الرئيسية / المهمشون في روايات ضياء جبيلي / كمال عبد الرحمن

المهمشون في روايات ضياء جبيلي / كمال عبد الرحمن

 


 

تقدم روايات ضياء جبيلي أنماطا وأنواعا من التهميش، منها:

فمن الواضح أن العراق  قد  هُمش منذ عام 1958 وحتى يومنا هذا، فكيف لاتنتشر ظاهرة التهميش في بلد كله مهمش محليا وعالميا؟،وبإمكاننا أن نؤكد  هذا التهميش من خلال مجموعة من الحوادث  الدموية، التي  يمكن ترجمتها الى ( ثورات) و(إنقلابات) و( انتفاضات)، امتدت من عام 1958 الى عام 2003، حيث اكتمل التهميش بالإحتلال الأمريكي للعراق.

وهذا كله اختصره السياب حينما قال (( ما مر عام والعراق ليس فيه جوع))(1) .

والمعنى مستمر ولم يختص  بالماضي فقط  فالمقصود(  لن يمر عام الا والعراق جائع)، فماذا نتوقع من بلد جائع سوى التهميش؟، الجائع لايفكر ولا يتعلم، فهمّهُ في الحياة لقمة الخبز.

المبحث الأول:التهميش الإجتماعي( الثقافي والجغرافي والإجتماعي):

المركز والهامش لغة:

المركز لغة:                                  

من ركز، الركز، والمراكز هي منابت الأسنان، ومركز الجند لايبرحوه وقد أمروا ان يلزموا به،ومركز الرجل موضعه، ومركز الدائرة وسطها(2) 

الهامش لغة:

ولهذا المصطلح في اللغة عدة دلالات:

((همش والهمشة: الكلام والحركة، والهمش كثرة الكلام))(3).

وتعليقات هامشية:

((لادخل لها بما هو مهم ولاعلاقة له بالنشاط الأساسي))(4). 

ومثل ذلك في قولك:

((همش يهمش تهميشا: الكتاب ونحوه، أي أضاف ملاحظات على هامشه، همش الموضوع أي جعله هامشيا ثانويا))(5). 

المركز والهامش اصطلاحا:

المركز اصطلاحا:

((تعبير يستخدمه علماء الإجتماع بمفهوم اجتماعي وجغرافي، للدلالة على العلاقة القائمة، بين قلب القوة والثقافة لمجتمع ما،ومناطقه المحيطية))(6) 

الهامش اصطلاحا:

 التهميش عكس المركز، وقد يقصد فئة أو جماعة طردها المركز لأسباب عدة، فإذا كان المركز هو (الأصل) أو (القاعدة)، فإن المهمش هو( المقصي المطرود عن القاعدة)، والتهميش يعني (( عدم قدرة المجتمع على تفعيل كل أفراده بالدرجة التي يحققون فيها ذواتهم ويفعلون فيها مقدراتهم وقدراتهم ومواهبهم وطاقاتهم، وبالتالي فإن التهميش لايعني ولا ينبغي أن ينحصر في النواحي الإقتصادية الضيقة بل ذو دلالات ثقافية واجتماعية وسياسية وحضارية ورمزية أيضا حيث أن التهميش في هذا المضمار يعني غياب الإعتبار وغياب المعنى وغياب القيمة لجماعة ما))(7) 

 

 

 

 

.والى جانب هذا التهميش القسري، هناك من يختار الهامش طوعا ويلوذبه فتصبح الهامشية:

((كوضعية مختلفة تنتجها إختيارات إرادية لدى الفرد هروبا من التنميط وتفجيرا للنموذج، فتكون هامشية إرادية تختلف في مسبباتها عن الهامشية المسلطة التي تكون نتيجة لممارسات تمييزية أو فرز اجتماعي يستبعد الآخر ويبخس اختلافه وينفي عنه أية قيمة لأنه غير متماثل مع المركز))(8) 

ومثال على التهميش الطوعي، مانراه  في الطائفة الأيزيدية التي همشت نفسها عن المجتمع الإسلامي، والتزمت بديانتها وعقيدتها وطبائعها الإجتماعية الخاصة، وتقدم لنا رواية ضياء جبيلي( المشطور) مثالا حيا على طبيعة هذا التهميش الطوعي نذكره في مبحث( التهميش الديني)، لكننا نود التوضيح هنا أن التهميش لايكون دائما من المركز، فهناك انواع من التهميش والعزل والإقصاء الطوعي، تقوم به مجموعات أو طوائف أو أقليات بتهميش نفسها والإنفصال عن المركز إجتماعيا أو سياسيا أو ثقافيا أو دينيا وغير ذلك، لأسباب وموجبات تراها تصب في مصلحتها في حال التهميش.

كما ان التهميش الذاتي الطوعي قد يكون ثقافيا، حيث(( هو عبارة عن جماعة تخلت عن بعض تقاليدها المميزة لكيانها المستقل، ووافقت على بعض القيم وطرق الحياة السائدة في ثقافة أخرى))(9) ، وأشد ما يواجه الشخصية المهمشة، هو ذلك الصراع النفسي وحالة الإغتراب، فالإنسان المهمش يصارع نمطين من الإغتراب((إغتراب واقعي يجعله دائما في حالة وجود مأساوي،بسبب تناقض حاجاته مع شروط تحقيقها،واغتراب الوعي بسبب أنه لايعرف أسباب اغترابه الحقيقية))(10) 

 

، وهو كذلك يعاني من أزمات الصراع العقلي والنفسي نتيجة وجوده في ((جماعتين ثقافيتن مختلفتين تماما، وعدم انتمائه الى قيم أي منهما،أو معاييرهما مما يجعله غير قادر على اختيار هذه الجماعة أو تلك ليتوحد معها))(11)

، لذلك فحالة الإنسان المهمش تتصف بعدم التوازن الوجودي، فمن وجهة نظهرهم أن الحياة غير ممكنة ، فيتولد في ذواتهم توتر نفسي كبير، يؤدي بهم الى الرضوخ كي يستمروا في الحياة(12) 

لا شك  أن العلاقة بين الذات  المهمشة والذات المهيمنة هي علاقة تضاد وصراع بينهما وبين الأنساق السياسية والإجتماعية والثقافية(13) 

البصرة هي اختصار لجنوب العراق كله، فإذا جاعت جاع الجنوب، وإذا انتكست انتكس الجنوب، وإذا انتعشت انتعش الجنوب، وكان عليها أن تحتمل وزر أخطاء  الساسة الفاسدين والحكومات المتعاقبة على الخراب واللصوصية، ولم تكن بموقف تحسد عليه حينما هاجمها البريطانيون  واحتلوها عام 2003، وبشيء من الدقة تحدثنا رواية ( ساق الفرس) لضياء الجبيلي عن هذه الحادثة:

(( كنا نسكن في حي رث، يقع على أطراف البصرة، عندما اجتاحت القوات البريطانية المدينة من الجانب الجنوبي، بعد ليلة من القصف العنيف، طالت آليات الجيش العراقي في ثكنة لاتبعد كثيرا، يتمركز فيه أحد الألوية المدرعة التابعة

للجيش، سارعنا انا و أمي يومذاك، أسوة بالبقية من سكان الحي العشوائي، الى حجز إحدى بنايات الثكنة، لنتخذ منه منزلا، بدلا من الخص الذي كان يأوينا طيلة

السنوات الماضية))(14) 

كيف يكون التهميش وأنت لاتمتلك سكنا تقيم فيه، ولاتجد راحة في بلد هواياته الحروب، من هنا فإن مسألة التعليم والثقافة ستكون من آخر الأمور التي تفكر فيها العوائل الفقيرة، ولطالما كان شعار هذه العوائل( لقمة الخبز) و(تزويج البنات بإبن حلال يستر عليهن)، وهذا تعلنه صراحة رواية ضياء جبيلي هذه ،فعائلة من أب فقير وأم تعمل عاملة تنظيف في مشفى البصرة،وابنتان (سليمة) و(عبير)، سيكون لهذه العائلة شأن مع التهميش والضياع والإنتحار.

ففي الوقت أيقنت  فيه( سليمة) ابنة التاسعة عشرة من حرمانها دخول الجامعة، بسبب توبيخ أحد أبناء عمومة والدها لوالدها وهو يقول:

((كَعدها بالبيت.. ماعدنا بنات تدرس بالجامعات!))(15)

 ايقنت بتلك اللحظة  بحقيقتين مؤلمتين، الأولى ( حرمانها من الجامعة والثقافة) والثانية ( أبناء العمومة لايظهرون في الخير، فقط يظهرون عند أي خطأ أو زلة تقع بها الفتاة ليسارعوا الى محو العار بالطرق الدموية التي يرونها مناسبة!)، وكانت هذه أول انتكاسة تتلقاها ( سليمة) بحرمانها من التعليم الجامعي الذي كان حلمها الكبير.

وواضح ان شخصية (سليمة) تعاني من الإستلاب، حيث سلبت حقها في التعليم، وهو نوع من (التهميش الثقافي)، كما سلبت حقها في العيش وطريقة تقرير المصير، فالإستلاب (( هو حالة انبهارية وانسحاقية تحت ظروف خارجة عن الإرادة، وهو انقطاع عن الإنتماء الى الذات، التشيؤ القهري))(16) 

 ،وتستمر مأساة هذه العائلة البصرية، حيث يفارق الأب الحياة  بطريقة تراجيديا منسيا في حراسة مخزن للمواد الإنشائية،ثم تسوء الأمور حيث تُغتصب  الأختان ،

مع أن( عبيرا) هي في التاسعة من عمرها يغتصبها مجهول كونها طفلة مريضة، بينما الأخت الكبرى يغتصبها خطيبها ثم يقطع علاقته به:

(( بعد فقداننا لعذريتنا، بتلكما الطريقتين الفضتين،ولم نعد نصلح لمشاريع الزواج، ولا حتى للعبودية،فيدو المر مختلفا. اذا كانت تلك معركتي فلأخضها إذن،قلت لنفسي متحدية كما لو أنني أواجه الموت، إذا كان على عبير أن تموت فلتمت

بطريقة أخرى، لن أسلمها للقتل، لن اسلمها لأولئك، لكن من هم أولئك؟ ولماذا هم

متخفون ولا يظهرون الا للإجتماع من أجل القتل والثار وغسل العار))(17) ومن الواضح أن مفهوم البطل (الأنثى) في الرواية المعاصرة  لايعرف  مسارا ثابتا  لتحقيق برنامج سردي معين ، وذلك لطبيعة العالم المعاصر الذي تسوده الفوضى والتشتت، والشخصية في الرواية المعاصرة مسيرة وليست مخيرة، كما تسعى الرواية المعاصرة الى تبيان مظاهر الخضوع  وتجليات السيطرة على الشخصية ، من خلال وقوف السرد على استعراض الحولات التي طرأت  على الجسد (18)

فالجسد كما هو متعارف عليه(( جماعة البدن ومجموع اعضائه، التي يحافظ الكائن الحي على مختلف وظائفه))(19) 

وفي جميع الأحوال الأنثى هي الطرف الخاسر، وخسارتها في بلد كالعراق ومدينة كالبصرة، لها معان هوخسارة حياتها، دون أن يؤثر ذلك على الطرف الآخر الذكوري الذي ينال شهواته ويهرب دون أن يكلف نفسه بالإلتفات لحظة الى الوراء،

ليرى الطريقة التي تذبح بها الأنثى الضحية، وهي تُقدم قربانا و ثمنا لجريمته الشنعاء.

لاشك أن الفقر هو سبب مهم من اسباب التهميش، فليس بمقدر أحد أن يهمش الأغنياء وأصحاب المراكز والوظائف العليا،لذلك تنال هذه العائلة البصرية حظها من التهميش، بسبب الفقر ، فالأب حارس منسي في أحد المخازن، والأم عاملة تنظيف في مستشفى البصرة، والفتاتان واحدة مريضة ومعاقة والثانية محرومة من التعليم والوظيفة،فالمهمش (( هو كل إنسان محروم من حقوقه الطبيعية التي يجب ان يتمتع بها كل شخص حر: من صحة ، وتعليم،وأكل ، وشرب،وأمان،ووئام،

وحرية))(20) 

وتهرب الفتاتان من العراق الى بريطانيا ، بمساعدة الطبيبة التي كشفت على الطفلة  المغتصبة عبير وتأكدت أنها طفلة قاصر مريضة مظلومة  سيتم ذبحها بدون  ذنب ،ولاتتوقف الحكاية عند هذا الحد المحزن، بل تستمر حتى انتحار(عبير) بسقوطها  او إلقاء نفسها من شقتها  بإحدى العمارات في لندن، ثم لتبدأ الأخت المهمشة المستلبة (سليمة) رحلة مكوكية بين (لندن) و(البصرة) بحثا عن المجرم الذي اغتصب أختها القاصر المريضة.

ومن أمثلة التهميش الثقافي في بعض روايات ضياء جبيلي، هو التهميش الإعلامي والعلمي، في زمن الحكم البائد للرئيس العراقي السابق وحزبه الإنفرادي المتسلط،حيث يتم منع أو قمع أو تهميش أية فعالية ثقافية أو علمية تشير من بعيد أو قريب الى خطأ ما في سلوك الحاكم الطاغية أو حزبه القمعي المخيف:

(( توقف العمل فجأة، وتوقف معه مشروع الحاق الحي بشبكة المجاري، بعد موجة قصف عنيفة تعرضت لها المدينة، قتل خلالها عاملان مصريان بشظايا القنابل الإيرانية، ووصلت من الجبهة توابيت كثيرة معبأة بأشلاء الجنود العراقيين من أهل الحي (..) ويظهر عقيد المرور" ابتهاج الياور" في برنامج السلامة العامة منوها

الى تذمر العراقيين من حزام الأمان، ويتكلم عن كثرة الحوادث التي تسببها سيارة البرازيلي، ليختفي بعدها،ويعدد مقدم برنامج اللياقة البدنية فوائد الموز، ليختفي بعدها، ويلغى برنامجه،في حين يثير"كامل الدباغ" في برنامج" العلم للجميع" غضب الموظفين والطلبة، بعد اقتراحه بشأن العمل بالتوقيت الصيفي،أما "مؤيد البدري" فما زال لايستطيع الرد على الرسائل الكثيرة التي ترد الى برنامجه" الرياضة في اسبوع" عن سبب حلق شعر رؤوس لاعبي المنتخب الوطني العراقي))(21) 

ونلاحظ هنا ظاهرة ( الإختفاء) المتكررة التي تكشف أوتعري مجموعة الأخطاء التي تقع فيها الحكومة البائدة تجاه الشعب، مما يستدعي أن تقوم بإلغاء أو تهميش هذه الأجهزة الثقافية والعلمية لكونها العين المبصرة للجماهير والرافضة لكل ما من شأنه أن يغمط الشعوب حقها، ومن أبسط وأندر الحقوق (الموز) الذي نسي الشعب لونه وشكله وطعمه، لذلك كان هذا التهميش مؤثرا في نفسية الإنسان العراق وهويردد مع نفسه( بلد نفطي.. وشعب جائع!).

وهكذا فالفقر بانواعه هوتهميش أيضا، إذ (( أن الفقر هو الحالة التي يستحيل عندها الإستجابة للحاجات الأساسية للفرد لكي يبقى على قيد الحياة ))(22) 

وإذا كانت روايات جبيلي قد طرحت أنواعا من التميش، فإنها لم تكن لتتجاوز التهميش الشخصي ( بسبب قبح وجه وصورة الإنسان)، وهذا ما سبب ألما وكآبة وحزنا لصاحب الصورة:

(( في مراهقتِه كان " فريد" يحب امراة في كل يوم، يجهش بالبكاء حسرة على حبه الضائع، متألما طول النهار،شاتما نفسه كلما استيقظ صباحا، حيث يبدأ تجواله في

 

المدينة بحثا عن امرأة جديدة يعشقها،فيبدأ بذلك رحلة أخرى يغور في وحلها دون أن يلمس امرأة ولو من وراء ثوب، عازيا السبب في ذلك الى قبحه، حتى لوحة الصرخة المستنسخة والمعلقة على الحائط  صالة شقته، رفعها فريد والقاها من النافذة، بعدما راى فيها سخرية من آخر،إذ شعر أنه مسجون في جحيمها، أو انه رأى نفسه فيها نموذجا للإنسان المستوحد في عالمها، وهو يتلقى صرخة العالم بوجهه:

" كم انت قبيح يا فنسنت!" )) (23) 

ويأتي التهميش الإجتماعي بأدق صوره على لسان أحد أبطال رواية(لعنة ماركيز)، يقول ( مسعود):

(( من خيوط الحقيقة التي يأبى العالم ان يبوح ينسج صورة الوطن، يلعن الحروب وقوّادها، يسرح في العراء مثل حصان هائج، يحفر قبره بيده، ثم يدخل فيه، ويصيح:

" الرئيس يسكن في قصور منيفة، وأنا أسكن في الخرائب مع الكلاب! الرئيس ينام على فراش من القطن الزراعي الناعم، وأنا أنام على جلد حمار، الرئيس ينهش بأسنانه البيض من فخذ غزال مشوي، وأنا ألق العظام، الرئيس يتعطر بأجود العطور الفرنسية،وأنا اتعطر بالخراء، الرئيس يدخن السجائر الأمريكية، وأنا أدخن لفائف الروث!!" ــ ))(24) 

 ، هذه صورة فردية لكنها يمكن أن تعمم على أبناء الشعب، فكيف لايكون الإنسان البصري مهمشا، والغالبية تعيش على الهباء، فقر مدقق، أحياء خربة، جهل عارم، فساد سياسي طاغ، جريمة سائدة ،والحروب من مهامها ان تكمل الفجائع وتدمر مالم يعد بالإمكان إنقاذه.

ومما يزيد الأحداث تراجيديا، هو ذلك التهميش الجغرافي الذي تقدمه رواية (ساق الفرس)، من خلال محلة عجيبة من محلات البصرة، ثكنة عسكرية مهجورة إلا من آليات عسكرية محروقة أو مدمرة نتيجة انهيار الجيش العراقي ، بعد غزو الجيش

البريطاني للبصرة، وتدريجيا تتحول هذه الثكنة العسكرية المدمرة الى حي من أحياء البصرة أسمه( حي الحرية) وكان هذا مدعاة لسخرية الأهالي أن يتحول معسكر لواء مدرع دمره القصف البريطاني الى حي سكني، يلعب الأطفال بآليات المعطوبة على شكل أرجوحات وألعاب أطفال:

((إمتلأت بنايات الثكنة بالسكان، وأضيفت بمرور الزمن، أبنية أخرى عشوائية تباع وتشترى، بالإضافة الى ما يشبه الشارع الصناعي على الطرف الشمالي، بمواجهة الطريق العام، قبل أن تجد الثكنة أخيرا من يطلق عليها اسما مضحكا هو حي الحرية،اسم على غير مسمى.. وفي تلك الأيام من شهر نيسان 2003، وجد الأولاد من الذكور والإناث، تليتهم في الآليات المدمرة والمجتمعة في رحبة واسعة وسط الحي،دبابات، مدرعات،سيارات حوضية، عجلات حمل من نوع إيفا، وسيارات واز صغيرة،مدافع ومدافع مفاومة الطائرات..أصبحت الرحبة بمثابة مدينة ملاهي يؤمها الأولاد، ويمضون فيها أوقاتهم باللعب على ظهور الآليات..)).(25) 

وبهذا يكون (حي الحرية) واحدا من نماذج التهميش الجغرافي، وثمة أمثلة أخرى على التهميش الجغرافي / الإجتماعي في أحياء البصرة، حيث تقدم روايات ضياء جبيلي أنماطا من التهميش ومنها التهميش الجغرافي، حيث يتعمق في تفاصيل المجتمع البصري، وأحياء المدينة، وحياة الناس اليومية، ليقدم صورا حقيقية عن طبيعة العيش في البصرة، مظهرا حالات السلب والأيجاب في المدينة، ومن ذلك صورة عن تهميش جغرافي لبعض أزقة المدينة وحواريها، حيث نرى حالة يرثى لها في جزء من البصرة:

((الزقاق غير مسجل في البلدية، لذا تراه غارقا بالمياه الآسنة، والنفايات ورائحة المجاري الكريهة، وهو المشار اليه بالإهتزاز، ليس بسبب زلزال ضرب المدينة، لأن الله من علينا إذ جعلنا بعيدين عن الزلازل، لكن الحروب تعوض دائما عن الأشياء المدمرِة، كما لم يتهز بسبب قنبلة طائشة سقطت بالقرب من المكان،مع أن القنابل شيء مألوف بالنسبة لنا،ويمكن أن يحدث ذلك مادام أن ثمة متسع للعراك، وإنما اهتز بفعل آهات التعجب، وتكرار(لا) الصدمة التي فلقت قلوب الجالسين على

التخوت الخشبية، ينفثون دخان " أركَيلاتهم" في الفراغات المضجرة، فتلوث الهواء

الملوث سلفا))(26)

، ويلاحظ أن أحياء البصرة قبل الحرب لم تكن بحال تحسد عليها، وجاءت الحرب فأكملت مصيبتها، وحولتها الى أشباه أحياء تفتقر الى ابسط مقومات الحياة، وإذ نالت حظها من الحرب مع إيران من التدمير والتهميش، فإنها كانت أكثر المدن العراقية تضررا على الأطلاق، حتى جاء الأحتلال البريطاني عام 2003 ، فحولها الى خرائب تكثر فيها المصاعب وتضيق سبل العيش الى حد لايطاق.

وبسبب الحروب وملحقاتها، والسياسات الفسدة، تتحول البصرة تدريجيا الى مستنقع يضم بداخله كل ما هوعجيب وخطير، ترى من الذي همش مدينة البصرة الفيحاء جميلة الجميلات وحولها الى مدينة أشباح؟!:

(( قرأت مرتين، ثلاثة، عشرة، يا إلهي! ماذا يحدث في هذه المدينة؟ يا للغباء! كيف لم أنتبه الى مثل هذت الأمر؟ تلوث اشعاعي، تلوث بيئي بسبب أدخنة الآبار والأزبال، ملايين الألغام، مخدرات، فساد حكومي، فقر، قذارة، ملوحة المياه، وميليشيات مسلحة، والآن حبوب هلوسة (..) أنواع مثل فاليوم 10، آرتين،أبو الصليب، وردي، وغيرها من التسميات الشعبية لحبوب الهلوسة))(27) 

السؤال المهم هل كانت البصرة ملكة جمال العراق يوما بهذا السوء؟ ومن المسؤول عن تهميشها حتى تحولت الى مستنقع الفساد والجريمة، لاشك أن الحالة عامة، فالبصرة جزء من العراق الذي افترسته الحروب، ومزقته الحكومات الفاسدة، وأهملت أغلب مرافقه ودوائره ومؤسساته، فصار بلدا مهمشا عالميا، ولم تعد له القدرة على اعادة بناء نفسه بنفسه، وهكذا انتشرت ظاهرة التهميش في المدن العراقية لعجز الحكومة على المحافظة على القانون والدستور وحماية مصالح الشعب.

 

بلدان المركز(29). 

وهذا ما ينطبق على تهميش العراق أثناء فترة الحصار الإقتصادي الذي ساهم بتدمير البنية التحية للمجتمع العراقي، وذلك من خلال تحدي الرئيس العراقي لقدرات الدول العظمى والإستهانة بها، دون التفكير بالنتائج الكارثية التي وقعت على الشعب العراقي المظلوم.

وفي التهميش الجغرافي وهو اجتماعي بالوقت نفسه، تطرح لنا رواية لعنة  ماركيز  لجبيلي مثالا حيا عن الفرق الشاسع بين بلد اسمه (كولوميبا حيث يعيش ماركيز)، وبين العراق، بلد عجيب يفقد هويته وشخصيته وتأريخه تدريجيا، دون أن تكون هناك ثمة بارقة امل  أو فرصة ليستعيد  أمجاده المعروفه وحضارته التليدة، فنرى أحد أبطال الرواية (نزار)، وهو يصف كولومبيا ب(البرج العاجي) وبعض أحياء البصرة ب(بالوعة)، هذا الفرق الجغرافي والإجتماعي الكبير بين البلدين يزرع حالة اليأس لدى (نزار) وكأنه يتحدث عن الفرق بين(الثرى والثريا):

((فقال نائل:

ــ أعتقد أن الأحلام التي نراها ليست الاهلوسة تحشوها الشياطين في أذهاننا كلما متنا نصف ميتة.

ــ بل هي الحقيقة!

أكد نزار:

ــ ثقوا ليس ثمة فرق بيني وبين هذا

 وأشار بسبابته الى صورة ماركيز وتابع قوله بصوت تقطر منه الثقة " لافرق أبدا سوى أنه يسكن في برج عاجي وأنا أسكن في بالوعة))(30).

كما أن مثالا آخر للتهميش الجغرافي والإجتماعي، يظهر مأساة العراقيين أيام الحروب والحصار الإقتصادي على العراق بأعلى درجات الوصف والدقة:

((ذلك أن بلدا تحكمه الغيلان، وفوق ذلك يحاصر من جميع الجهات،برا وبحرا وجوا، ويمنع عنه الغذاء والدواء، ويهلك في أحضان الأمهات وحاضنات الخدج،

والغرف المعتمة، والردهات الوضيعة،مليون ونصف المليون طفل، فلا بد أن تمتلىء فيه جيوب حفاري القبور، وتصدح معاولهم بالمزيد في أرضه الرخوة))(31) 

ولا تتوقف أمثلة التهميش الجغرافي في روايات ضياء جبيلي، بل  تزداد إلحاحا وعداء وجنونا لدى خنازيز داعش، الذين لايؤمنون بشيء اسمه وطن أو عراق:

((موطني.. موطني..

رن الهاتف ثانية.

" اللعنة على موطنك "

كاد الشيشاني يفقد عقله وهو يسمع تلك النغمة مجددا

والحياة والنجاة والهناء والرجاء

" أسكت الهاتف اللعين وإلا.." اهتاج الشيشاني (..)

موطني.. موطني!

رن الهاتف للمرة الثالثة.(..) حينئذ القى الأفغاني نظرة أخيرة على صورة بيلوتشي الفاتنة ورمى هاتفي الذكي الذي مازال يردد:

هل أرااااك.. في علااااك..تبلغ ال.....!

وفي هذه اللحظة، انهال الشيشاني عليه بوابل من الرصاص حتى اصابه، وتهشم الى قطع، وتلاشى صوت النشيد، ونكسرت كلمات ابراهيم طوقان، وتبعثرت ألحان محمد فليفل، ولم أعد أنا أنا، ولم يعد الوطن هونفسه))(32) 

إن أشد ما كان يثير حنق وحمق الدواعش كلمتان، الأولى( الجغرافية)، والثانية

 (الوطن)، ففي عقول مغسولة ومعبأة بالأفكار الخربة والترهات، لاتجد سوى شعار

 وهمي " دولة الإسلام قائمة وتمتد!!" وفي الحقيقة فإن داعشا ليس أكثر من  مجموعة مخططات عدوانية، لتدمير بلاد المسلمين، صاغتها أكثر من دولة تحقيقا لأهدافها السياسية والستراتيجية الخاصة.

لقد كشف ضياء جبيلي من خلال روايته ( المشطور) عمق المؤامرة الدولية التي تحاك لتدمير بلاد المسلمين تحت أسطورة أو أكذوبة (داعش)، ولأن بطل الرواية عراقي صميمي مخلص لعراقيته، فهذا لايرضي بعض الأطراف التي تحوك في الظلام المؤامرات لتمزيق لحمة العراق، فيقوم داعشيان واحد أفغاني والآخر شيشاني بشطر جسم البطل بمنشار كهربائي ، نصف علوي ونصف سفلي " إشارة الى محاولة الأعداء تمزيق العراق الى قسمين (شمالي سني) و( جنوبي شيعي)، وبما أن  الأدلة أثبتت أن (داعش) ليس سنيا ولا شيعيا ولا يهوديا ولا نصرانيا، وانما  هومخطط عدواني  صاغته جهات خارجية لتمزيق  الدول الإسلامية في المنطقة، وتهميش دور العراق بالكامل لأنه يمثل العصب القوي في  هذه المنطقة والشوكة الغارزة في قلب الطائفية، فقد إنكشفت أوراق داعش من خلال الرواية، عندما يقاتل ويجاهد ( النصفان المشطوران)، للعودة الى وضعهما الحقيقي، وإنهما روح وجسد واحد، فلاشمال ولاجنوب، بل عراق واحد موحد هذا ما أرادت أن تقوله الرواية ونجحت به.

وهنا لاتكفي كلمة (تهميش)، مادام الأمر يتعلق بالوطن والمواطن، بل يتعداه الى " الإستلاب" أو رديفه " الإغتراب" حيث يحاول (الآخر) طمس شخصية الوطن وسلبه من مشاعر وعقول المواطنين، مما يجعل المجتمع ينقسم الى قسمين، قسم يرضح لطلبات التهميش والإستلاب  تحت مجموعة من الضغوط والتهديدات، وقسم يرفض التنازل عن فكرة الإنتماء الى الوطن، متحديا بذلك تهديدات الطرف الآخر الذي يتبنى فكرة الإستلاب، وهذا الشكل من الإستلاب أو الإغتراب ينتمي الى عالم الفكر الوجودي(( الذي اصبح له إتجاهان: إيجابي يجعل الإنسان نفسه في خدمة( الوطن) أو المجتمع والدفاع عنه، واتجاه سلبي يجعل فيه ذاته مطروحة للبيع والشراء، ولاسيما حينما تتسلط على إرادته وروحه وعقله قوى خارجية تمارس عليه القهر والإستغلال والعنف والتزمت))(33)

 

تجتهد روايات ضياء جبيلي في تقديم أمثلة نادرة من الإستلاب والتهميش، ومثلما كان وفيا في سردياته للبصرة، كذلك كان وفيا في كتاباته السردية الى العراق، فهو يدخل في آلام(الموصل) كما يتغلغل في آمال (البصرة)، وهو مخلص وفي ولائه  لإنسانيته ولإنتمائه الأصيل الى وطن الأوجاع والأسئلة.. العراق!

 

الهوامش والمصادر والمراجع

(1) أنشودة المطر، بدرشاكر السياب،مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012،: ص123

 

(2) ينظر: لسان العرب،ابن منظور الأفريقي أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم،دار الصادر، بيروت،المجلد الثالث،ط1، 1997م: ص1131.

(3) المنجد الوسيط في اللغة العربية والمعاصرة،أنطوان نعمة وآخرون،دار المشرق ، بيروت،ط1، 2003،: ص4371

(4) المنجد الوسيط في اللغة العربية والمعاصرة،أنطوان نعمة وآخرون( مصدر سابق): ص1491

(5)المعجم العربي الأساسي، أحمد العايد وآخرون،المنظمة العربية للتربية والثقافة،لاروس،1989م،ص1272

(6)موسوعة العلوم الإجتماعية، ميشيل مان،تر: عادل مختار الهواري وزميله،دار المعرفة الجامعية،1999م،:ص:99.

(7) التهميش في السودان ،حامد البشير ابراهيم، بموقع الأنترنت يوم 29/ 8/2021.

(8) الهامش الإجتماعي في الأدب قراءة سوسيو ثقافية،هويدا صالح،دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1،2015،: ص48.

(9) المرجع في مصطلحات العلوم الإجتماعية، مجموعة مؤلفين،دار المعرفة الجامعة،(د.ط)،(د.ت)،:277

(10) الأنا، أحمد برقاوي،دار التكوين ، سورية،ط1، 2009،: ص139

(11) المرجع في مصطلحات العلوم الإجتماعية، مجموعة مؤلفين ( مصدر سابق) ص277

(12) ينظر: التخلف الإجتماعي، مصطفى حجازي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب ، الطبعة التاسعة، ،2005،: ص97

(13) ينظر: التهميش والمهمشون في المدينة العربية المعاصرة رؤية تحليلية من منظور بنيوي، عمر الزعفوري، العدد 4، المجلد 56ـــ 2008،:ص 185

(14)ساق الفرس، رواية، ضياء جبيلي،دار الفراشة للنشر والتوزيع، الكويت، الطبعة الأولى ، 2019،: ص93.

(15) الرواية: ص95

(16)معجم المصطلحات الأدبية،د. سعيد علوش،دار الكتاب اللبناني، بيروت، م1985،:ص113

(17) رواية: ساق الفرس: ص122 ـ 123.

(18)المهمش في الرواية الجزائرية من منظور البيولوجيا السياسية لميشيل فوكو، أ. ليلى أجعود، أ. د. آمنة بلعلي،جامعة تيزي وزو، مجلة الخطاب،مجلد 14،ع2،  2019،: ص216.

(19) الجسد بين الشرق والغرب نماذج وتصورات، هشام العلوي، مطبعة النجاح الجديدة منشورات الزمن،د.ط، المغرب، 2004،: ص7.

(20)المهمش في روايتي كاماراد للصديق حاج أحمد والعمامة والطربوش صبرينة بن عزيزة،بسمة بو شريط،رسالة ماجستير،جامعة 8 ماي 1945 قالمة، كلية الآداب واللغات، قسم اللغة والأدب العربي،2019،: ص39.

(21)تذكار الجنرال مود، رواية ضياء جبيلي،: ص75 ــ 76.

(22) المهمشمون "كارثة عمرانية بيئية.. مؤجلة"،هناء محمود شكري، ينظر مقال نشر في أفريل 2011،: 
"المهمشون " كارثة عمرانية بيئية .. مؤجلة - PDF - ResearchGate

الساعة 10:09  تم الاطلاع 30/ 8/ 2021https://www.researchgate.net › publication › 321579338_

(23)وجه فنسنت القبيح، رواية، ضياء جبيلي،دار الهجان للنشر، الطبعة الثانية، بيروت، 2019،: ص47 ــ 48

(24) رواية : لعنة ماركيز: ص 44

(25)رواية: ساق الفرس: 93 ــ 94

(26)لعنة ماركيز، رواية، ضياء الجبيلي،دار ماركيز للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2020العراق ــ البصرة، ص21

(27) رواية : ساق الفرس، : ص334.

(29) ينظر: المعجم النقدي لعلم الإجتماع،بودون بولير،ترجمة: سليم حداد،ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، ط1،1986م،: ص137 ــ 138

(30)رواية لعنة ماركيز، ص30

(31)تذكار الجنرال مود، رواية،ضياء جبيلي،دار بوهيمي، الجزائر،2018،: ص50

(32) رواية: المشطور ص: 22 ــ 23

(33) الإغتراب في حياة المعري وأدبه،د. حسين جمعة، مجلة جامعة دمشق،سوريا، مجلد 27، ع 1 ــ 2، 2011: ص26.

7-09-2021, 12:24
عودة