رغم كون المدرسة ذلك الوقت حديثة المعرفة بالنسبة لمعظم الناس ، الاان اندفاع بعضهم الى ادخال ابنائهم الى المدارس كان شيئا مفرحا نظرا لقناعتهم التامة بعدم جدوى الكتاتيب بمواكبة العلوم التي كانت معروفة ذلك الوقت.
والمدارس على قلتها كانت تستوعب الراغبين في الدراسة بل تلح على ادخالهم قاعات الدرس وهذا دلالة على حرص ادارة المدرسة واولياء امور التلاميذ على استيعابهم وحثهم على مواكبة العلم في العالم ..
وخير مثال على هذه المدارس هي مدرسة العوينة الابتدائية التي عايشتها . فمدرسة العوينة من المدارس التي كانت مفخرة بتربيتها وانظمتها واساليب تدريسها ففضلا عن انها كانت من المدارس المتميزة في مجال التعليم في حينها ، فقد امتازت بهندسة بنائها وبحديقتها ونافورتها ومساحتها الكبيرة التي تتسع للرياضة والكشافة .
الاانه من المؤسف ان المهندس وكان هندي الجنسية الذي اشرف على بنائها لم يأخذ بنظر الاعتبار انخفاض الارض فيعمل على دفنها وتعلية الاساس ، مما ادى بعد ذلك الى غرق الساحة والحديقة بالمياه الجوفية معظم ايام السنة ، ناهيك عن مياه الامطار مما يتعذر على التلاميذ ايام الشتاء مواصلة الدوام والدراسة احيانا ، فتظطر ادارة المدرسة الى غلق الصفوف الارضية ودمج الصفوف والتدريس في الطوابق العليا ، كما تظطر احيانا الى نصب مضخات المياه لسحب المياه الراكدة.
كان البرنامج اليومي فيها يبدأ صباحا دون تاخير ، اذ كان التاخير والغياب عن الدوام اليومي مدعاة للمحاسبة وربما للعقاب اذا كان بدون سبب . وفي كل الاحوال كان اولياء امور التلاميذ يخبرون بغياب ابنائهم وربما استدعت الادارة ولامر التلميذ للاستفسار منه عن سبب التاخير او الغياب .
يبدا البرنامج اليومي للمدرسة بالاصطفاف ، كل صف بمجموعة على حدة ثم يتم فحص الهندام والاظافر فحصا دقيقا ، وقد شملتني مرة عقوبة الضرب بالمسطرة نتيجة طول اظافري ...
اما عند انتهاء الدوام فقد جرت العادة ان تتبدل السياقات الى نظام الفرق حيث يتجمع التلاميذ من جميع الصفوف المختلفة بنظام الكراديس وكل كردوس يسمى فرقة حسب مواقع ومحلات بيوت التلاميذ ، فكردوس يضم (محلات سراج الدين ، الصدرية ، التسابيل ، باب الشيخ .. الخ ) وكردوس يضم ( محلات الاتون ، العوينة ، الهيتاويين ، صبابيغ الال ، القشة .. الخ )
وكان يشرف على نظام الانصراف مشرف عام يكلف احد المعلمين بضبطه ولكل فرقة مراقب من التلاميذ ومن الغالب ان يكون اكبرهم سنا واضخمهم حجما وعلى الاكثر يكون من تلاميذ الصفوف الخامسة او السادسة .
وفي اول يوم دخلت بمدرسة العوينة وكنت في الصف الاول الابتدائي ... اوقفني اخي الكبير مصطفى ( كان في الصف الخامس ) في كردوس صبابيغ الال وذهب لاستعارة كتاب من احد زملائه في الصف فما كان مني الا ان غادرت الكردوس وذهبت الى الكردوس الثاني .. وما ان سرنا بضع حطوات حتى شاهدت اخي وهو يسير في الكردوس الثاني .. لذا خرجت من الكردوس الذي كنت اسير فيه لاذهب الى الكردوس الاخر واذا بالمراقب يمسك بي واراد معاقبتي لولا مجئ اخي مصطفى حيث افهمه بانني التحقت في المدرسة هذا اليوم ولاعلم لي بالنظام .
كان المدير والمعلمون يراقبون التلاميذ داخل المدرسة وخارجها فمثلا في صباح احد الايام واثناء الاصطفاف الصباحي وقف مدير المدرسة ( المرحوم عبد القادر وجدي ) وقال : لدينا سفرة الى هور رجب على الدراجات الهوائية فمن يحسن ركوبها ويستخدمها عليه ان يخرج في الساحة وتسجيل اسمه ، فخرج قسم من التلاميذ وسجلوا اسمائهم وما ان انتهلى من تسجيل الاسماء قال : اسمعوا لقد علمت ان بعض التلاميذ يتسكعون في الشوارع على الدراجات الهوائية ، انني انذركم ان من يشاهد منكم يتسكع في الشوارع على الدراجة الهوائية سيعاقب ( ان هذا لدليل على حرص الادارة والمعلمين على حياة تلاميذهم ... رحمهم الله جميعا ) .
اما صباح يوم الخميس فيكون مخصصا لتحية العلم حيث يصطف التلاميذ على شكل مربع في الساحة التي في وسطها سارية ملفوف عليها العلم العراقي ، ثم يختار معلم الرياضة ثلاث من التلاميذ موعزا لهم بالاتجاه نحو العلم وبعد وصولهم سارية العلم يؤدون الثلاثة التحية ، بعدها يتجه الطالب الذي في الوسط الى رفع العلم ببطء تدريجيا واحيانا يقرأ احد التلاميذ كلمة او قصيدة وطنية ثم نقرأ جميعا قصيدة تحية العلم ومطلعها
عش هكذا في علو ايها العلم فاننا بك بعد الله نعتصم
واخيرا يوعز المعلم المسؤول التوجه الى الصفوف .
هذا مظهر من مظاهر بداية الدوام ونهايته في المدرسة.
ولا ننسى حرص المعلمين كافة على اغناء التلميذ بالمادة العلمية وبذل الجهود المشكورة والمضنية بنفس الوقت لمتابعة التلاميذ لمدى استيعابهم للمادة .. وكنا نجد مدى تألم المعلم في حالة تقصير الطالب لدروسه بعد كل الجهد المضني فيأخذه باللين والارشاد تارة وبالقسوة الابوية الحنونة(ان صح التعبير ) لغرض رفع مستوى التلميذ العلمي . كما كان الدرس لايخلو ايا كان هذا الدرس من لمحات توجيهية تصب في باب الاخلاق والادب وحب الوطن واجلال الكبير والعطف على الصغير ومراعاة حرمة الجار ... الخ من مفاهيم اخلاقية وتربوية .