الرئيسية / سردنة الفقد وشعرية الحلم في مجموعة( حكايات الطيور المهاجرة)

سردنة الفقد وشعرية الحلم في مجموعة( حكايات الطيور المهاجرة)

سردنة الفقد وشعرية الحلم في مجموعة( حكايات الطيور المهاجرة)  

للقاص أحمد فكاك البدراني 

كمال عبد الرحمن


السرد هو فعل يقوم به الراوي السارد الذي ينتج القصة، وهو فعل حقيقي أو خيالي، يتمظهر في الخطاب الذي هو طريقة التناول والعرض، ويشمل السرد على سبيل التوسع مجمل الظروف المكانية والزمانية والواقعية والخيالية التي تحيط به. 

والسرد: هو (( عملية انتاج يمثل فيها الراوي دور المنتج، والمروي له دور المستهلك، والخطاب دور السلعة المنتجة)) وبذلك تكون القصة أو الحكاية بالنسبة للسارد بمثابة المادة الخام التي يعمل فيها الراوي أدواته الفنية السردية المشكلة لجوهر الخطاب السردي، وهو طريقة الراوي الذي يحاول أن يعرفنا على حكاية معينة، وذلك باستعماله كلمات بسيطة، وبأسلوب تخييلي يراعي فيه نظام تتابع الأحداث. 

في مجموعة( حكايات الطيور المهاجرة) للقاص أحمد فكاك البدراني يتشظى السرد في أودية المعنى،فتبتكر الشخوص أوجاعها وليست بعيدة عن أوجاع القاص نفسه، فهو الراوي العليم الذي أنهكه الفقد كما في قصة(الونّاسة) وهي الحجارة أو الشاهدة التي تنصب عند رأس الميت في القبر: 

(( وهذه المقبرة التي أودع فيها عليّا اليوم كانت آخر مرة رأيت فيها القرية فيها مع علي. 

 وقد أضعت عشرين عاما بين وداع علي في القرية وتوديعه منها.. 

 ولم أكن أدري كيف سارت الايام فيها بعد رحيلنا الى الزحمة. 

 ومصارعة الحياة والمواجهة الشرسة بين التشرد والعزة، بين ضياع الصبية على الارصفة والرجال في الحانات والنساء في دور البغايا..)) المجموعة ص64. 

وفي سبيل الفقد يفتتح القاص مجموعته بإهداء ينم عن فاجعة محزنة،استكمالا لمسيرة الفقد في حياته: 

" أيها الراحل الشهيد.. الغائب الحاضر أبدا في ذاكرتي التي تختزن رفقة سنين العمر.." 

لاشك أن سنوات الحرب وركامها وأسئلتها التي لاطاقة لأحد بالاجابة عنها، قد أورثت القاص مثلما أورثت غيره تاريخا من الأسى والحزن والذكريات، ان صناعة الشخصية في قصص أحمد فكاك البدراني، هي محاولة غير تقليدية لإنتاج كائنات تضرب عميقا في جذر الإنسانية، رسالتها ( الأرض والانسان) بصفتيهما توأمين لاينفصلان، وضرورة قصوى من ضرورات الحياة، ينشغل فكاك  في تصنيع الشخصيات، ثم يبتكر لها واقعة عينية أو نفسية أو تخييلية، ثم يراهن على قدرتها في تطويع الحاضر تحت وابل من الأسئلة التي ينزفها النص، وفي النهاية تكون سردياته عبر شخوصه نماذج رائية لزمن مرئي. 

لذلك فإن ظاهرة الموت أو الفقد في هذه المجموعة تكاد تكون عامة كما في قصة" بقايا زمن مهجور": 

(( ـــــــ مات وليد 

 لم أجرؤ أن أسأله أي وليد، حاولت ان أترك السؤال كي يكون غير وليدنا.. 

 ــــــ سأذهب اليهم.. البرحة دفنوه.. ألا تأتي..؟ 

ـــــــ أين 

ــــــــــــ مجلس الفاتحة في قريتهم.. 

حاولت أن انقل خطواتي.. لم تحملني ساقي.. وبدأ رأسي يدور.. ويدور.. وليد يموت.. كيف؟)) المجموعة ص52. 

نلاحظ هنا ان الذاكرة مشتعلة بسردنة الفقد، حيث يجد القاص نفسه محاطا بسلسلة من الوقائع الكارثية، والتي أحرقت قلبه واشعلت فيه المواجع، فمن الاخ الفقيد الى الصديق الفقيد  والقريب الفقيد، ثم يتعدى ذلك الى رسم معاناة الناس التي تبذل ثقتها رخيصة لكل من شاء، كالرجل الذي وثق بزوجته الخائنة في قصة"وذات مساء ستذكرين" وكانت النتيجة الموت أيضا: 

(( ـــــ تعالي 

 لم تكن قد تهيأت للنزول بعد 

 صرخت بها: 

 ـــــ انزلي كما أنت.. فلا أحدى غريب 

 فكرت أن أزرع رصاصة في رأس كل واحد منهما وأعود.. 

قدمت اطلاقة في المسدس وهيأته للرمي.. 

 ــــــــــــــ سأحطم رأسيكما واعود.. ولا احد يعلم.. هذا المكان وحده.. سيشهد)) المجموعة ص40. 

يكتب البدراني  تحت شرط الانسانية كأعلى الشروط في كتاباته، فهو يميل الى الرقة والشفافية والرحمة، عندما يصف حالة انسانية، ويخلق أجواء تعضد رأيه بالجانب الانساني،كما أن أسلوبه السردي هو في الغالب يسعى لمخاطبة الجمالي والانساني، وقد يذهب الى الذاكرة لإستدرار حكاية من ثدي الزمن، يرويها الوهم في أن تكون هي أوغيرها.. لكنها هي كما في قصة"الوهم": 

(( وهذه الصورة التي بين يدي الان لم أكن أغمض جفنا إلا وهي على صدري، ترى ماذا سيحل بها؟ 

أيتها الصورة أجيبي.. دافعي عن  صاحبتك التي غادرتني، قولي إنها ستعود يوما، إنها لم تخن، وانها لاتعرف الخيانة.. 

قولي أي شيء لعلي أجد فيك بعض العزاء 

عبثا أحاول.. انها صورة لاتستحق الا التحطيم)) المجموعة ص33. 

 لاشك أن قصص أحمد فكاك تستقي أغلب روافدها من الواقعية، وفي هذه القصة هناك نوع من الفقد هو فقد الأحياء الذين يغادرون حياتك بلا مسوغ ، من هنا فالمعادل الموضوعي في الحكاية ، يجب ان يتناسب  مع موقع البطل داخل بيئته بموضوعية تعكس قيمة الواقع في تعامل البيئة معه، على اعتبار إن الأجواء العاطفية وسيلة عملية وناجعة للكشف عن اهتمامات الشخصيات وعواطفها التي يمكن ان تتستر وتتبدل في بيئات يتحكم فيها العرف أو المواصفات الاجتماعية، من 

هذا المنطلق يمكن النظر اليها انها تحمل الغرض ذاته الذي تحمله حبكة الكاتب الواقعي، وهذه الواقعية أيا كان نوعها وشكلها فهي ليست تهربا من الحداثة والتجديد بل هي رسم وأرخنة حكايات مدادها" الارض والانسان"وفي مجتمع معاصر فإن الكتابة في الأمور العاطفية ليست سهلة كما يُظن، فأن تكتب بدم الروح ولهاث القلب وجنون الغرائز، فهذا يعني أنك تمارس  كتابة نوع من القصص المركبة الصعبة كما في قصة"الوهم" فكثير من تفاصيل حياتنا أو احلامنا هي ليست سوى وهم. 

وإذا جئنا الى قصة (أبواب وأبواب)، نجد القاص أحمد فكاك  يحاول أن يجد منفذا يتنفس من خلاله بطل القصة هواء طلقا وجمالا ونقاء، فيصيبه الملل من محلته التي يصفها على النحو الآتي: 

(( تتناثر الأوساخ على الارصفة ومساحات الأزفة الضيقة والمكتظة بحركة الاطفال وبعثرة الاوراق والنفايات المتربة والصفائح المرمية في السواقي، ذلك الشريط الطويل من المياه المحصورة بعوارض وقتية فتنشأ بحيرات من حجم صغير ما تلبث أن تنفجر في خيوط متسربة متباينة متعرجة على الجانبين لتبلل صفحة هذا الزقاق أو ذاك فيبدو وكأنه في شتاء مطير 

 تحتل زقاقنا بيوت مهدمة الجدران تقريبا.. لها أبواب خشبية يبدو عليها الهرم واضحا وتنتج صريرا مسموعا لدى غلقها وفتحها  

 وتنتشر في زقاقنا النسوة اللواتي يجلسن أمام البيوت عصرا يترصدن المارة 

 ويتلذذن بشتى أنواع الحديث)) المجموعة ص9. 

فالقاص أحمد فكاك هو ابن بيئة الموصل الوفي لفضاءاتها الجميلة أرضا وسماء، هو ابن المدينة القديمة وأحيائها القديمة ، فهو السارد الأمين لتأريخها وجمالها وأصالتها، وإن للحي العتيق أثرا واضحا في حياة القاص البدراني ، فطفولته نبتت هناك، وأحلامه ترعرت في أزقتها وبيوتاتها القديمة، لذلك تراه مخلصا لمجتمعها، وهو يقتنص الوقائع اليومية لحيثيات حياتها، لكنه مع تكرار تفاصيل الحياة في هذه المحلة المتعبة ترنو احلام بطل القصة الى الجزء الاخر من الحياة: 

((  أهاجر الى الأحياء الحديثة، مثلا ، حيث الارصفة المكسوة بالحشيش الاخضر، والروائح تنبعث من جنبات الشارع، والجدران الواطئة الجذابة،المنسدلة فوق كتفها مثل الضفائر أشجار فاكهة طيبة المذاق وبهية المنظر..      )) القصة ص10. 

هنا يبدأ الحلم بتشكيل أولى فصوله" الانتقال من حي الفقراء الى حي الأغنياء والتمتع بالرفاهية "، لكن براءة الحلم وقعت في دائرة الادهاش ثم الاتهام بالسرقة: 

(( صاح بي: 

تسرق..ابن ال.. 

وأمسك برقبتي مثلما تمسك كلابتان خيطا رفيعا 

 وساقني أمامه ، وراح يضربني بقسوة، زجرني ودفعني داخل السيارة حتى اصطدم رأسي ببابه الآخر، وراح يسأل متوعدا بكل ما يملك من زمجرة وزئير: 

أين هم..؟)) المجموعة ص12. 

يحاول الفتى الصغير أن يتمسك بأطراف حلم، كما يحلم الفتيان الفقراء بالقصور والاموال والمناصب، ولكن حلمة يُغتال حينما يوصله ـــــ  رغم براءته ـــــ الى السجن. 

 ان الكتابة عن الواقع تشكل نوعا من " الصدق السردي" فإذا كان هناك ما يسمى " الكذب السردي" فإن القاص أحمد فكاك مارس هذا النوع من الكتابة بصدق، حيث شكلت لديه ذاكرة المكان هاجسا أصيلا سواء كان في القرية أم في المدينة، وكذلك تمظهرت في قصصه سردية الفقد، حيث كانت الحرب شاهدة على مأساوية الأيام السود، ويمكن لنا أن نقولالقصة القصيرة شأنها شأن أي عمل فني، تتحدد أهميتها بقدر رسوخها في واقع الحياة والدافع الأساسي في الفن القصصي، عمومًا هو تحديد موقف الكاتب من الواقع، وشعوره نحوه، وتعاطفه أو عدم تعاطفه مع هذا الواقع المجوّد بالفعل، بحيث تأتي كتاباته عبرة وصادقة، زاخرة باللمسات الفنية التي تهز مكامن شعور القارئ، لأن الكاتب يعرض الحياة من خلال نفسه المرهفة وذاته الحساسة. 

قدم القاص أحمد فكاك أمثلة انسانية عن واقع تأصل فيه وعاش حيثياته ومن بين هذه التيمات الدلالية والوحدات الموضوعاتية التي انكبت عليها  قصصه بالمعالجة والتناول الفقد، والعبث، والمعاناة، والأمل، والتلذذ بالأحلام، والارتكان إلى الصمت والسكون، والتساؤل الفلسفي، والاغتراب الذاتي والمكاني، والهروب، والمرأة، والعنف والقسوة ، والموت، والقلق، والهجرة من القرية الى المدينة، والطبيعة، والحزن، والحيرة، والتفرد، وطرح أسئلة الذات والذاكرة، وهي أسئلة انسانية من مهام القصة ان تطرحها، وقد وفق القاص البدراني في ذلك من خلال هذه المجموعة، فقصصه فيها حيوات اجتماعية مختلفة تنبثق من عمق التجذر الإنساني في المكان، وشخوصه واقع حقيقي رغم سحره، قدم نماذج سردية فيها الكثير من الإبداع الذي يحتاج إلى قراءات نقدية متعددة تدخل إليه من جوانب شتى، فهو قد حقق لنا شعرية قراءة كما قال أدونيس!.

أمس, 15:15
عودة