كلمة الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق، في الحفل التأبيني الذي أقامه الحزب الشيوعي العراقي، بمناسبة أربعينية الشاعر مظفر النوّاب في ٢٨ حزيران ٢٠٢٢ بالمسرح الوطني، القاها الشاعر عمر السراي، الأمين العام لاتحاد أدباء العراق.
.......................
السيّدات الجليلات..
السادة الأجلاء..
الجمهور الكريم..
طاب يومكم بالخير والمحبة والسلام..
وبعد..
نقف اليوم في رحاب الوطن، وكيف لا..
ونحن حين نقف في رحاب القصيدة الحرّة، يعني أننا نقف في أجفان البلاد كلها.
فالحديث عن مظفر النوّاب حديثٌ لا تختصره الكلمات، ولا تحدّه الأقاصيص، ولا تدانيه تراجم الشعراء.
فأنْ تكون شاعراً فحسب، في بلد كالعراق أمرٌ سهلٌ جداً، ففي العراق كل شيء شاعر؛ أمهاتنا وجدّاتنا وآباؤنا والأنهار والأشجار والشوارع والأرصفة...
لكن، أن تكون شاعراً وموقفاً في العراق، تلك هي المعادلة التي لن يعرف نكهتها الانتهازيون، أرباب السلطة والمتلوّنون، واللابسون أردية الحكّام، كلما بدّلوها بدّلوا بوصلات كتاباتهم على وفق أمزجتها.
ومظفر النواب، كان وظل ومازال الشاعر المناضل الذي صنع التحدي عبر تصدّيه للظالمين والظلاميين بقصائده الخالدة، ومواقفه المشرّفة.
أيها الأحبة..
إن الفرق لكبير، بين أن تكون حجراً صغيراً في منجنيق البلاط، تضرب رؤوس المناوئين برخاء نعيمك الزائل، وبين أن تكون شامخاً متجبّراً على الطغاة، ومعذَّباً بهموم الشعب، وآكلاً المرار معهم.
إن الفرق كبيرٌ يعطي العبر للمعتبرين، فكم من مدّاحٍ ذليلٍ كنسه التاريخ بسوادٍ لا يغادر وجهه، وإن ظنّه يناهز البياض، وكم من بائعٍ للضمير يبرر وجوده بالأعطيات، وكم من رجال جوفٍ رحلوا ليتحوّلوا إلى ذكرياتٍ مظلمة.
والقليل القليل هم المظفّريّون النوّابيون، من داسوا على بطونهم بالحجر، لينهض كتابُ الحق من رحم جراحهم، رحلوا، وتركوا التاريخ باكياً عليهم، والشوارعَ ملأى بمشيّعيهم، والدموعَ حَرّى بانسكابها على جثمانهم.
لقد فقد العراق برحيل مظفر النواب نجماً ساطعاً من نجومه الفريدة، كما فقد العربُ مدوزنَ آلامها، والناطقَ باسم همومها، وفقدت الحركة الشعرية باسلاً من بواسلها الكبارِ القديرين، كما فقدت العوائل فرداً كاملاً من أفراد أسرتها، فهو الوحيدُ الذي جمّع في ردائه الحب والثورة.
حسبنا حين أنشد قائلاً (تتجادح عيون الخيل وعيون الزلم بارود)...
وحسبنا أنه الرافض للقتلة حتى بعد رحيله، فأقراط قوله (القدس عروس عروبتكم) ستظل خير قانون لرفض التطبيع والإذعان له، والمطبّعين والملتفّين بردائه.
أيها الأحبّة
أنقل لكم مشاعر المحبة من كل الأدباء، والمواساةَ بهذا الفقدان العميق، كما أنقل لكم قيمَ الثبات التي تحلّى بها كبارُنا، والتي جعلتهم عرضة للتصفية والاعتقال والتشريد، وعلى رأسهم مظفر النواب.
وأنقل لكم تحايا شباب العراق، وهم يستعيدون النواب في ساحات التظاهرات، ويلوّنون تشرين بالدماء الفائرة الثائرة، وأصرخ باسمهم في وجه المتنفّذين، كما صرخ مظفر بالمستترين بكراسيهم، وقال فيهم (تتحرك دكة غسل الموتى، أما أنتم، لا تهتز لكم قصبة).
أنقل لكم الخطاب الكاسر الذي لا يهادن، فشباب العراق ثاروا وصبروا وأوذوا واستشهد منهم الكثيرُ الكثير، وما زالوا في الدرك الأسفل من الأداء غير السليم للحكومات، إذ لا خطة آوت طموحهم، ولا عنايةَ جعلتهم في المقدمة، بل جاءهم الانكسار من الوعود الكاذبة التي لطالما شبعوا منها.
ومظفر النواب الذي نقيم أربعينه اليوم، كان صادحاً باسم الجميع، وصوتاً أصيلاً مطالباً باسم الجماهير، وفعلاً لا يتكرر قط.
ولكي لا يمر رحيله مروراً عادياً، علينا أن نكون مثله ميداناً لمقارعة المزيّفين، ومداراً لنيل الحقوق، وملاذاً لكل الأصلاء النبلاء، وعلينا أن نعترف أمام الملأ بتقصير السلطات المتعاقبة إزاء النواب، في تهجيره وحزنه وألمه ومرضه وعدم العناية به، والتقصيرِ في تخليد مسيرته وحياته وحِكمِه وأشعاره وسجاياه.
فعلى ما يبدو، أنّ النورس الحزين سيظل حزيناً، وأنّ البلبل الذي صحا متأخراً كان يجهل أن السعالي من السياسيين المتنفّذين ستسبقه للهف التين الأخضر واليابس، وأن صندوق العرس مضت به السنونَ ليصيرَ محض خردة. لكنّ، ما لا يدركه عبيدُ السلطات أنّ حچّام البريّس سيتجلّى على طوله في هور الغموگة، وأنّه لن يمشي (راگ الراگ)، فهو الحرُّ ابنُ الحرّ الذي سيدهن الزَمَرَ بحليب الأمّهات اللائي سيضعن أياديَ أبنائهنَّ على شيبهنَّ، لكي لا يُعطوا البراءةَ العفنةَ مهما طالت أعوادُ المشانق، ومهما كبر الموت وعلا وسما.
فيا أيّها النوّابيّون الكبار، حسبكم أنكم تنتمون الى ثورته الدائمة، وحسبكم أنّكم ستحفرون الحياة بالملاعق كسجن الحلة، وحسبكم أنكم ستظلون المنجل الذي يُداعي حتى بعد موت (صويحب).
لا تفرح بدمنه لا.. يلگطاعي.. مظفر من يموت المنجل يداعي..
- يداعي.. بيد كل تشرينيٍّ نصب الخيم واعتصم بها..
- يداعي.. بيد كل صابر على البطش، ثبتَ سعفةً ثائرةً بوجه النار المرة..
- يداعي.. بيد كل حرّةٍ مسجونةٍ ومغيّبةٍ وبيدِ كل معتقلٍ وجريحٍ ومسلوبٍ ومغدور..
وأخيراً نقولُها بلسان مظفّر وهو يهتفُ في ساحة التحرير مع أبنائه وأحفاده:
- تانيني يا ديرة هلي وزيتي الزمر لا ينشف
ما دام بالريه نفس ما نوكع نحب الجف
باجر نهوّس بالنصر تشرين ونعلّي الدف
أيام المزبّن گضن تگضن يا أيام اللف.
#عمرالسراي
#الأدباء_نبض_الوطن