طه رشيد
1. في اكاديمية الفنون الجميلة، كانت اكاديمية (كلية) الفنون الجميلة في مطلع سبعينيات القرن الماضي محجا للعديد من المثقفين العراقيين وطلبة بقية الكليات وخاصة الادبية منها، ومن الشخصيات العربية الفنية المرموقة التي زارت هذه الجنينة (آنذاك) المخرج المصري الراحل يوسف شاهين، الذي زار العراق بمناسبة عرض فيلمه العصفور، وحضرنا لقاء معه داخل اروقة الكلية مع عدد غفير من الطلبة ومن مختلف الاقسام وبحضور استاذنا الراحل ابراهيم جلال.
اما اهم الشخصيات العراقية التي زارت الكلية بزيارة غير رسمية (بعكس زيارة يوسف شاهين !) اي دون المرور بالإدارة فهو الجواهري، وكان يرافقه شخصان، لا اتذكر اسميهما! وما ان دخل الكلية حتى اصطف الطلبة لتحيته، وخاصة التقدميين منهم، بالرغم من تعلقهم، او تداولهم لقصائد مظفر النواب، بشقيها العامي والفصيح، بشكل اكبر.
توجه الجواهري وصحبه من مرافقيه وبعض الطلبة، مباشرة، الى نادي الاكاديمية، ليحتسي شابا من يد طباخ النادي “ابو فريد” وليدخن بعض سجائره ليختلط الدخان مع رد السلام على هذا الشاب او تلك الشابة.. ويعود ادراجه بعد ذلك مصحوبا بتحايا الطالبات والطلاب على حد سواء، وهو ما لم يحظ به اي زائر اخر! كيف لا وهو شاعر العرب الاكبر محمد مهدي الجواهري.
2. رسول حمزاتوف والجواهري
يقول حمزاتوف:(يمكن للمرء تبديل قبعته ولا يمكن لرجل شريف أن يبدل رأسه ).
زار الكاتب الداغستاني رسول حمزاتوف ( 1923-2003) العراق في منتصف سبعينيات القرن الماضي بعد صدور مذكراته ( داغستان بلدي) وقد اقيمت له امسية في اتحاد الادباء والكتاب في العراق/ المركز العام في بغداد داخل القاعة الشتوية، وهذا يعني كنا في فصل الشتاء، وما ان بدأت الندوة للحديث عن كتابه داغستان بلدي ، حتى وصل الجواهري، متاخرا قليلا. كانت القاعة تغص بالحاضرين الذين وقفوا جميعهم لمجرد رؤيتهم الجواهري وهو يدخل القاعة. ليس هذا المشهد الذي اذهل الضيف رسول حمزاتوف بل التصفيق الحاد الذي قوبل به الجواهري ما ان دخل القاعة حتى وصل الى المقاعد الاولى والتصفيق يلاحقه وهو يرفع يده لتحية الحضور كتمثال المتنبي وهو يرفع يده تحية لدجلة.
سألت حينها صديقي ورفيقي الذي كان بجانبي الشهيد دريد ابراهيم: لو دخل رئيس الجمهورية او اي مسؤول في الدولة هل سينال هذا الترحيب العفوي؟!
هز رأسه يمينا وشمالا قائلا : مستحيل حتى لو كانت القاعة مليئة بالعسس. انه الجواهري يسوه مية رئيس!
3. الجواهري في الموصل
زار شاعرنا الجواهري الموصل لإقامة امسية شعرية في جامعتها، بدعوة من عميد الجامعة آنذاك، في العشرين من شهر شباط 1980 وكان بصحبته كل من د. علي جواد الطاهر ود. مهدي المخزومي، وقد استقر الثلاثة على " المنصة " اثناء الامسية. ارتجل الجواهري كلمة اراد ان يشكر فيها عمادة الجامعة على تنظيم الامسية وحسن الاستقبال الا انه تلعثم فقال قولته الشهيرة :" لقد اكلت القوافي لساني ولم تبق لي غير الشعر! ليقرأ بعد ذلك اولى قصائده تحية للموصل واهلها الطيبين:
أمَ الربيعين، يا من فقت حسـنهما بثالث من شـباب مشـرق خضـلِ
يا موصل العرق من شرق تمد به للغرب حبلاًً، بعرقٍ منـه متصل
ولكن ماذا قال الناقد د. علي جواد الطاهر عن الجواهري في تلك الامسية حسب التسجيل الصوتي الذي احتفظ به لحد الآن؟
قال الطاهر : " الديك الفصيح من البيضة يصيح اما شاعرنا الجواهري فانه صاح من النطفة! انك لا تستطيع أن تعرّف الجواهري بأكثر من انه الجواهري، وقد تبتسم لهذا الحكم إذا لم تكن قد حاولت قبل هذا ان تسأل: مَنْ الجواهري، وحاولت ان تجيب عن السؤال! الجواهري شاعر. وشاعر فقط، وفي قولك: شاعر فقط، أشياء كثيرة جداً، أقلّها الفطرة وإقامة المجد على قاعدة متينة يكتفي صاحبها من الدنيا كلها بأمر واحد. والأمر الواحد برأيه وبرأي الحضارة الإنسانية ليس بالقليل ... أجل، شاعر، وشاعر فقط".
ثم القى بعض القصائد السبعينية ومن بينها "يا ابن الفراتين " وعندما قال : يا ابن الفراتين قد أصغى لك البلدُ زعماً بأنك فيهِ الصادحُ ألغردُ قاطعهُ الدكتور علي جواد الطاهر قائلاً: اسمح لي بقراءة البيت فأجابه الجواهري تفضَل يا دكتور، فقال الطاهر:
يا ابن الفراتين قد أصغى لك البلدُ
علماً بأنك فيه الصادح الغردُ
كانت تلك اخر امسية يقيمها في العراق بعد هجرته القسرية، وكما قال الطاهر فالجواهري بقي خلال قرن كامل "الصادح الغرد" بلا منازع!