عن رواية لبابة السر لشوقي كريم
{ ‘بابل أحرقت وجودها بالخوف‘[2]، لعل هذه الجملة القصيرة/ الكبيرة\ تُمثِّل ثيمة رواية طويلة قياساً لما يجري في هذا الزمان؛ من نشر روايات قصيرة نسبيا؛ فهذه الرواية/ (لبابة السر) التي نحن بصددها\ نحو من 464 صفحة من الحجم المتوسِّط؛ مما كلَّف كاتبها عنتا، فقد شغلتْه طويلا/ كما يبدو\ وأهمَّتْه كثيرا، حتى كتبها بالطريقة التي قد يبدو جانب منها في هذا الموضوع المتواضع المتنبِّه إلى المهيمن الأكبر على الرواية، ألا وهو الخوف، وماذا يُهيمن على (العراق) العزيز، ومجمل الأقطار العربية/ عبر المائة سنة الماضية، والخمسين سنة القادمة\ غير الخوف؟!
إنه المستقبل الغامض؛ المتجذِّر في تاريخ بائس؛ يحلمون بالرجوع إليه:- ‘أمواج تحرك أعماق هاديس وتجعله ينهمر بنداءات متوجعة، متوسلا أنليل[3]، بأن يسهم بإعادة الفتى رفيق الصخور والحروف إلى عالمه المتوسل انتظاره، يمورُ سن[4] برذاذ الضوء وبحزن تمطر مدامعه ظلمة سرمدية، سن أيها الإله الطيب قبل لنا فتانا الذي أذهبه البوح إن أنت رأيته‘[5]، فمَن (هاديس) هذا الذي يتوسل الراوي العليم؛ على لسانه إلى (أنليل)، أن يُعيد الفتى الرفيق للصخور والحروف إلى عالمه المتوسل انتظاره؟!
(هاديس) هو إله العالم السفليِّ/ الذي لعله يُحبُّ المرقومات، والحكّائين\ مع ملاحظة أن (نابو)؛ هو شيخ الكُتّاب/ أو إلههم\ في (بابل)، وقد تجنَّبه المؤلِّف الفاضل، لكن إذا تأمَّلْتَ اسمه؛ وجدْتَ شيئا غريبا، فلو حذفْتَ السين من اسم (هاديس)، لَصار (هادي)، فهل الهادي/ عند المؤلِّف\ إله العالم السفليّ، أو خازن النيران؟!.
مَن يدري؟!
أما الإله الطيب (سن)/ إله القمر\ فمطلوب إليه أن يُقبِّل الفتى نفسه؛ الراوي للحكايات المعتادة ليلاً؛ المعروف في بابل؛ والذي تعرفه حتى الجدات.
إنه/ إذاً\ كاتب/ راقم\ ليس متعاملا مع الصخور والحروف/ المقاطع\ فقط، لكنه رفيق لها، فهل تستطيع هذه الصخور/ بما عليها من حروف\ أن تُعبِّر عن كل ما يجيش في قلب الفتى الكاتب؟!
لا شك في أن الصخور/ الرُقُم\ والحروف/ المقاطع\ ليست سهلة التحضير، كما هو حال الرسالة/ الحكْي\ الذي ينتقل من قلب الحاكي/ المرسِل\ إلى قلب المتلقّي/ المرسَل إليه\ بغضِّ النظر عمّا إذا كان الحاكي متعلِّما؛ قادراً على قراءة الرُقُم المسمارية، أم لم يكُن\ فالحكْيُ أنسب، بل أسهل/ كذلك \ على الحاكي، والمحكيِّ له، لكن الرقامة/ الكتابة\؛ أخلد.
ولعل هذا الفتى الكاتب الحاكي/ الذي يطلبه (هاديس)، ويُرجى من (سن) أن يُقبِّله\ إنما هو روائيُنا (شوقي كريم)/ صاحب رواية (لبابة السر)، التي بين أيدينا\ فهل هذا معقول؟!
لعله معقول، وهو ما ستكشف عنه الرواية المكوَّنة من رُقُم لا يصفها (شوقي) (ب(الطينية))، لكنه يكتفي بكلمة (الرُقُم).
أما أنت/ ولأنك متلقٍّ حاذق\ فستكتشف/ في مجرى نهر الرواية\ أنها رُقُم طينية غير موصوفة؛ تُقدَّم كما لو كُنْتَ بإزاء رواية لمنقِّب عن الآثار؛ يروي لك أخبار تنقيباته، وترتيب نتائجها، أكثر من أن يُحاول ترتيبها بحسب وقائعها، فلعل الترتيب من مهامِّ غيره، فقد لا يكتشف الآثاريُّ رُقُم الموضوع الواحد؛ مرتَّبةً رقيماً بعد رقيم، ألا تراه يُعنون ما يُشبه الفصلَين الأول والثاني برَقَمّي رَقيمَيهما، بينما يُعنون ما يُشبه الفصل الثالث من الرواية بعبارة:- ‘الرقيم الرابع 3‘[6]؟!
لقد كان الرقيم الرابع؛ ثالثا في ترتيب الاكتشاف، وبهذا، وبأمثاله/ مثل الرقيم الأخير ‘الرقيم الحادي عشر- 17-[7]\ سيشعر المتلقّي باضطراب في الرواية؛ يحتاج فكرُه إلى تصويبه، فكم هُم الذين سيصلون إلى الترتيب الوقائعيِّ الصحيح للرواية؛ عبر تصويب ترتيب الرُقُم؟!
بل مَن الذين سيعملون على إعادة ترتيب الرُقُم، وقراءتها بطريقة جديدة؛ أكثر دقة؟!
أشعر أن (شوقي)/ إلى جانب عمل الآثاريين\ استلهم أسلوب ترتيب القرآن الكريم، وطريقة تدوينه/ كما هو بين الأيدي\ فهناك مصاحف قرآنية كريمة؛ تضع السورة القرآنية الكريمة، حيث ترتَّبت مصحفياً/ لا بحسب أماكن النزول، أو أزمانه\ لكنها تُحدد مكية السورة الكريمة، أو مدنيتها، بل تذكر الآيات القرآنية المكية، والأخرى المدنية؛ داخل السورة الواحدة/ إن كان في السورة تداخل بين الآيات المكية، والأخرى المدنية\ ومثاله:- سورة (الماعون)[8]، فمَن من المفسِّرين الكثيرين للقرآن الكريم؛ أعاد قراءة القرآن الكريم؛ على أساس أزمان النزول، وأماكنه، لا على الترتيب الحالي؟
لو أمكنتْ هذه القراءة، المعادة الترتيب، فلربما تتغيَّر مفاهيم كثيرة؛ مستقرّة في الوقت الحاضر؛ مثل هذا/ بلا تشبيه\ يقال، لو أُعيد ترتيب (لبابة السر)/ كما قدَّمها المؤلف\ لا بهذا الترتيب، فسيخلق قراءً لا حصر لهم، وتأويلات للرواية وأحداثها، لا تنتهي، لذلك، فسيصعب على أيٍّ منا نحن المتلقّون العاديون أن نزعم أنا على أيِّ مستوى من تصوُّر الحقّ، لكنها قراءتنا للرواية، وقد لا يكون للكاتب إلا قيادتنا إلى هذا الطريق القرائي الوعر؛ قاصدا أن نختلف حتما.
هو/ الروائي\ لا يُقدِّم نفسه مجرَّد حاكٍ/ راوٍ عليم\ كما لا يخلق راوياً عليما ينوب عنه، ولا اكتشف مخطوطة يُحققها، مناقشاً كما فعل سواه من المحللين النفسانيين[9]، أو الروائيين[10].
إنه جعل نفسه مدوِّنا مسماريّا؛ يتعلِّم الكتابة المسمارية، ويُدوِّن الأحداث، عن طريقها، فهو يُقدِّم نفسه ناقلا، أو مترجما لما تمَّ تدوينه من هذه الرقُم غير المنظمة إلا على أساس من اكتشافها، لا على أساس ترتيب وقائعها بعد تدوين مؤلِّفها الحقيقيّ، البابليّ/ الذي يتقمَّص روحه\ لها، وكيف تترتَّب، وقد مرَّ (العراق) المسكين، بما مرَّ به، وجرى لشعبه ما جرى؟!
‘وبهدوء جليل يترجل[11] من مركبته العظيمة، ينفض غبار رحلته اليومية ويؤشر إلي، تطير روحي مثل حمامة،وتغمض نفسي خوارج أبصارها، فجأة أجلس إليه سيدا بزي إله، لكنه بسيط ببساطة رعاة بابل وزراع حقولها ويقول- لم جئت يا شوقيا؟‘[12]
فمَن (شوقيا) هذا؛ الموجَّه إليه السؤال؟!
هل هو (شوقي) كريم الذي يقودنا في هذه الرواية؟ أم هو (شوقي)؛ مضافا إليه ألف، ليخرج اسمه من العربية، ويقترب من البابلية؟!
ولماذا جاء باسمه بعد عتبات الرواية؟!
أليس لأنه/ مثل غيره من الأدباء والعلماء المعاصرين\ يشعر بالغبن والإهمال في بلده؟!
ومع ذلك، فلعل للأسماء ما لها في هذه الرواية؛ مما تمَّت مناقشة بعضه/ (هاديس)؛ (شوقيا)\ وقد يجد بعض آخر منها؛ مناقشة مناسبة.
ويتحدث (شوقيا) عن الإله (سن) وإليه عن أسئلته، ‘لم ابتسم آخذا بهدوء عظمته قال:
- يا فتى، ارتياد الطريق يعني أن ترى ما يحيط بحضورك..والاختيار معنى الإحاطة واستشراف كنه السؤال.. بين يديك حضورات بابل كلها‘[13]، فبهذا تبدأ تجليات إله متصوِّف، وإن تظاهر بالمعرفة:- ‘ولدي أيها الفتى شوقيا.. الطين خلاصك.. الطين خلاصك.. الطين خلاصك
تنغمر نفسي بمطر الإثارة‘[14]، (سن) يترك فتاه لخواطره، فما المقصود بثلاثية (الطين خلاصك)؟!
ماذا في الطين؟!
وأي طين؟!
هنا لا يصفان الطين، كما لا يصف (شوقي) الرُقُم، لكن الرُقُم؛ متلوّة بالأرقام، فبماذا ينبغي للمتلقّي/ المرسَل إليه\ أن يصف الطين؟!
هل يصلح أيُّ طين، لأيِّ شيء؟!
هذا غير ممكن طبعا، فما أهمُّ ما على أنهار (بابل)/ (العراق)\ من طين؟!
إنه الطين الحرّيُّ النبيل؛ الذي صيغ منه إنسان (بابل الكريم)، ورُقُمها المسمارية الرائعة.
إذن، ففي الطين الحريّ/ الذي قد لا نعود إلى وصفه\ أشياء كثيرة منها (الزراعة)، وأي شيء أهمُّ من الزراعة لخلاص الشعب البابليّ، وابنه الشعب العراقيّ؟!
لولا الزراعة، فمن أين يأكلون؟!
وبماذا يُتاجرون؟!
وماذا يلبسون إذا لم يزرعوا القُطْن، ويجدوا ما يحمي الحيوان في الشتاء؛ من شَعْر وصوف ووَبَر؟!
إنهم يعدّون يوم (جزَّ الصوف)؛ عيدا.
الموضوع خطير، حتى أنهم جعلوه موضوع (أغنية سومرية) إذ تغنَّوا به/ حزانى\ حين قالوا يوم مات (تموز):-
‘لقد سقط القدح محطما
ولم يعد ديموزي على قيد الحياة
وذهبت الحضيرة أدراج الرياح‘[15]
إذا ما مات (ديموزي)، وذهبت الحضيرة أدراج الرياح، فلماذا يبقى القدح؟!
ما الحاجة إليه؟!
القدح مهمٌّ حينما يعيش (ديموزي)، فتُمطر السماء، وينزل الماء، وتسلم الحضيرة.
حينما تتناسل حيوانات الحضيرة، فتتوالد، ويكثر الحليب.
عندما؛ تكون الأرض خضراء معشبة، وأشجارها مثمرة؛ ما عليها؛ قابلٌ للأكل والعصر، فالقدح مهمّ للمشروب؛ من ماء، أو معصور، أو محلوب، فما أهميته حين ينهار كل شيء؟!
لماذا لا يسقط؟!
لماذا لا يتحطَّم؟!
مَن الذي يحميه من السقوط، فالتحطُم؟!
ولماذا يحميه؟!
هل من فائدة فيه؟!
الطين مهمٌّ للزراعة، لكن أليس مهمّا لشيء آخر؟!
إذا ما انتعشت الزراعة، ألا تحتاج إلى الأقداح المصنوعة من طين؛ يُشرَب بها الماء، والحليب، والعصائر، ولا سيما الخمور؟!
مَن هذا الخزّاف العظيم/ الذي سيصنع من الطين\ الدنان/ لحفظ المعصورات\ والأقداح لكل هذه الأمور ؟!
وما هي هذه الدنان والأقداح؟!
يقول (عمر الخيام)في إحدى رباعياته التي ترجمها (أحمد رامي):-
رأيْتُ خزّافاً رحاه تدور يجِدُّ في صوغِ دِنان الخمور
كأنه يخلط في طينها جمجمة الشاهِ[16] بساق الفقير
فمَن هذا الخزّاف الدائب؛ الذي تدور رحاه على طول الزمان، جاداً في صَوْغِ دنان الخمور، لا صنعها؟!
وما دنان الخمور هذه التي تُصاغ، ولا تُصْنع؟!
وأية حكمة بالغة؛ في خلط جمجمة الملك، بساق الفقير فيها؟!
ماذا أراد (الخيام) أن يقول غير أن هذا الخزّاف العظيم؛ إنما هو الله تعالى، وأن دنان الخمر؛ إنما هي الناس، وأن الخمر نفسها؛ هي نفس دماء الناس؛ تلخيصاً لما جاء في رباعيات له أخرى؟!
هنا نفهم/ من (شوقي)\ أن الطين هو المادة الأولية التي حقق (الخيام)أن الله/ تعالى\ صاغ الناس؛ منه، ألم تسمعه/ تعالى اسمه\ يقول:- (خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ)[17]؟!
فاستعمال الرَجُلَين (الخزّاف) و(فخّار)؛ لله/ تعالى\ شأن إسلاميّ تصوُّفيّ؛ على اختلاف ما بينهما من شأن.
بعض الطين، لصياغة الإنسان، لكن بعضه الآخر، للْبِناء، فكيف تبني بدون طين حُرّيّ يتحوَّل طابوقا مفخورا؟!
وكيف تُلصق هذا الطابوق المفخور مع بعضه، بدون طين؟!
الآلهة والملوك والأثرياء كلهم؛ محتاجون للطين كي تبنى معابدهم الضخمة، وقلاعهم الفخمة، وأسوارهم الحصينة، وقصورهم العظيمة، وحتى الفقراء/ الأحرار منهم، وغير الأحرار\ يُغطون أكواخهم بالطين الحُرّيِّ كي لا يتخلل قصبها المطر في الشتاء، وحرارة الشمس في الصيف، فما أعظم الطين؟!
لكن هناك شيء آخر؛ يمتاز به مَن يمتلك الطين، لو امتلك القدرة على التعامل معه، ذلك الشيء المهمّ؛ هو الكتابة المسمارية،ف:-
‘تلك حقيقة...
الرقم...
التواريخ...
الرواة...‘[18]
وحول الحَرْف؛ يجري حوار حارٌّ عميق بين (شوقيا) والإله (سن):- ‘ – الغواية.. شوقيا... الغواية هي التي تؤسس استجماع شاسع المقاصد، لا تبقي وحدتك شاغرة لكي تستعيد دوما شكل الامتلاء!!
- وكيف يكون لي هذا، سيدي؟
- يكون شوقيا... يكون إن أنت هيمنت على استجلاء الحرف!!
- أو لا تساعدني في هذا أيها الضامن للنماء؟
- أساعدك.. ومتى تخلى رب بابل عن رعياه؟‘[19]
إذن، فرب (بابل) حكيم/ بغض النظر عن طيبته أو عدمها\ لا يتخلّى عن رعاياه، فلو تخلّى عن رعاياه، فماذا يبقى له؟!
بل مَن ذا يبقى له كي يعبده ويُقرِّب له القرابين؛ في المعابد/ التي يبنيها\ أياً كانت؟!
إنه/ لأول مرة في الزمان\ يمنح رعاياه الحكمة، باستجلاء الحَرْف، حين تمكينهم من الكتابة التي تُقيِّد لهم العلوم؛ إلى جانب الذاكرة، فالكتابة أقرب لحفظ العلوم، لأنها أكبر من ذاكرة الإنسان مهما اتَّسعت، كما أنها أبقى من الإنسان، وأخلد، فكم من البشر سافر أو مات؛ آخذاً ذاكرته معه، لكن بقيت كتاباته/ أو ما كُتِب عنه\ مخلِّدة له، ولعلمه؟!
ألست تحفظ قوله تعالى:- (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ*عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[20]؟!
إنه الأكرم، لا لأنه منح الإنسان الطعام/ على أهميَّته\ ولا لأنه منحه الماء/ على قيمته\ ولا لأنه منحه الهواء الذي لولاه، لما بقي لحظات؛ على قيد الحياة، وهي أمور مشتركة؛ منحها للإنسان، ولسواه من الكائنات الحية، كالحيوان والنبات، لكنه الأكرم، لأنه (علَّم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم)، فتصوَّر.
إنه يتوفِّر ل(شوقيا) كاتب/ معلم\ يصبر عليه حتى يُمكِّنه من الكتابة المسمارية.
صحيح أن (شوقيا) يرتجف حين يمسك بالإزميل، لأول مرة، لكنه يتمكن/ بالتجربة والخبرة؛ من كتابة (ديموزي).
نعم؛ هو (ديموزي) رمز الحياة؛ أول ما يكتبه؛
نعم إنه يختبر الكتابة/ الرقامة\ ويُجرِّبها بذكر الحياة، لكن ما قيمة الطين المرقوم عليه؛ إذا لم يجد مَن يفخره؛ تيسيراً لمَن يقرؤه؟!
الفخّار؛ مهمٌّ للطين، وكيف لا يكون مهمّاً، والإله الأعظم؛ يصنع الإنسان نفسه من طين مفخور حتى لَيؤكِّدُ (عمر الخيام)/ بترجمة (أحمد رامي)\ كون الله/ تعالى\ خزافاً حين يقول:-
هَوى فؤادي في الطِلى والحُباب وشجْو أُذْني في سماع الرَباب
إِنْ يَصُغِ الخزّافُ من طينتي كوْباً فَأَتْرِعْها بِبَرْدِ الشَراب
فما طينة (الخيام)/ الإنسان\ غير جسده؟!
أما برد الشراب، فَلَك مناقشته بأن تراه الدم المحيي للكائن الحيّ، أو أن تراه شيئا آخر
وقوله:-
مَرَرْتُ بالخَزّافِ في ضَحْوَةٍ يَصوْغُ كوْبَ الْخَمْرِ من طيْنةٍ
أَوْسَعَها دَعّاً فَساءلْتُهُ هل أَقْفَرَتْ نَفْسُكَ من رَحْمةٍ؟!
فهو يرى الطين كائناً حيّاً يستحقُّ الرقّةَ والرحمة، أليس يصوغه صائغُهُ إنساناً، أو يصوغه لإنسان؟!
كذلك الرُقُم، لا بد لها من أن تجد مَن يفخرها/ يصوغها\ وإلا ضاعت فيما يضيع من الطين غير المفخور، بل كم ضاع على البشرية؛ طين مفخور؛ حين تحطَّم أو تكسَّر، أو ضاع، فيما ضاع، أو سُرِق/ سواء كان إنساناً أو فكرا\ ناهيك عمّا لم يجد مَن يفخره، بل لم يجد مَن يُخرجه من فكره؟!
إنها أسباب عديدة لضياعه مفخورا، فكيف حينما لا يجد مَن يفخره ويفاخر به؟!
قد تخلو رُقُم الرواية من عنوانات، وقد تأتي عنوانات داخل رُقُم، ولا أريد التحدُّث عن كل شيء، فهناك أناشيد؛ شغلني منها نشيد الإنشاد[21] العنوان المحيل إلى التوراة، حيث (سليمان الملك) المشغوف بالنساء، والذي تتحدى حبيبته بنات (أورشليم)؛ أن يجدْنَ مثله، فلعله ملك مغرور؛ يتغنّى على لسان حبيبته الموجودة، أو غير الموجودة.
أما (شوقي) فيعود بك إلى سومر، وهكذا تبدو المفارقة بين الفصل الجاذب، والقصد المجذوب إليه.
وتتنقَّل بين المسلات والأسفار، حتى لترى مسلة سفرا هي ‘مسلة الحفظ؛ سفر الانهماء‘[22]، ألا تراه يجمع بين بعض ما في التوراة من مسمَّيات/ أسفار\ لِيربطها بمسلّات (سومر)؛ مستفيداً من أفكار رجال سبقوه في التنبيه إلى أن التوراة؛ أخذت من التراث البابليِّ والسومريّ؛ ما هوَّدتْه، ونسبتْه لبني إسرائيل، وممن سبقه إلى ذلك (طه باقر)، و(خزعل الماجدي)، وغيرهما.
إنها سياحة جميلة؛ في دروب ضيِّقة.}
[أنت أيها الطالب الغرّ/ كما وصفك (شوقي)\ كم ستتحدّى الزمان، حين ستبقى تتحدَّث عن الطين؟!
أنت؛ تزعم أنك قد قرأْتَ رواية (لبابة السر)، فتمتَّعْتَ بها، ووجدْتَ فيها ما وجدْت، فأين ما أمتعك؟!
بل أين ما وجدْتَه ممتعاً أو غير ممتع؟!
ومَن (شوقي كريم) هذا الذي أضجرْتَنا به؟!]
{هي أسئلة عديدة، فعن ماذا أُجيب؟!
أما (شوقي كريم حسن)، فهو من الروائيين العراقيين المعروفين؛ المنشغلين بالرواية والقصة القصيرة؛ انشغالا واضحا مع أن له أعمالا إذاعية وتلفزيونية ومسرحية؛ تُحسَب له، وتستحقُّ أن يتمَّ تسجيلها في تاريخه بمداد ذهبيّ...}
[تقول هذا مع أنه يعُدُّك تلميذا؟!]
{نعم أقول هذا لأنني كُنْتُ تلميذاً وما أزال، وسأبقى تلميذا حتى أموت، بل حتى بعد أن أموت، فحين أُلحَد في القبر/ لو وجدْتُ قبراً\ فسيقف على رأسي ملقِّن معلِّم، ليقول لي:- "يا عبد الله العاصي إذا جاءك الملكان الكريمان، فسألاك:-..." ويطرح عليَّ أسئلتهما، وواجبي في الجواب، فحتى ما بعد القَبْر، فأنا تلميذ، فماذا بقي من العمر، لا يكون فيه الإنسان تلميذا؟!
ومَن ذا الذي يعصي الملقِّن على المسرح، أو في جوف القبر؟!
فإذا ما انتهَيْنا من ذلك قُلْت:- إنما أقول ذلك، لأنني أرى (شوقي) كاتباً روائياً شغوفاً بالرواية التجريبية؛ مما أمتعني، فلم أجد له روايتَين؛ تسيران على طريق واحد من حيث الفكر والأسلوب، لأنه مبدع في هذا الباب، ولأنه قلق، لا يصبر على حال، فإذا ما قارنّا بين روايته (الشروكية)[23]/ مثلا\ و(لبابة السر)، وجدْنا اختلافاً واضحا في الأسلوب ووسائل السرد، كما رأينا اختلافاً في الأهداف، وإن لم نجد اختلافاً في الموضوع لولا اختلاف الأسلوب، ف(الشروكية)/ التي كتبْتُ عنها شيئا ما[24]\ توشك أن تُعبِّر عن غزوة (شروقية)؛ مهزومة من الإقطاع؛ مأزومة من أثرياء المدن؛ تُغير على نساء المدينة/ قبل ثورة الرابع عشر من تموز\ فتنجح في اكتساح بعض مَن تكتسحهنَّ من ثريّاتهنَّ المأزومات؛ المحرومات جنسيّا.
وإذ قرأْتُ تلك الرواية؛ تصوَّرْتُ غزوات العرب للنساء الأوربيات، ففي (فرنسا)؛ كان (توفيق الحكيم)/ في (عصفور من الشرق)[25]\ و(طه حسين)/ في الأيام[26]\ حيث تزوَّج من (سوزان) الفرنسية، كذلك شهد (طه حسين)/ في (أديب)[27]\ على هزيمة صديقه الأديب الذي غزا نساء فرنسيات، فانهزم أمام تافهة منهنَّ جميلة.
أما (بريطانيا، فكان فيها (الطيب صالح)/ في (موسم الهجرة إلى الشمال)[28]\ و(سعد محمد رحيم)/ في القطار إلى منزل هانا[29]\ وغيرهم، وهكذا فلما فشل الشرقيون في الصمود ضد الجيوش الغربية وعملائها، غزَوا نساء الغرب، ففاز ببعضهنَّ/ من فاز\ سفاحاً، أو زواجاً، أو انهزم أمامهنّ مَن انهزم، بحسب الظروف والأحوال، حتى إذا لم ينجح بالحصول على شيء، اكتفى بالمعرفة؛ مجرَّد المعرفة، فإذا ما جئْنا إلى (الشروقية)/ المهزومين أمام الإقطاع والثراء\ وجدْنا مَن يستحوذ خجِلاً على امرأة مدنية مأزومة.
أما إذا جئْنا إلى (لبابة السر)؛ وجدْنا ما لعله عرض آخر لمشكلة المنهزمين القرويين الفقراء؛ أمام عظمة المدينة، ف(الشروقية)؛ هُم فقراء الريف المطحونون؛ سابقا، ولاحقا؛ في الريف والمدينة.
أما فقراء (لبابة السر)فهُم الفقراء الذين صاروا حكّاما فعلا، أو بالقوة، فبطل (الشروقية):- بائع نفط، أما بطل (لبابة السر)، ف(مردوك)/ كبير الآلهة\ والأرباب الصغار الذين ولدهم تناسله، والذين شاركوا في افتضاض بكارات العذارى المدنيّات ظلماً وعدواناً.
إنهم حكّام (بابل)/ (العراق)\ الذين يُهاجمون النساء، ورجالهنّ، منذ 8/ شباط 1963/ بل ما قبله\ من جهات متعددة، فالموت؛ طاغٍ على الأبناء، والأزواج، والإخوان، والأحباء، وكل الرجال الذين تهتم بهم النساء، فالقتل، سائد فيهم؛ فقراً أو تشريدا، أو اغتيالاً/ خارج السجون\ وتعذيباً أو إعداماً داخل السجون، أو في الحروب،‘وبعنف شيطاني تندفع إلى جوف الجثث ناشلة أكباد أولائك الذين غادروا مسرات بابل بقناعة الوصول إلى عالم هاديس السفلي والشكاية إليه، كنت أبصر الأكباد تطير بتثاقل‘[30]، وكم تتمنّى الكثيرات منهنّ لو يشملهنّ الموت؛ تخلُّصاً مما هُنَّ فيه؟!
بل كم شملهنّ الموت بالفعل، أو بالقوة؟!؟!
‘(بيل شاحر) وجه أعرفه جيدا.. معجون بهيبة مردوك ومعطر بروائح المعابد العشر، كانت بابل تجلس بين يدي غوانيه برضا عروس فرعونية منكسرة طائعة ولكن ثمة في القلب أوجارا من النيران الشابة ليل نهار‘[31]
‘وإذا كان مردوك قد أعلن براءته من روح حضورنا الإنساني، الروح التي قربت بين قدميه المشلولتين أنهارا من الأضاحي وغسلت جمجمته برافد من دم البكارات النقية، فلم انهزمت توسلات ((بيل شاحر)) وسبحت في أنهار آثامها التي أحالت بابل كلها إلى قيح وصديد وبكاء صامت مخذول...‘[32]
فافتضاض بكارات فتيات (بابل)/ العراق\ طقس يُمارسه عُبّاد (مردوك)/ البعث\ فبدلا من دماء ذبائح القرابين الحيوانية للآلهة؛ تُسفَك الدماء الإنسانية/ رقاباً وبكارات عذارى\ لآلهة/ حكام\ عاجزين، أو معجَّزين إلا أمام الشعب الأعزل، لكنهم ساديون؛ تشغفهم دماء القتلى، وسفك دماء العذارى وبكاراتهنّ، وإلا فماذا فرض على أهل (مردوك) في عام 63، وما جرى بعد ذلك في السبعينات، وما بعدها من سنين الأزمات والهزائم المنكرة؛ من سفك دماء الناس؛ إلى جانب دماء بكارات العذارى الشيوعيات، والشيعيات، والكرديات، وسواهنَّ من نجيبات (العراق) الكريم، ودماء أهليهنّ، حتى لم يبقَ في (العراق) آمن؛ مع احترامنا لمَن يظنُّ الأمن في تلك الأيام القاسيات، فحتى ما جرى بعد 2003، فمن تدبيرهم، إذ مَن الذي استقْدم (القاعدة) و(داعش)/ فاحتضنهم، ثم قادهم\ غير البعثيين، وإن انقلب القاعديّون والداعشيون عليهم أحياناً، فاستخدموهم؟!
ومَن غيرهم دَلَّ فاسدي ما بعد 2003 على قوانين الفساد، وأرشدهم إلى ثغراتها؟!
نعم؛ هُم أظلم مَن عرفه (العراق)، لأنهم ورثوا كل تراث الظالمين الأشرار؛ ممَن حكموا (العراق)، ولم ينسَوا سواهم من الظالمين، حاكمين وغير حاكمين، فالرواية تُذكِّرك ب(جلجامش)، وهو يفتض/ ظالما\ بكارة كل عروس قبل زوجها، وقد تُذكرك بما كان يفعله (فطيون)/ ملك (يثرب) قبل الإسلام\ بعرائس (يثرب)، إذ كان يأتيهنَّ قبل أزواجهنّ، حتى أثارت إحداهنَّ/ أخت (مالك بن العجلان)\ ثورة ناجحة ضده، أدَّتْ بأخيها إلى قتله، فكأن(لبابة السر)؛ تسير بين هذين التاريخَين وما بعدهما؛ مُقرِّرةً أنه ليس الملوك وحدهم؛ يلغون في دماء بكارات العذارى، لكن وصلوا حتى أن كلابهم؛ صاروا يفعلون ذلك، لا قبل العريس، لكن لكي تعترف المظلومة، بما لم تفعل، ومما عبَّر عن ذلك رواية( ابتسام نعيم الرومي)/ (طوارق الظلام)[33]\فأي ظلم أكبر من هذا يُعبِّر عن جانب منه كتاب:- (المنحرفون)[34]؟!
من هنا، ف‘ما الذي يمكن أن يفعله متسولو بابل وشحاذوها وسدنة البغايا، بعد أن غادرنا الإله مردوك وتتبع خطواته مئات الآلهة المحروقين بالانكسار؟!!‘[35]
هُم، لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا؛ نتيجة التخاذل، والضياع والتجهيل اللذين فرضهما الظالمون على الفقراء والمطحونين.
إنه شعور المؤلِّف بالخذلان، فهل ينخذل الشعب؟!
قد ينخذل يوما؛ يومضين، بضعة أيام، لكنه لن ينخذل على طول الزمان، لا بد له من أن يكتشف الحقيقة، وأن يعمل على الانتصار لها وإن طال الزمان، فالصراع مستمرّ.
لقد سلكت الرواية إلى هذا؛ مسالك عديدة/ شعراً منثوراً، أو قصصا قصيرة داخل رواية، أو رواية ملحمية، أو ما إلى ذلك\ فماذا أدرس من (لبابة السر) هذه؟!}
[ادرسْها جميعا.]
{لو درسْتُ كل هذه الأمور، وسواها، فسأحتاج إلى كتاب كبير، ووقت غزير، ثم ماذا سأترك لسواي؟!
لعل كل هذه الموضوعات؛ مما يجد مَن يُعنى به، فماذا بقي في (لبابة السر)؟!
لقد بقي فيها الكثير، ففيها أسماء، لعل النظر إليها بعين النقد؛ يُلفت النظر إلى ما لا يسهل النظر إليه؛ خصوصا من القارئ العاديِّ/ التلميذ\ مثلي، ففي البداية؛ يتصوَّر القارئ العاديّ؛ عنوان الرواية؛ عتبة عادية؛ في أفضل الأحوال؛ قد تُعبِّر عن تورية لها معنيان؛ أحدهما ظاهر؛ واضح لكل متلقٍّ، وثانيهما خاص؛ يحتاج لتشغيل فكر.
وواضح أن هذا المفهوم/ من الناحية الظاهرية\ غير وارد، فهل للسر من لبابة وقشر؟!
بل ما لبابة السر؟!
وما قشره؟!
وأين يوجد كل منهما؟!
هذه أسئلة مكتوب عليها:- (من دون جواب).
فهل يوجد مَن ينظر إلى الباطن، بحيث يتمكَّن متمكِّن من الوصول إلى لباب السر، بدون نزع القشر؟!
حسن؛ هذا هدف مقنع ف كل رواية جادة، فأين العمل الروائي الجاد الذي لا يُحوج متلقّيه إلى إعمال الفكر، للوصول إلى المقصد في الرواية؟!
وما أحلى اكتشاف سر الرواية؛ منذ قراءة العنوان؟!
إن ذلك يدلُّ على أن المكتشف؛ تلميذ ذكيّ.
إذن، فليكُن ما ورد سابقاً؛ مفتاحا من مفاتيح الحكاية، ولتكُن رواية جادة؛ محتاجة إلى اكتشاف ما تحت قشرها من لباب، فهل هكذا هو (شوقي كريم) الطيب القلب؛ المتقلِّب اللعوب/ روائيا\ كما عرفْته يُلاعبنا بمكر؟!
ما دام لاعباً ماكرا، فلأتماكر معه بعض تماكُر.
هذا العنوان؛ لم تُفكَّ شفرته بعد، فهل عليَّ أن أقرأ هذا الكتاب الكبير؛ كاملا قبل فكِّ شفرته، واكتشاف سره؟!
هذا ممكن، لكن ما دام الراوي لاعبا ماكرا، فلماذا لا أمارس معه بعض المكر؟!
الأديب/ في جانب من جوانبه\ طفل يلعب، والرواية لعبة جميلة، لا بد من معرفة قوانينها، لإحسان لعبها مع اللاعب الأول الذي هو الأديب، و(شوقي) ذو قلب طفل، فلماذا لا أتفاعل معه نقديّاً، بأسلوب طفل؟!
حين كُنّا أطفالا في المدْرسة الابتدائية؛ قد أعجبنا علمنا، وظن أحدنا أنه بلغ الفرقدَين علما، فقد ازددْنا تعالما، ورُحْنا نقلب أحرف أسمائنا لاعبين، ف(خليل) يُصبح (ليلخ)، فما أسخفه من قَلْب!
و(هاشم) يصبح (مشاه)، فأي جمال في هذه الكلمة المقلوبة؟!
(كاظم) يُصبح (مظاك).
إنها لعبة سخيفة، لكنها/ بالنسبة لنا جميعاً\ كانت جميلة، مع أنه كان يتضايق من هذا القلب مَن يتضايق، ويضحك منه مَن يضحك، وكُنّا نُماحك المنزعج، فنتشدد معه، فكُنا نزيد التلاعب في كلمة (هاشم)/ مثلا\ لِتُصبح (هامش)، ليس هامش غير المتن، لكنه من هَمَشَ.
ما أجمل أن ينزعج زميلي من تسميته (هامش)!
لعله يشكوني، ولعله يضربني، وهو ما أتوقَّع أن يفعله (شوقي)، فقد عُدْتُ إلى طفولتي/ التي لم أغادرها\ لأقلب/ بلا سبب غير طفوليّ\ عنوان هذه الرواية، فإذا به مشكل، ففي إحدى كلمتَيه (لبابة) تاء مربوطة، وهي أحد حرفَين كانا يُضايقان تعالمنا، هما التاء المربوطة، والألف المقصورة، فأين تضع أيا منهما إذا كانت في كلمة مطلوب قلبها؟!
وكيف تلفظها؟!
حين قلبْتُ (لبابة السر) صار عندي (رسلاة بابل)؛ تُرى هل هذا مقلوب مقبول؟!
لا معنى ل(رسلاة)/ على حد علمي اللغويَّ المتواضع\ فماذا أفعل؟!
(شوقي) خذلني في أول اللعبة، فهل أنهزم؟!
كيف أنهزم من الانهزام أمام (شوقي)؟!
لم أجد غير اللجوء إلى شيء من التجريد، فليس المفتاح كما يجب، وليس من مهام الروائي؛ جلاء المفتاح من الصدأ دائماً؛ خصوصاً إذا كان رمزيا تجريديا، فماذا لو قدَّمْتُ الألف على اللام في (رسلاة)؟!
إنها تُصبح (رسالة) فإذا أضفْنا إليها (بابل) صارت (رسالة بابل)، وبهذا؛ قد يشتعل مصباح نقديّ للرواية، ف(رسالة بابل) إلى مَن؟!
إذن، ف(شوقي) يتحدّى طفولتنا؛ يجرُّنا إليها جرّا، يدعونا للعودة إلى ما كُنا عليه، نُسمّي (هاشم) (هامش)، فنضحك لما نفعل، وربما نشكى من أجله أو نُضرب، فماذا سيفعل (شوقي)، إذا اكتشف أن طفولتنا هي التي فكَّت شفرته، واكتشفت سرَّه في (لبابة السر)، فصيَّرتْها (رسالة بابل)؟!
فإذا ما قَبِلْنا فكرة قَلْب العبارة، فلماذا لا نلجأ إلى ما هو أيسر، وربما هو أقرب؟!
إنه (لبابة السر)؛ أم (لبابة السحر)؟!
ما هو السر هنا غير السحر؟!
وما هو الأشهر في (بابل) من السحر؟!(وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[36]
ليس هذا مهمّا، لكن ما هو أهم منه إنما هو بقية الأسماء؛ هل يتقدَّم بها على حقيقتها، أم يتلاعب بمتلقّيه؟!فماذا يمكن أن يُصبح (ديموزي)؟!
هل يُصبح (يزوميد) مثلا؟!
و(نبوخذ نصر)؟!
هل سيُصبح (رصنذخوبن)ماذا نفهم من هذا؟!
ثم إنه اسم ملك، هناك شخص مهم آخر هو (بيل شاحر)
هل نقلبه ليكون (رحاش ليب)؟!
هل هناك كلمة بابلية أو سومرية، بهذا الشكل، لها معنى؟!
لعلي لا أخطئ إذا تصوُّرْتُ (شوقي)، يتلاعب ب قارئه الذكي، فبعض أسمائه؛ صحيحة: كالذي تقدم\ مما يُشكِّك في تلاعبه، لكن بعضها الآخر؛ يمكن التفاهم معه عبر التلاعب به، فقد تقدَّم أنه أضاف حرف (السين) إلى (هادي)، فصيره (هاديس)/ إله العالم السفلي\ وأضاف حرف (الألف) إلى اسمه، لِيُصبح (شوقيا)/ وهو اسم شخص من المتقدِّمين في الرواية[37]\ أيضا، فما له لا يتلاعب في أسماء أخرى مثل:- (مردوك)؟!الشخصية الأهمّ؛ المعروف عند الجميع بأنه رب الأرباب في (بابل)؛ حسن إنه (مَرْدوك)، لكنهم يُقدِّمونه في الكتب العربية على أنه (مردوخ)/ ب(الخاء))\ وفي العربية؛ يحدث تقديم حرف على حرف، أو تأخيره، فلو تقدَّم (د) (مردوخ) على (الراء)، لصار (مدروخ)، والدرْخ؛ شدة المرْد، فلْنقُلْ أن (شوقي) يُقدِّم الكلمة، كما لو كانت بابلية، لكن في لعبة الكلمات؛ جائز كل شيء، فماذا سيكون عندنا لو استبدلْنا سكون الراء، بفتحة؟!
سيكون عندنا (مَرَدوك)، ثم قد نفهم:- (مَرَدوك يا مدروخ)، نعم لقد مردوه قبل أن يموت، ألا تراهم أخرجوه من حفرة، ثم عرضوه على شاشة التلفزيون، بشكل لا أريد أن أصِفَه، وإن ذكرتْه بعض منظمات حقوق الإنسان، واستنكرتْه؟!
نعم، ف(لبابة السر)؛ رسالة بابل)، و(مردوك) (صدام حسين) المدروخ الذي يقول له الروائي الفَطِن/ مرارا وتكرارا\ (مَرَدوك)، فهل يفهم سواه؟!
أستبعد ذلك، فكم تكلَّم الحكماء، فمَن سمعهم من المتغطرسين؟!
وكيف يسمع المتغطرسون، وقد مدحهم مادحوهم من الشعراء الذين عبَّر عنهم الروائي ب(الكهنة)؟!
دعوْنا من المحدثين/ مثل (صدام حسين، وشعرائه المنافقين\ ودعونا من (سيف الدولة)، وشعرائه المتزلِفين، وغيرهما من المخدوعين، ألم تحفظ قول (جرير) ل(عبد الملك بن مروان):-
ألستم خير مَن ركب المَطايا وأَنْدى العالمين بطوْنَ راحِ؟!
هُم يزعمون أنهم مسلمون، فهل (عاد الملك) قد ركب المطايا، وهو أفضل من رسول الله (صلعم)، وأكرم منه؟!
ودعْنا من غير رسول الله (صلعم)؛ من أصحاب وأحباب، فحين يسكر الظالم بمثل خمر المدح هذا، فما يُدريه بما يجري في الحياة؟!
ولأنه لم يعلم بما يجري في الحياة، ‘كيف سولت له نفسه وهو الرب العارف بأن يتخلى عن صولجان ربوبيته ويمنحه سنابك الخيل وجنون الخيل العطشى إلى سمرة الأجساد ووجع اللذة؟ بر مسكين مردوك هذا أعلن عجزه فاحترقت بابل وغدت في لحظة زمن خارج حدود الزمن مجرد لا شيء..‘[38]
‘لقد مات مردوك.. وربما وجد في جوف عالمه الفعلي أنثى لمعالم الخوف فبدأ يتناسل سريعا لينجب أربابا من المخاوف والآثام، أربابا صغارا لكنهم أبدا يجعلوننا نتذكر أن الرب الأول كان وهما تحيطه هالات من التراتيل التي صنعتها عقول كهنة منتفعين، ‘[39]
وحينما يحدث له ما يحدث، فمَن ذا الذي يُعاتب الشعب المظلوم؟!
مَن الذي يُعاتب أهل العذارى النجيبات اللاتي انتُهِكت أعراضهنَّ بعد سنة 63، أو ما جرى بعد السبعينات في السجون، وبسبب التشريد ، والتهجير الظالم بين الألغام؟!
مَن الذي يوقف غيض الأيتام، والأرامل، والأيامى، والثاكلات والمشرَّدين، والمعتقلين، والمغيَّبين، والمهجَّرين، وسكان المقابر الجماعية، بعد ما جرى من انتهاكات عبر السنين، وبعد ثماني سنين من الحرب؛ لم تكفِ الظالم، لكنه أكملها بدخوله حرب (الكويت)؛ متَّهما (العراق) بها، ومحمِّلا شعبه أوزارها، حتى ليقتل الأطفال بالحصار، ثم يتسوَّل بموتاهم اللقمة؟
بل لقد دفع الشعب دم قَلْبِه/ نفطا\ حتى وقت كتابة هذا المقال؛ في الأيام الأخيرة؛ من شباط، والأولى من آذار، 2021، حيث زار البابا (فرنسيس) (العراق) المسكين، فبثّوا لشعبه الكثير من الآمال الكاذبة، فماذا سيفعلون حين لا تتحقق هذه الآمال؛ تماما كما لم تتحقق آمال الناس، بالاحتلال الأمريكي؟!
‘لكن الإله مردوك الواهم، سحل عينيه إلى الوحدة فجعله يفر إلى التيماء، تلك الخرائب التي عمرتها سواعد المحبة لتجعل منها ألقا دائما، ومهرجانا يردد ليل نهار محاسن التوحيد،وحكمة النور‘[40]
هل انتهى الأمر بهذا؟!
هل انتهى الأمر بكذبة التوحيد؛ المراد بها كذبة الوحدة إذ غزا (الكويت)/ التي ساعدتْه في الحرب الإيرانية؛ ماديا، ومعنويا\ بدل التوحُّد؟!
وأين الوحدة العربية التي قامت، ثم نجحت، بغضِّ النظر عن التبريرات غير الموفَّقة؟!
لقد كفَّر الظالمُ الناس، حتى صار الإنسان يخاف من أن يُعرَف بالمُصَلّي، فإذا به/ على حين غِرة\ يُصبح قائداً للحفلة الإيمانية؟!
المهمُّ أن يكون قائدا، ف(الإمارة، ولو على حمارة، أو حجارة)، وهذه الانتهاكات وسواها؛ تُثمر ولادات رعناء؛ تُنتج أرباباً صغاراً ظهروا في بيئته، لكنهم كبروا حينما مات/ سقط\ حتى صار بدل صدّام واحد ظالم؛ ما لا يُحصى من الصدامين الظالمين؛ وحتى خربت البلاد، فاقترضت الدولة رواتب حكامها مرتَين في عام 2020، فماذا سيحدث بعد هذا؟!
تُرى لو كان (مردوك) نظيفا؛ أحسن التدريس، وأنضج القضاء، والعراق بلد ولّاد؛ فيه من العقول والثروات؛ ما لو تم استثماره استثمارا حسنا، لما احتاج إلى ثروات سواه، كما لم يرغب مَن جاءوا بعده بالاقتراض، بل أرادوا البدء من الصفر،
‘وبابل تريد البدء من اللا شيء للوصول إلى لب أزل الاكتشاف‘[41]
فهل هذا ممكن؟!
وماذا يمكننا أن نقول؟!
‘صورة الخاتمة
على الرغم من كل الجنون... وما حدثتني به المنايا والشجون... أمسكت أزميل كهولتي وانتميت إلى كل ما يمكن أن يجعل للسؤال جوابا... قادرا على أن يبوح بفعل المستحيل!!
أنا شوقيا.. البابلي المنشأ.. السومري الفكرة والتكوين.. ابن نفر وكيش ولكش وأوروك وآشور.. أدون ما يمكن تدوينه.. لكني أبدا... أبدا أظل مشدودا إلى فكرة قالها حلم قد مضى...
- يال أرض السواد... كم أنت عامرة بالرجاء!!‘[42]
انتهت
في غرة يوم 13/ 2/ 2000‘[43]
نعم؛ كانت رواية مفعمة بالجنون، وبالمنى وبالمنون؛ دوَّنها عراقيّ؛ يزعم أنه بابليُّ النشأة، سومريُّ الأحاسيس؛ يرث كلما للعراقيين؛ من مآثر، ومآسٍ، كل هذا صحيح؛ صحيح أنه روى آلاما عراقية رآها، ثم صوَّرها بطريقة لم يرَها، بل تخيَّلها؛ كانت مؤلمة؛ شديدة على النَفْس الإنسانية، حتى ليختنق القارئ؛ يتصوَّر أنه لا أمل، أو أنه بلا أمل، لكن تأتي جملته الرائعة:- ‘يال أرض السواد... كم أنت عامرة بالرجاء!!‘[44] إنه الأمل المرجوّ، بل المؤكَّد في (العراق)، وأبنائه.
هي خواطر أثارها (شوقي كريم حسن)، وأفكار أطارها؛ عبر روايته المثيرة المدهشة؛ المستثمرة للتراث البابليِّ الذي تستَّر به لِيقول ما قال، فارّا من أن يقوله بوضوح الصريح، وله الحق، فلكل روائي ما يراه مناسبا، لأن لكل رواية؛ ما يُناسبها، فبورك جهده الروائي الأثير الذي لا يسمح لي بأن أُصدِّق آخر سطرَين كتبهما في الرواية:- ‘انتهت
في غرة 13/ 2/ 2000[45]\ لأن جانباً من الرواية؛ يصف نهاية (مردوك)/ صدام حسين)\ كما حدث بصورة رمزية، وهو ما جرى بعد ذلك بسنين، وإنما فكَّرْتُ في هذا، لأن الرقم، لا يسهل قَلْبُه، فهو ينتهي بثلاثة أصفار، لعله يُريد أننا عُدْنا لا إلى الصفر، بل إلى ثلاثة أصفار، وهو أمر محتمل،ف(شوقي) يلعب مثل هذه اللعبة، وهو يستثمر تاريخا آخر مهماً ضمن هذا التاريخ، فالرواية تنتهي في غرة 13/ 2/ أي في أنحس يوم من أيام شباط؛ المذكِّر بشباط 63، ومَن يدري، فلعل له في هذا اليوم النحس؛ من ذلك الشهر العبوس على العراقيين؛ ما له مما لا نعرفه، وإن كُنّا نتوقَّعه،لذلك فقد أشار إليه، أو رمز له، وهو أسلوب ليس غريبا على (شوقي)، فهو يستخدم تاريخ 556 قبل الميلاد[46] لما جرى في بداية الرواية/ حيث انهيار (بابل)\ ولو قَلَبْتَ هذا الرقم، لوجدْتَه غريبا، فهو يُشير إلى 655، وهو تاريخ قريب جدا؛ من تاريخ سقوط الدولة العباسية في (بغداد) حيث سقطت في عام 656 بعد الهجرة، فهل أمكن تصوُّر الإشارة؟!
وإذا نظرْنا إلى هذين التاريخَين الدالَّين على سقوط، ثم نظرْنا إلى التاريخ الذي انتهت به الرواية، لو