الرسام شدّاد عبد القهّار
التحول..
من الغمامات السوداء
إلى الإشراق والتنوعات اللونــيّة
شهدت تجربة الرسام العراقي شداد عبد القهار، خلال بضع سنوات مضت، تحولاتٍ ضخمة، من وجهة النظر الشكلية، فقد تحمل شداد عبد القهار ورسامو جيل الثمانينات العراقيين وزر حروب خاسرة اجتاح خرابها كل شيء انتقلت تأثيراتها إلى تجاربمه الفنية لتدخلها أطوارا مقلقة من العتمة التي حجبت عناصر اللوحة خلفها، والتي لم يجد عبد الرحمن طهمازي ما يؤكده سواها، فكتب ان "وجهة نظر شداد التشكيلية تبدو الآن معتمة، والعتمة تكشف عن كثافتها في طمس التكوينات العديدة والشائكة والمتكررة.. فان المساحة التي يشغلها الظلام اكبر من تلك التي يمكن وصفها بالانفراج"، فكان "الواقع وشناعته وضياع صورته هو ما يصارعه الرسام على نحو تشكيلي مستقل".
كان وجود لوحة واحدة بيضاء بين 27 لوحة سوداء، في احد معارضه، نبوءة بطور جديد تدخله تجربته، وهو ما تحقق أخيرا في معرض سابق بقي عالقا في ذاكرتي طويلا، عنوانه (ذكرى راكدة او لوحات بلا عاطفة) وأقامه في قاعة أكد للفنون، فانقشعت الظلمة وحل محلها إشراق، وتنوع لوني ضمن مساحة المعرض، وكأن الأعمال قد أنجزت من لوحة واحدة أعيد تلوينها كل مرة بلون مختلف تتنوع أطيافه داخل عائلة لونية هارمونية محددة، فاحسست ان اجحافا سيطال أعماله حينما يتم تلقيها منفردة، فقد بدا لنا المعرض وقتها تجربة متكاملة يتم تلقيها كلها دفعة واحدة دونما تجزئة.
لقد بدت لنا تجربة شداد عبد القهار (واقعية) كونها تتوسل بأوثق الصلات مع المفردات البـَصـَرية للواقع: بقعا، وأرقاما لاتينية، ومربعات.. ومثلثات مقلوبة شاعت في تجارب شاكر حسن آل سعيد وهناء مال الله وأحيانا هاني مظهر.. فاستلت مما علق بذاكرة الرسام وما شكله في متحفه البصري من مفردات (الواقع)، ومن لقاه الشكلية التي قد يكون بعضها غائرا في عمق جينات سحيقة في تاريخ الفن العراقي الرافديني القديم لتعيدنا إلى آثار جدران سومر وبابل وأشكال مخاريط حيطانها التي ينثرها الرسام على سطوح لوحاته بترتيب مختلف كل مرة..
نعتقد ان الإزاحة التي تحدث في الشعر، بعناصر الشعر ذاتها: باللغة او بالدلالة، لها ما يماثلها في الرسم من خلال عنصري اللوحة: اللون و(او) الشكل، إلا ان محدودية العناصر الشكلية للوحة عبد القهار لا توفر سوى حرية محدودة لذلك، ينقل الرسام فعله إلى اللون ليحقق فيه الإزاحة التي تجعل من سطوحه أعمالا فنية، فكانت ألوان اللوحات الأحادية تحقق تنوعا لونيا هائلا شرط ان يـُنظر إلى المعرض باعتباره تجربة واحدة وليست أعمالا منفردة ومتناثرة لا رابط بينها، فكانت التنوعات اللونية الثرية تحقق إزاحاتها بشكل مؤثر تماما، بينما كانت للرسام وسائله الشكلية الضرورية في كسر الانضباط والصرامة من خلال آليات محددة كالضربة او اللطخة، وقطعة الكولاج، واللطخة النهائية التي تحتل احد الأركان العليا للوحة.
أعادني هذا المعرض إلى ما اسميه (درجة الصفر في التلقي) ، وهي الدرجة التي يتحول فيها العمل الفني (اللوحة)، إلى شكل محض؛ فيكون ضروريا ان يتحصن المتلقي من مخاطر ان يؤخذ بعيدا، او تزحزحه القناعات او الموجهات القرائية المسبقة، فقد بدت لي لوحاته سطوحا خالصة مبنية من: ألوان وأشكال لا مرجعية نثرية لها، فنجح المعرض في أسري ضمن مدى تلقيه كشكل، فحينما تبدو اعماله من النظرة الأولى، سيلا من حشود الأشكال وقد ألقيت دونما ضوابط على سطح اللوحة ولم تفلح في كبحها قوة إلا حدود اللوحة ذاتها، بدت لي شخصيا عكس ذلك تماما، تجربةً مقننةً بشكل دقيق من عدد من العناصر، قد تماثل التركيبة المادية للعبة الشطرنج من عدد مقنن من القطع ولكن بإمكانات لا حدود لها من التشكّلات والأوضاع، فكان الرسام يستعيدها كل مرة بترتيب (مختلف)، ومن خلال لون مختلف كل مرة أيضا.. مما سمح له بأخذ مساحة لا باس بها من التنوع داخل أسلوبيته الصارمة..