* لا وجود لنقد حقيقي في العراق !!؟؟
نشر الروائي سعد سعيد مقالا بعنوان (ملاحظات عن النقد العراقي) في صحيفة (أوتار) البغدادية، العدد (40) بتاريخ 1/ 7/ 2021، احتوى على مجموعة من المغالطات، وإن بررها في افتتاح مقاله: "ما سيرد في هذا المقال ليس الا وجهة نظر شخصية"، ولكنه أضاف مبررا غريبا، هو: "لكي أقطع الطريق على ردود الفعل السلبية المتوقعة"، يحتوي على عدد من المتناقضات!! فماذا يعني الكاتب بقطع الطريق؟ هل يريد منع الآخرين من ابداء وجهات نظرهم؟ وقد حدد قطع الطريق على ردود الفعل السلبية فقط، لتبقى مفتوحة أمام الآراء المتفقة!! ويصفها ثانية بالمتوقعة! فضلا عن الخطأ في وصف وجهات النظر المختلفة بالسلبية، وسيوضح الكاتب لاحقا "وما مقالي هذا إلا مجموعة من آراء شخصية ... قابلة للنقاش والدحض كما هو حال الآراء الشخصية"، وهو الأمر الصحيح والمناسب.
انبنى المقال على فكرة "أعتقد أنه لم يكن هناك وجود لنقد حقيقي في العراق طوال الفترة التي سبقت الاحتلال الامريكي له"، البعيدة تماما عن الواقع، والتي ألغت جهود نصف قرن من الابداع النقدي العراقي، فالنقاد العراقيون منذ الخمسينيات هم الذين فتحوا لنا بعضا من آفاق القراءة والمعرفة والنقد والتمييز، وقدموا من الآراء والمعلومات والتفسيرات ما لا يمكن تجاهله أبدا، ولا حاجة بي لذكر اسم أحد، مع الإقرار بوجود هفوات، وأخطاء أحيانا، في بعض ما كتبوا، ولكن، هل يوجد أحد بلا خطأ؟ ليُرمي أولئك النقاد بسهم الالغاء!! بعض النقاد العراقيين علامات شاخصة في المدونة النقدية العربية، وبعض منهم في صدارة النقد العربي، منذ الريادة المعتبرة لـ (عبد القادر حسن أمين)، الذي أنجز رسالة ماجستير في الجامعة الامريكية ببيروت سنة 1955 عنوانها (القصص في الأدب العراقي الحديث)، وتلك الآراء النقدية التي كان يطرحها فؤاد التكرلي منذ الاربعينيات، ولم يصنف نفسه ناقدا؛ لسمو شأنه، وحتى نقد مفتتح الألفية الثالثة، ولا يمكن اغفال الميزة - ربما هي التي دفعت بالروائي سعد سعيد الى كتابة مقاله - المتوفرة في النقد العراقي والصحافة العراقية والثقافة العراقية عموما وهي الشللية، وربما ليس لدى الأستاذ سعد سعيد (شله)، ولا علاقات بالنقاد اللاهثين وراء الكتابة بدون أي اعتبار للفن والمعرفة، ولا بغيرهم؛ فللعلاقات دور مهم حتى لدى النقاد الحقيقيين.
وقد احتوى المقال على مجموعة من الآراء الغريبة، فلا يبدو القصد واضحا لجملة "تصديهم لأدب كان قد فقد هويته"، الانشائية، والمتشظية، وإذ حدد الكاتب مقالته بالنقد السردي فلماذا استخدم كلمة "أدب"؟ لأن أحدا – عارفا – لا يمكنه انكار وجود هوية للشعر العربي والعراقي خاصة، اما بشأن القصة والرواية فقد قال كثيرون، وسار خلفهم كثيرون، بأن القصة والرواية العربية لا خصوصية لها، بتحديد أدق.
وجاءت في المقال جملة: "الناقد الحقيقي الذي يمكن أن يهئ لهما سبل الرشاد ليقودهما في دروب التقدم والتطور"، التي قد تصنف على الخطأ الشائع، فليس الناقد هو من يهيئ شيئا لأي ابداع، لقد جاء النقد العربي في عصر ما قبل الاسلام بعد مجيء الشعر، لأن الابداع يقوم على ركيزتين – حسب رأيي – هما: الموهبة أو الملكة، والتعلم المستمر، الشاق والمجهد، الناقد لا يعلِّم كيفية الكتابة، التي يتعلمها الموهوب وصاحب الملكة بقراءة ما سبق، قراءة دقيقة فاحصة، وقراءة يومية ولساعات، وإذ يختلف البعض في تحديد وظائف النقد، فهو يقوم بتسليط الأضواء الكاشفة على النص، وتحليله، ووضع عناصره الأولية أمام المتلقي، وهي على ما فيها من أهمية ليست الا جزءا من الوظيفة الأهم للنقد وهي الجمالية، والنص النقدي هو النص الجديد، القراءة الذكية هي كتابة أخرى للنص السابق كتبها كاتب آخر، بعض غشماء السرد – عبد الله ابراهيم – لا يقبلون بقراءة المتلقين ويطالبونهم بأن يكرروا آراءهم!! الخطاب النقدي هو نص جمالي وظيفته الأهم هي امتاع المتلقي، ثم زيادة معرفته، من خلال تحليل النص، ليس واجب الناقد تعليم الكاتب، عليه ان يتعلم بنفسه، وأفضل طريقة للتعلم القراءة المستمرة، ولا يمكن اغفال أهمية قراءة الكاتب للنصوص النقدية، وهي كثيرة جدا، ومنشورة في صحف ومجلات وكتب.
وفي الجملة – في المقال- التي كانت سببا للجملة اللاحقة، يجمع الكاتب جنسين فنيين هما القصة والرواية تحت تقييم واحد، هو أزمة، وفي رأيي ان القصة العراقية منذ نضوجها الفني في نهاية أربعينيات القرن العشرين، ومازالت حتى الآن تنتج نصوصا متوفرة على الشروط الفنية، ونصوصا أخرى جميلة وممتعة، وبعض النصوص المدهشة أيضا، والرواية العراقية منذ النص الفني الأول: النخلة والجيران تتوفر على نصوص كثيرة جيدة، ولكنها ربما شهدت تراجعا في التسعينيات، وقد تراجعت فعلا بعد 2003، فكانت نسبة الناجح قليلة، وأسباب ذلك متعددة منها عدم توفر الموهبة، والتراجع المعرفي الذي تسببت به ظروف تسعينيات القرن العشرين، ومصادرة حقوق القراءة والكتابة، والعسف في حرية التعبير، وتراجع التعليم منذ حرب الخليج الأولى وتدهوره بعد 1991، ويبدو لي أن عددا كبيرا من الذين يكتبون رواية الآن لا يقرؤون، ولا يتابعون، وهم غير مطلعين على الروايات العالمية والعربية العظيمة، ليكون هذا سببا كافيا للضعف الفني.
ويعزو كاتب المقال ما يراه من ضعف في نقد السرد في العراق الى كون "الأدوات المستخدمة في عملية النقد الأدبي مأخوذة بالكامل عن نتاجات العقل الغربي في هذا المجال" وقبل أن يكون هذا غير صحيح فهو متناقض، لأسباب، منها: ان أصل القصة والرواية غير عربي، بينما للنقد أصول عربية راسخة ومثمرة منذ عصر ما قبل الاسلام، وقد استفاد النقد العربي السردي من بعض مقولات النقاد العرب في عصور الأدب الزاهية، وإن كان أغلبهم نقاد شعر، أو نثر ليست القصة أو الرواية منه، لكنه غالبا نقد جمالي، لا يذهب الى الوظيفة المفتعلة للأدب، وهي (الأدب للحياة)!!! ومن زاوية أخرى فإن النقد العربي استفاد - منذ طيب الذكر طه حسين وآخرين - من النقد الغربي، فضلا عن الأصل الغربي لقصيدة النثر، ولنترك الأدب والقصة والرواية والنقد جانبا، لأنها لا تغني عن جوع ولا تحمي من حر، ونركز على أساسيات حياتنا، هل يتمكن كاتب المقال – ونحن – من التخلي عن جهاز الهاتف، وعن الحاسبة الالكترونية، وعن التلفزيون والمكيف وعن السيارة والثلاجة والطباخ، وووووووو مما لا يعد ولا يحصى؟
وثمة مقولات أخرى غريبة، سأوضح أجوبتها باختصار:
- "أعيد التأكيد على أن النقد الجيد إنما هو ضمانة لولادة جنس ثقافي متميز"، هذا رأي جديد، وغريب، وغير صحيح، فلم يقل أحد بأن النقد رحم للإبداع!
- "ناقد القصة أو الرواية الحقيقي يجب أن يكون كاتب رواية أو قصة ممتاز"، غير صحيح تماما.
- "فهذه الحقائق باتت من المسلمات"، دائما يعتقد البعض بأن الأوهام حقائق ومسلمات!!
- "ما هو دور النقاد فيما حدث؟ بالطبع أنهم يتحملون المسؤولية الأكبر لأنهم هم المسؤولون الأوائل عن وضع مثل هذه المعايير، ولأنهم تقاعسوا، كان لهم كل التأثير على ما حدث، ولكن سلبا مع الأسف!"، ليس للناقد هذا الدور مطلقا، وليس من واجباته أيضا، فهو ليس موظفا يتقاضى راتبا عن عمله في نقد النصوص السردية، وهو لا يستند الى قانون أو تشريع مثل موظف حكومي أو قاض أو شرطي، فيما يقوله، إنما يستند الى أعراف، أهانها كل من لم يعجبه ناقد أشار الى هناته في الشعر أو القصة أو الرواية، وتعرض بعض النقاد الى الاهانة والتجريح، لذا صار بعض النقاد الحقيقيين مجاملين، (يكلك عليمن هل مغثه)، وبعض النقاد المعاصرين مستواهم هو مستوى الشعراء والقصاصين والروائيين الذي لا يجيدون الكتابة، وهم مع بعضهم سائرون على القول "شيلني واشيلك"، وحتى النقد الاكاديمي فيه بعض من المجاملة والضعف في الاختيار، فضلا عن التناول غير النقدي، طالب لا علاقة له بالقراءة طول حياته، لم يقرأ مقالا نقديا واحدا طيلة حياته، لا اهتمام لديه بالنقد والابداع قبل وبعد الشهادة، يدرس أقل من ستة أشهر نقدا أدبيا، ثم يكتب رسالة يشير مناقشوها الى مئات الأخطاء، ومئات هنا ليست مبالغة، ثم تجاز الرسالة، فيصير ناقدا!
- "فهم من يمتلكون أدوات صنع الكاتب الجيد من خلال عملية تقبل النتاجات الحقيقية والدفع بها إلى حيث الطبع (جواز مرور الكاتب، الشرعي)"، طبعا هذا خطأ تام، وغير موجود في الواقع، النقاد لا يمتلكون أية أدوات الا مصابيح انارة النص وأدوات تحليله، أما أدوات صناعة الكاتب فهذه لا يمتلها الا الله واهب الملكة والكاتب نفسه، وما هو القانون والتشريع، وفي أي بلد في العالم الذي يجعل من الناقد جواز مرور يسمح بطبع النص أو عدم طبعه؟ الذي له هذا الحق هو الخبير في دور النشر الحقيقية.
- "فهل كانت هذه العملية تسير بشكل صحيح خلال السنوات المنصرمة في العراق" الجواب عن هذا السؤال هو: نعم، بكثير من الاطمئنان الى أن الحرية هي الشرط الأول للإبداع، بعد الموهبة طبعا، والثاني هو المعرفة.
- "أود أن أختم هذا بالحديث عن الكاتب (القدير الذي كان يتجرأ هو الآخر على نقد نتاجات الآخرين) الذي صدع رأسي قبل عقد من الزمان بحديثه عن الخمسة وعشرين عاما التي قضاها في كتابة أعظم رواياته، وإذا بي أكتشف في النهاية أن روايته هذه ما هي إلا محاولة لتعريق رواية فرنسية صدرت في الخمسينات من القرن المنصرم!"، وهذا خروج عن السياق الذي هو رأي في (ملاحظات عن النقد في العراق).
هكذا، اتضح أن مقالة الروائي سعد سعيد ليست سوى مغالطات، وتدل على عدم اطلاع الكاتب على النقد العراقي، وكتب هذا المقال لوجود مستكتب، ولتفريغ شحنات نفسية بسبب عدم الاهتمام بما يكتب، ربما لأن ما يكتبه ضعيف، ولا يحظى بالتلقي!!