الصباح مبتدأ الازمنة المتكررة تقليدياً ، مثلما اعتادت الناس على حركتها ، انه اول من تحدث وعاود كلامه الذي حفظته ذاكرة خزان عمر الدليمي واخذ فرصته معاوداً صمته ، لأن الناي صوت الصباح ، يفتح اليوم بإيقاعات مجنونة ... معاودة الناي لأطلاق غناءات فتحاته واخر ابوابه ، لكن الزمن الجديد لم يستطيع ان يدخل / ابواب الناي .
المثير للاستغراب اهم في الصباح ، طيوره ، احتفظت بدهشتها فوق اغصان اشجارها متفرجة وقد حصلت غرابات ، تغيرت فيها الموجودات . والعازف لم يختر مكاناً له غير الذي اعتاد عليه من قبل .
والان تجلس قبالة شجرة ميتة
الضوء يخبو رويداً رويداً ، وما هي الا دمعتان لتدخل في الظلام .
هناك انت تحيطك لوعة القصب
نايك ضامئ واصابعك ماء
هناك من قال ان تلك الشجرة ليست ابنتك
هي شجرة ضالة جاء بها صيف مخبول
صمت الناي ، او خرسه كما في الشعر اعلان معروف ومؤكد على موته ، والموت قاس وصعب والعازف لا يقوى على اختيار مكان جديد ، اخر وغير مألوف ، فاختار شجرة ميتة وجلس قبالتها . لابد من تناظر وتماثل في الصفات ، الشجرة التي كانت وتحتها يرتفع ايقاع الناي ، لم تعد هي ذات المكان بل ذهب لثانية ميتة ، ليست منه ، لا يعرفها وهي لا تريد حلماً جديداً منه ، فتوقف العزف ، ومات ناي الفجيعة قاسية وارتضت الشجرة الام الميتة تماثلاً مع الناي . موت الشجرة الام غياب ظلال الاغصان وذبول الفاكهة اخيراً .
والعازف نافر عن التماثل في التعطل والخرس ، لكن الشعر استعاد سردية انانا / شجرة الخالوب التي اخذها الفرات وسحرت بها انانا / عشتار ، لانها تريدها نوعاً من الخصب ، فسحبتها ، وذهبت بها لحديقتها في اوروك ولماذا تركت كل ما لديها من حدائقها شبيه الفراديس كانت تقضي فترات استراحتها ومزاولة لذائذ جسدها الشبقي .
وللعازف اشجار يانعة ، سعيد بها ، فرح هن بناته ما كان له لم تقدر عليه الالهة عشتار . ويستعيده خزان السرد ، فتذكر فضاء الاله العظيم انكي ، الذي هو القصب وكان الشاعر يلح على معاودة الحياة دورتها ، لانه لا يريد التوقف ، فالحركة معاودة وصخب وممارسة وتبادل الطاقة المولدة ، المانحة للحياة كل ما تحلم به ، وتريده . لكن العازف الصامت مكرهاً ، مطروداً من فضاء احلامه وهو الوسيط المساعد على معاودته للعزف ، وهو القصب المحيط به وصعود لوعة الكائن وحزت القصب وما ستؤول له امكانات الاله انكي وهو طاف فوق المياه العذبة / الآبسو والتناقض الكانطي صاعد وواضح ، يستقبل التساوي لذا ليس صعباً وجود التضادات ، ناي ميت في عطش متيبس ، لكن اصابع العازف السابح وسط القصب ، بلل يغسل اصابعه . التناقض صارخ.
وظلت السردية متباهية بمحكيتها عندما قالت :
هناك من قال ان تلك الشجرة ليست ابنتك
هي ضالة زحفت مع الفرات وقادها الصيف
للإلهة انانا / عشتار .
الشجرة الام ميتة . عطل الانبعاث وصمت التجدد ودهشة الربيع ، فالحتم يفضي للذبول . كلما سألت طيراً نفضت اوراقها ، ورقة ، ورقة ودخلت ، بيت الخريف . الطيور هاربة ، ميتة تقريباً . غير قادرة تماماً على استعادة اوكارها وعلى الاقل مكاناً لها اخضر ، لان حياتها مرتبطة بذلك وكان الطيور تعرف دخول الشجرة في عتمة الموات المؤقت / الخريف . هذا فصل طقوسي في العراق القديم ، يزاول فيه الممالك القديمة طقوس الجنس المقدس وهو الدورة الثانية ، وفي بداية نيسان الدورة الاولى في الاكيتو . الخريف ثنائي باستعادته ومجازه ، ذبول / موت / انبعاث / خصوبة . الماء ممتد امام علاقة بالسراب ، وعقد صداقة مع الطافي في مسامات عريضة وطويلة . الماء اول الكائنات عارف بالأسئلة الخاتلة ، يتلقاها فرحاً ، لأنه يرى بعينين مخفيتين ، بانه ــ الماء ــ لا وجود له الا المكتوب على الجسد والعالق على انامل اصابعه وهنا يعاود الشاعر هوسه بالعازف الذي بقى متكئاً على شجرة ميتة وبيده ناي .
ربما اراد عمر الدليمي ان يذهب العازف نادباً الموت ويبدو بأن ارتباك والاضطراب ليس محدوداً وانما متسعاً . فحتى الضوء ارتضى ان يكون خابياً قرب عينيه . فيما نساء بعيدات يتحدثن عن شجرة ميتة . النسوة ختمن المناحة ، والندب حول كارثة موت الشجرة وخرس العازف.
قيل انها ليست امرأة العزيز ولا المجدلية ما دامت الام الكبرى الاسطورية ، انحرفت اليها سردية الموت والعشق ، لان العازف عاشق مجنون ولعبت به ايقاعات مخزونة بالذاكرة ، يحلم بها ويستعيدها ، لكنها الهوس بالناس لا يعني فقط الايقاع والموسيقى والرقص ، بل منذ هل بالذكورة التي يومئ لها المزمار ، هو رمز تشكلت قداسته وتبلورت مع فضاء الرقص والغناء ، والتناقض الندب والمراثي ، كائن وبطل ، هذا ما تعرفت عليه الملاحم والاساطير وهو مجاور العذرية وممتحن بالبكورية . سرديات الطبيعة ، ذهب اليها عمر الدليمي وانشغل بها كثيراً ، مجد تجدد الموجود وخصوبة الارض ، النايات ضاجة ، مالئة السهول والجبال والايقاعات تلوح للعشاق الرعاة التي عرفتها سومر وزحفت الى مملكة اشنونا ، والعازف ملكها الرمزي المجاور للقلب بغداد . سردية النص ردت حقيقة ان المرأة ليست للعزيز ولا المجدلية مريم . امرأة واحدة موزعة بين اسطورتين لانموذجين ، بطلين بسرديتهما لا يوسف ولا يسوع . مثل امرأة موت ناي هي اقرب لانوثات المعبد ، الراقصات مع ايقاع الناي ، مصاحبات الصلات ومس الجنون للعاشق الذي خطفه صيف اشنونا شفر عمر الدليمي وحدات العشق السردية في هذا النص ويوسف انموذج عاشق لا يختلف عن الذي عرفته مريم .
لكني اريد ان اختم الحكاية ، ان المضمون الوحيد العارف بالأسرار والمكبل بالأسئلة ، فماذا سأحكي لهذا الليل وانت ذاو على سجادة صمتك تتسرب من اصابعك السواقي ها انت تجف وحيداً وبين اصابعك ناي ميت " ذهبت اسطورة العازف الداعي نحو سرديات غير متماثلة عن اسطورة بروميتوس . انها سردية الفقدان والتراجيديا .