كتب بول كلي : (اللون يمتلكني إلى الأبد، وأنا أدرك ذلك، أنا واللون متوحدان. أنا رسام)
ويقول الشاعر الكلمات تمتلكني الى الأبد، وأنا أدرك ذلك، أنا والكلمات متوحدان، انا شاعر، هذا ما دونه الشاعر عمر السراي في ديوانه (وجه ٌ إلى السماء .. نافذة ٌ إلى الأرض) الحائز على جائزة الإبداع عام 2016 والصادر عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق عام 2016 والذي ضم 421 صفحة و189 قصيدة، وتم تصنيف الإصدار الى ثلاثة أجزاء :1-ربطة عنق: احتوى 31 قصيدة.
2-حداد ابيض: 71 قصيدة. 3-دراجة هوائية: 77 قصيدة.
الديوان مليء بالقصائد الجميلة و المعبرة وبمجمله يعتبر ملحمة شعرية فريدة تجمع بين الروحي والوطني والقومي و الإنساني , وسنجد أن الشاعر عمر السراي ومن خلال لغة شعرية متلاحقة يدون بشغف و رغبة لا تهدأ وجدانه الشعري فواصل تضعنا بين الشعر و الملحمة المتجهةً إلى الأبدية , فكلنا نتوق الى البدايات، حيث الخلق، النشوء، التكوين الهائل والكثيف في بساطته، الى المعرفة والوصول حيث يبدأ الشعر الذي هو كالزمن مطلق لا تأسره الا الكلمات, ففي مفتتح ديوانه سنقرأ قصيدة (الآن أتم ُّ صلاتي) والتي هي المحور الأهم و المهم في الديوان الممهورة بجمالية الإبداع والابتكار , و سنشعر بالإشراقات الأولية للحضور حتى قبل أن تدخل في نطاق وعينا , فعندما نقرأ الكلمات وهي تتناسخ وتنسخ الزمن فتستيقظ حواسه فينا بينما قوة الشعر مصحوبة بطاقة غامرة تبلغ ذروتها في تأكيد مطلقه ويمكن اعتبارها البصيرة أو العين الداخلية التي يمكن أن نقرأ القصيدة من خلالها ، هنا حيث حضورهم أول الزمان مع الفجر الأول، قبل أن يبدأ الدرب، التدوين، التاريخ، الحضارة، الإنسانية فسار فيهم لكنه ضل اذ رحلوا , و سنجد أن هذا الحضور الجليل سينمو كطوفان الرغبة للفكرة بالحضور في الكلمات و روحها المليئة بالمعاني الآخذة في التشكل
الآن أتم ُّ صلاتي
لم يبدأ الدرب ..
كانوا قبله ُ وصلوا
فسار َ فيهم .. وضل َّ الدرب َ إذ رحلــوا
هم يحملون َ عصا الأيام خـــارطة ً
هم يــُـحمـَـلون ..
وما عن ظهرهم نزلوا
كما لو إن الكلمات تعيدنا الى ذاتنا الأولى، وأننا التقينا بقصد يتخطى ما يظهر جليا في أثير هذه اللحظة الان في هذه الصور كالصعود نحو الفجر، فجر البدايات وفجر سلالات، نحن القادمون الى الفجر مع القصيدة، ونتساءل هل الذين حضور كتبوا هذه القصيدة أم أن الشاعر كان من الذين حضروا.
بـهم تـلـوَّن خـد ُّ المـاء أضرحــــة ً ولم يطـوفــوا ..
فطـافت حـولــه ُ القـبـل ُ
ترجـَّـلوا ..
فاستفاق النخل ُ في دمهـم
فمن رأى وطنا ً في النخل ِ ينشتل ُ ..؟!
صاغوا قلوبا من الأحزان فارتحلت عيونـهم زورقــا ً في النـزف و اكـتحـلـوا ..
الغيم ُ مشـَّـط وجه الأرض مذ يبست ..
و عندما جف َّ وجه الغيم .. هم هطلــــوا
قد تكون القيمة الإبداعية لهذه القصيدة التي بوسعها أن تذهب بعيدا ودون أن تتوهم أنها صارت ملحمة فهي كما يقول عبد الغفار مكاوي في الجزء الأول من كتابه ثورة الشعر الحديث "ما زلت أؤمن بأن في كل عمل فني عظيم شيئا يستعصي في نهاية الأمر على التفسير"
نحن نختبر هذا التناثر الذي يحرضنا الشاعر عمر السراي للاستجابة اليه، فنستجيب إلى ما تمليه علينا القصيدة بغريزتها الشعرية، فهو ينجح في ابتكارها، لأنه يعرف كيف يقاربُ الحياة بالكلمات خصوصاً أن هذا النص المستفيض والمتعدد الحالات يدخل حيزاً رمزياً، وسيميائياً، وفي متوازيات تؤكد عنصر الزمن وحضوره في الحياة
فهذا الدفق الشعوري والامتداد الروحي وما يفترضه الشاعر علينا في قصيدته، يجعلنا نعتقد نحن والكلمات لا زلنا في بداية النشوء، التكوين، الملحمة نبحث عن عشبة الخلود التي فقدها كلكامش ماديا لكن امسك بها في ملحمته، لذا كان الشعر هو الامتحان الأزلي للكلمات في بحثها الدائم عن الخلود، فهي تبحث عن الحياة الحقيقية، وتضعنا أمام إشكالية الوعي بالوجود وسؤال الكينونة الملح في هذا الوعي
وفي قصيدة (أبـــجدية السُّهاد) الشاعر يموسق الفكرة من خلال الكلمات، فيقدم لنا برهانه الشعري الساحر والفاتن ويضعنا في حالة دهشة دائمة ونشوة صوفيه ونحن نتتبع نسغ الشعر العميق والذي يسري في جسد القصيدة
أبـــجدية السُّهاد
تَمَوْسَقَتْ..
فاستفاقَ النجمُ حين غفا..
على وسادةِ رمشِ الليل..
والتحفا..
بُسكَّر..نشر اللبلاب.. بسمتــه
زوارقاً من دموعٍ..
قلبها ارتجفـا
وفي المقطع الرابع من قصيدة حواء ص304 يذكرنا الشاعر بلوحات إدغار ديغا الرسام الراقص كما يقول بول فاليري
تقفز ُ راقصة ُ الباليه ..
فوق النغمات ..
تتدحرج ُ من فوق الـ ( دو ) ..
تتزحلق ُ من أعلى الــ ( ري ) ..
تتلوّى بين المفتاح ِ إلى المفتاح ..
والقلب ُ فقاعات ٍ من قدّاح ..
يقفز ُ من أشعاري نحو النغمات ..
يتركني ..
فأظل ُّ أسير َ الكلمات ..
ستجدنا نتتبع هارموني داخلي ينسجم مع الوحدة الفنية للقصيدة في لحظة الموسيقى الشعرية التي تؤكد حضورها ويقينها يسيطر على كل شيء ، فتظن راقصة الباليه أنها الموسيقى ويظن الشاعر انه المايسترو بعصاه / كلماته يحرك الدهشة بخفة حركة أقدام الراقصة ، كما تحاول راقصة البالية الانفلات من الجاذبية الأرضية تحاول في النص الانفلات من الجاذبية الشعرية للكلمات ، فالكلمات لم تعد تقيدها الى المعاني وهذا ما سيثبته الشاعر ايضا في قصيدة المنيكان هذه القصيدة التي ستؤكد ايضا أن التشكيل المذهل هو المدى المتموج بانبهار لرؤية الشاعر التي تطغي على الكلمات ، فالشاعر يزاوج بين الحركة والكلمات والموسيقى و بين الجمال والرشاقة
مانيكان
و كانت تدور ..
فيغمزها الضوء ..
وحدك َ كنت َ محاطا ً بهن َّ ..
و كانت بهن َّ وحيدة ..
الغيم ساعدها كي تقود َ النوارس نحو انحنائك في غمرة ٍ لقصيدة ..
وفي قصيدة صفير سنجد ان هذه القصيدة امتداد للوحات ادوارد هوبر يرافقها الاحساس بالخوف الوجودي الذي تجسده لوحة الصرخة لادفارد مونك فهي رغم عنوانها العالي والحاد كالفراغ بين نغمتي هو المدى المتموج في سيمفونية بصرية نافذة الى القلب منفلته من لامحدودية المعنى، لان كل شيء يتشكل فيما وراء الكلمات
صفير 423
القطارات ليست الوسيلة الوحيدة للرحيل ..
لكنها المسافر الوحيد الذي تقيده ُ قدماه ُ في حزامين من حديد ..
ولأن الغربة رسم ٌ على أجفانها ..
تراها تصرخ ُ ..
كلما همــَّــت بالابتعاد ..
أو لوَّحت لوجوه ٍ جديدة ..
وفي قصيدة قبلة ممطرة نشعر أن الشعر أصبح بمتناول القلب وكأننا الحلم الذي يتراءى للكلمات وصور أفكارنا تظهر على أثير الضوء الذي يعلن عن نفسه في المعاني يفرغ اللون منا ويصوغه موسيقى للمطر
هذه القصيدة تعتبر أقرب الى لوحة انطباعية
قبلة ممطرة
في الصباح الذي قبــــَّــــلتــــــُـــك ِ فيه قرب شرفة ٍ ممطرة ..
كنت ُ أظن ُّ بأننا سنطير ُ معا ً ..
كصفحة ٍ في قصة ٍ أسطورية ..
و أن الضوء َ سيسلط كبقعة ٍ علينا فقط ..
و أن الموسيقى ستكون ُ أكثر نعومة ً من خد ٍّ يحمر ُّ ..
في الصباح الذي قبلتــــُـــــك ِ فيه قرب شرفة ٍ ممطرة ..
تجربة الشاعر
قرأت في جمالية الديوان أن ليس الكلمات ولا تشكيل الصور، لكن قدرة الشاعر التي تحولنا إلى كائنات شعرية تحاول أن تقبض على اللحظة في عوالم أخرى من الحقول الواسعة للأحلام
فالناظر الى تجربة الشاعر عمر السراي من خلال ديوانه سيجد أن قصائده تعتبر معادل شعري لتشكيل لوحة فنية، وانه اثبت ان اللغة الحية هي التي تأخذ من الحياة وتكون الوسيط بين الموهبة الشعرية ومتلقيها