الرئيسية / غربة الشاعر موضوعًا في النص الأدبي الحديث / د. وسام حسين العبيدي

غربة الشاعر موضوعًا في النص الأدبي الحديث / د. وسام حسين العبيدي


    يمتلك النص الأدبي المتفرّد مفاتيح إبداعه لا على نحو الشكل فحسب، بل على نحو المضمون أيضًا. وتفرّدُ الشاعر في موضوعه لا يعني دائمًا أنْ يطرُق أبواب الغرائبي والعجيب من الموضوعات حتى يفوز في رهانِ الشاعرية، وإذا كان كلّ من استطرد في موضوعٍ بِكرٍ لم يُسبق إليه يمثّل إبداعًا يُحسب لصاحبه، لكان لنا في شعراء العصور المظلمة – كما أُطلق عليها- الذين تناولوا الحشيشة موضوعًا في أشعارهم، أو النرد أو رثاء الحيوانات من قبل شعراء العصر العباسي الثاني، أو لنقترب من القرن العشرين، ونجد مثل الزهاوي والرُّصافي الذَين وظّفا أكثر أشعارهم في نظريّات علمية وكشوفاتٍ مختبرية لم تُطرق من قبل في ميادين الشعر، مثل هذه الموضوعات، لا يصحّ لنا – ونحن نقيّم الشعر بمنظور جودة التناول وخصب النظرة إلى الموضوع- أنْ نجعلها مسبارًا لكشف شاعرية فلان من الشعراء على مجايليه، فضلاً على من سبقوه، فالجودةُ حين يفلق الشاعر بحربة حرفه جزءًا من الموضوع، فيعرضها علينا بثوبٍ قشيب يُغري متلقّيه بما يبثّه فيهم من صدمات لا منظورة، بل تأخذ مداها منهم على الأمد الطويل بفضل تلك الذبذبات الناشئة من إشباع ذهن المتلقي بالصور المدهشة التي تكهرب أفق التلقي لديه كلّما يُسرح فكره متأمّلاً ما في نصوص الشاعر من لوحاتٍ معبأةٍ لا بالصُورِ فحسب، بل بجودة التناول الذي يحفر عبره الشاعر هويّته المائزة عن هويّات الآخرين.. وإذا أردت تمثيل تلك الحالتين اللتين تقرّبان الصورة بين المبدع والمتلقّي، فالأوّل حاله كالسهم الذي وصفه المتنبي العظيم (تكسّرت النصال على النصال) أي النصل الذي يشقّ قلب النصل السابق ليثبت حضوره، وفي المقابل ينسخ ما قبله من تجارب، فيجعلها شاحبة المعنى لا حظوة لها عند المتلقّي في ظلّ تلك الوفرة الإبداعية التي أسّس لها في تجربته الشعرية الناضجة، أما الآخر – أي المتلقّي- فحاله كعصفور أبي صخر الهذلي (كما انتفض العصفور بلله القطر) وهذا الانتفاض إنما يمثّل ردة فعل طبيعية للكائن الحيّ حين تقع عليه تلك القطرات من الندى، أما المتلقّي فينتفض إدهاشًا دائميًّا بمجرّد سقوط قطرات حرف الشاعر المبدع عليه، وتلك الهزّة الجمالية أشار لها الزهاوي في بيته الشهير:

إذا الشعر لم يهززك حين سماعه     فليس خليقًا أنْ يقال له شعرُ

هذه البداية كانت بوصفها تمهيدًا للولوج في تجربة الشاعر جبار الكواز في مجموعته الجديدة (أراك حيث لن تكوني هناك) إذ عمل عنوان المجموعة على تهشيم أفق التلقّي بجعل بنية العنوان مراوغة تلعب على ثنائية (الحضور/ الغياب) وهي ثنائية ضدّية – بحسب التوصيف البنيوي لها- تمثّل تقانة ذكيّة يوظّفها الشاعر لكسر سمة الرتابة في تناول الموضوع، ومن يُمعن تلك الثنائية يجدها لا تخرج عن دائرة الاغتراب النفسي والاجتماعي، فحضور الشاعر، إنما هو غيابٌ عن واقعه المأزوم، وغيابه إنما هو حضورٌ في ذكرياته الراحلة أو التي تمهله رمقًا يعتاش عليه بقية أيام حياته، فحين يقول:

عبر تلك الرؤية، فحين يبدأ نصّه بالقول:

    ها قد مضت سنوات / وأنت تفركين السلوى بالخوف / تتعثّرين بحجارةٍ في طريقِ نمل

أو/ بظلالٍ خاتلٍ في قوس قزح / لم تتهجّي أسراري بعد / أسئلتي العطشى تقلب رزنامة الموتى / لتعين نفسها على الإجابة / وما عادت / تنفعك في الهروب من جنة اصطياد الوقت

    في هذا النص يتبدّى أسى الشاعر وحنينه إلى ماضٍ لا يعود، وفي الوقت نفسه يتشبّث بالسؤال والبحث عن الجواب تمسّكًا منه بجدائل الحاضر، وكأن الشاعر مرجحنّ النظر بين ماضيه وحاضره، قد لا يروي غلّة ذلك الحنين مناشدته ملامح امرأةٍ تظهر مسرعةً بين ظلال حروفه وتغيب تارةً أخرى، وكأنها تقفز إلى ماضيه لا ترى في حضورها أية فائدة، فهي والوقت (الزمن) متّجهان للسفر إلى الماضي، وبهذا لا يملك الشاعر إلا أنْ يستفرغ كل ما عنده من أساليب ليبقيه إلى جنبه ليثمر بقاؤها دلالة حضور يرمّم اغتراب الشاعر عن واقعه الاجتماعي وعن واقعه النفسي.

    ولعلّ النصوص الأخرى قد اشتغلت كلّها على هذا النحو، في ترسيخ هذه الثنائية التي لعبت على وتري (الحضور/ الغياب) وبإمكاننا استعراض شاهد آخر يبيّن ما قُلناه، حين يقول الشاعر في المقطع رقم (1):

فهلا سألت: / (جدارًا متى اتّكأتِ عليه؟ / قدحًا حطّمته في عاصفة جنون / ورقًا – الأوراق كثر- ألوانها تمسح أيام الأسبوع/ بلا عطلةٍ أو جنون/ دفترًا أسنّت كلماته فصار حقلاً لبكاءٍ أصمّ/ مقهى غادره المطر نكايةً بالأوهام/ بيت شعرٍ له الأسماء الحمقى كلها / جيرانكم وهم يترصّدون خطى خيالاتهم بخطى / الغرباء / أمّي فقبرها دارسٌ في حديقة البلدية/ أبي الذي بُحّ صوته وهو يبكي كربلاء) / والآن / الآن فقط / هل عرفتِ من أنا ؟ / لقد ديف عُمري بالخسران / ولم يعد لائقًا لملاعب الرياح / كل ما أكتبهُ في هذي الأيام / لا طعم له / بسواكِ.

    يختزل النصّ حيرة الشاعر واندهاشه لما صار إليه زمانه عما كان عليه من قبل، بدءًا بأول كلمة: (هلا سألت) التي قد تتلامح دلاليا وتتناص مع بيت عنترة بن شداد الشهير:

هلا سألت الخيل يا ابنة مالكٍ .....    إن كنت جاهلةً بما لم تعلمِ

    وأرى أنّ الشاعر لم يتناصّ فقط بهذه الكلمة مع الشاعر، بل تناصّ معه في حالته الاغترابية التي جعلته يُمسك بتلابيب السؤال، ويرى غربته في قومه أقرب الناس له، فلا يجد من يبلسم جرحه، ويثني عليه، إلا الخيل، تلك الحيوانات التي تآلفت وصليل سيفه في المعارك، فكان مؤنسًا لآذانها، أما شاعرُنا الكوّاز، فقد توحّدت ذاته مع مفردات يومه المعيش، فكان الحائط، والقدح المهشّم وأوراق الدفتر، أو بيت شعرٍ وصفه بالحُمق لما فيه من معانٍ تترجم معاناته في زمنٍ يتسلّى بالمعاناة، فكانت كل تلك شواهد على نقائه وحضوره في المكان، ولا يخفى أيضًا أن الغياب كان لاعبًا أساسيا في هذا النص، فكانت خطى الخيالات الراحلة برحيل أصحابها الغرباء، وقبر أمّه الدارس في حديقة البلدية، أو صوت أبيه وهو يبكي أشجانه التي تحكي مأساةً متواصلة الحضور

21-08-2021, 20:24
عودة