء القمر صبغة خضراء ناتجة عن اقترابه من إحدى الكواكب المشعة مثل أورانوس أو كما قيل ، ربما " وقد يحدث اكتساب – الطبيعة من تلك الصبغة إلا أنها غير مرئية للعيان ، كذلك الكلام من أوراق خضر قدْ لا تنتهي بنمائها :
كان القمرُ أخضر
تلك الظهيرة
الجسد من مدينة كسلى
الكلام من نخيل مستقيم
= خمول
هُنا ، وكما أسلفنا بأن المحورية هي القمر ، لكن يبدو ثابتاً بلونهِ الأخضر ، لكن التبدلات تطرأ بالدورة الحتمية للزمن ، فهنا " الظهيرة " قد تؤثر على الجسد حيثُ يكتنفهُ الخمول " القيلولة " والجسد – خامل – كسول في تلك الفترة ، الكلام – توهج – استرسال وهكذا لبقية القاطع الأخرى ، فالتبدل في عنصر الزمن اليومي هو الأكثر حضوراً ، فأقسام النهار – الصبح – الظهر – المساء – الليل – الفجر وما ذكرتها ومن تحولاتها في الجسد والكلام في حالة الشطحة لما فيهما من تشابك في التوظيف :
كان القمرُ أخضرَ
ذلك المساء
الجسد من بياض شاسع
الكلام من ظِلال مرتعشة
إن المفارقات والمتناقضات تبدو جليّةً في هذا المقطع ، إن كان المساءُ ليلُ ، أما إن المساء الذي يقصدهُ ساعة الزوال " العصر " فالحالة تتغير وقد يوافق التوظيف التالي .
المساء ، الجسد = بياض شاسع
الكلام = ظِلال مرتعشة
= الإشراق
رغم أن سكون الوقت يخيم على الأجواء فكيف قدْ حصل هذا ؟!.... ربما في ذهنية الشاعر بتلك التبدلات الطارئة والمشحونة بغرابة محبّبة ليس إلا :
كان القمرُ أخضرَ
ذلك الليل
الجسد عُتمة الأصابع
الكلام من غيبوبة النهر
فالقمر مثابة ساكنة وثيمة محورية على تفاعل النص بتبدلاتهِ
الجسد \ عتمة = الكلام غيبوبة \ تطابق
الجسد \ أصابع
الكلام \ النهر
= السبات الآني
من هذهِ المفردات قد نستدل بأن الوقت فعلاً " الليل " بسباتهِ .
كان القمرُ أخضرَ
ذلك الفجر
الجسد من أسِرةً مُتعبةً
الكلام من حواس تُقِبل
أسِرةً متعبة
حواس تُقِبل
=التوهج الطازج
يمكن هنا أن تصحُ المناورة بين مقطعي – المساء والفجر ، بالتبادل النص كي يصلح زمانياً ، وخاصةً في تحول الجسد ، فالإشراق فجراً أدق وأرصن من المساء .. لكن للشاعر خصوصية قد لا ندرك ما يراد في مخيالهِ الشعري .وقد وظفها وفق هذهِ الصيغة المكتوبة ، ثم يختم النص مثلما بدأ بدورة حياتية وحتمية إن صح التعبير بدلالتها :
كان القمرُ أخضرَ
ذلك الصباح
هكذا أكملت دورة الجسد حياتياً – الكلام سردياً – وثالثهما القمر زمانياً .
وحسب أقوال العلماء بأن القمر لهُ تأثير بائن على سلوكيات الإنسان وخاصة في دورة اكتماله " البدر " حيثُ يُلاحظ بأن معدلات الجرائم تنتشرُ والحالات النفسية تتأزم ، فإن هذهِ الظاهرة مرصودة عياناً وخاصة " المرضى القمريون " فتفسر هذهِ الحالات من إن ظاهرة المد والجزر لها التأثير المباشر بذلك ، فكلما ترتفع مياه البحار ترتفع مستويات سوائل الهرمونات في الجسم ، وهكذا تؤثر في ضغط الدم والحالة النفسية ، هذا ما أرادهُ الشاعر من تأكيد وتكرار القمر في كل مقاطعهِ .