الرئيسية / هندسة العتبات النَصية و سِر تشفيرها عند الشاعر علي فرحان - عدنان أبو أندلس

هندسة العتبات النَصية و سِر تشفيرها عند الشاعر علي فرحان - عدنان أبو أندلس

تمهيد :

إن التَطلع والتصدير لأي إصدار ما ، يبدو من النظرة الأولى بأن التحسس الأولي يكمن في ماهية هذا الإصدار من حيث صورة الغلاف التي تتجلى أمامه في التصميم والتخطيط ، كذلك العنوان الراسخ والبارز ذهنياً في تناوله ، كلاهما يستنبطان أي ” التصميم ، التخطيط ” يستعاران من المتن التغطية الكاملة لجسد النصوص ” صورياً ، فاللغة غير المرئية – غير الناطقة – نتحسسها من خلال الخطوط والأشكال المتداخلة ” 1. هنا نلاحظ إصدارات الشاعر”علي فرحان ” التي اعتمدت على التطابق والمقاربة والتناص اليومي حسب ظروف الحياة التي واكبها من تضاد \ مقاربة \ مفارقة \ غرابة في التسمية ، كي يتعرف القارئ بأن ما يمور بأعماقهِ يتجسد مثل البصمة \ الاستنساخ = كتابة ، أو السماع \ المشاهدة = رؤية ، لذلك الغطاء ، وهذا ما يُطلق عليه بـ العتبات الكاشفة ، والتي حسب ” جيرار جينيت ، المنطقة الفضائية ” والتي تمثل مجموعة البيانات المحيطة بجسد النص وتشكل غطاءً خارجاً ”* 2 والمفاتيح التي تدلنا إلى داخل المسار الذي نتناولهُ حين الولوج لأية هيكلية ما ، لابد أن تواجهنا بنية التصدير الأولية وهي ” العتبة الخارجية ، العنونة والتصدير، واجهة الغلاف الأولية ، والتي أعني بها ” العنونة “. .

نبدأ من المحمولات التي قد تستوقفنا كي نتمعن اكثر في التشخيص ، ثم بعدها نمضي قُدماً كإشارة مرور لمعرفة ما تؤول إليه العملية الإستكشافية نحو كنهة المتن المضمر . ، وما الغرض من ذلك هو التمهيد الأولي بغية الدخول بيسر لهذا المعترك الفاعل في مشهدية النص ، وما العتبات النَصية إلا الحقل الإستدلالي لهذا الإستقراء العيني بذاتهِ . فالعتبات هي المثابة الأولية للإنطلاق ، هي الإشارية التي ترشدنا كي نسلك ذلك الممر المفضي إلى الدهليز لمعرفة محتوياتهِ ، فالمتن النَصي ” الخارجي – العنوان ” هو المراد والمعني من قبل المتلقي .

فالعتبة لغة : كلُ مرقاة من الدرج *3*.

أما إصطلاحاً : هو التصدير التي يصادف كل شيء .

العتبات بوصفها الإطار الخارجي :

إن لعتبة العنونة تأثير فعال في إظهار الجمالية المتوخاة ، ضمن أطار خاص يُنتقى ليأطر جسد اللوحة \ الصورة \ القصيدة جمالياً ، فهي تشكل العلامة الدالة لهُ ، تلخص ما يدور في المتن ، فالعنونة لها دور فاعل في إلتقاط الإنطباعات النفسية والحسية لدى القارئ ، لما لهما من إيحاء يجذبهُ كـ غرابة التسمية ” فالعناوين تشكل علامة دالة تُلخص مدار التجربة والأبعاد الرمزية لها ، فهي مفاتيح دلالية تؤدي وظيفة إيحائية ” 4*، نعم ؛ وتشكل الأطار النموذجي الفاعل في تغطية المتن النصي ، وحتى الأعمال اليدوية البسيطة لا بد أن يضع لها إطاراً جمالياً يضيف لها رونقاً وأُبهة ، فكيف بالقصيدة التي يحلم شاعرها بأن يجعلها عَروس فكرهِ المخيالي ،لابد أن يؤنقها \ يزوقها بـ ” العنوان ” الجميل الذي يُكسيها ، ” كي يجلب ذائقة المتلقي . ليس العنوان زائدة لغويّة في النّصّ الأدبيّ، أو عنصراً من عناصره انتُزِع من سياقه ؛ ليحيل على النّصّ كلّه ، بل هو بنيةٌ لغويّة، تتصدّر النّصّ، وتتعالق معه دلاليّاً، وهو جزءٌ عضويّ، ذو دلالة رمزيّة عميقة، بوصفه النواة التي بنى المبدع عليها نصّه. * 5 ، فهو ” العتبة القرائية \ الفاعل القرائي \ ثريا النَص ” هذه المسميات لها تأثير حتى في ذائقة الإختيار.

فالعتبات كما نراها هي سر المغلق قبل محاولة الكشف بمفتاح الدلالة ” تشكل العتبات فضاءً جمالياً في الدراسات السيميائية باعتبارها إشارات تُبشر بمحتوى النص ” وتكشف أسراره فهي مفاتيح النص الأصلي ” المتن “,6* وهي اللواحق التي تدور في فلك النص منها العنونة ، وصورة الغلاف بدءً ثم لواحقها تباعاً ، وهي تمثل أوليات الدخول لجسد المتن – النص ، فالمقدمة من أكثر المفاتيح المستعملة في فتح المستغلق. كونها عتبة تشي إلى خلاصة كاملة . يبدو إن الإخفاء والكتمان لا بد أن يأتي يوماً ويتجلى تاركاً ومضات تشي بالإفصاح ، هُناك أسرار ، وهناك مهيمنات للكشف ، فالقلب الذي يكتنز ، والذهن الذي يكشف رغم منغصات الألم التي تفتح حيناً ، وتواسي حيناً آخر.

التطبيق والإجراء .

هُنا لا بد أن نستقرئ ما توحي العتبات من رمزية وصولاً الى تشكيلات فنية حديثة البنية والتصميم والبحث في النص عما يؤول اليه التأطير الكلي ، وقد يلزمنا يقيناً من وراء ذلك قصد وبغية التاول للصورة الجامدة في ثلاثية عناوينهِ وحسب الإصدار . ليس في النية تحليل النصوص الداخلية – الفرعية – من العتبات ، بل وجدتُ غرابة التسمية وحداثة عنونتها أخذتني بغتتة وقد جرت الأمور الى الإنتفاء من التأويلات التي رأيتها حقيقة تشكل عناوين راقية في مسميات الشاعر المُبدع لما لهُ من حسٌ اخاذ في إطلاقها بتروي ، لكن بقصدي شرس صدقاً . وسأمرُ على كل عنوان بالتشريح الملائم والإستنطاق وحسب طاقتي التعبيرية الإستدلالية البسيطة .

الإزاحة في المسدس أول القتلى .

خلتهُ بدءاً يريد أن يربكنا بهذه العتبة الخارجية ” المسدس أول القتلى ” لكن في تقريب المعنى نراهُ ” آخر” القتلى ، باستلاب أو انتحار أو مصادرة من قبل مالكهِ ، فالإزاحة اللغوية بمعنى الخارج عن العُرف اللغوي للوظيفة البلاغية للغة ، فبل بد أن يتبعها نوعاً من الغموض ، يتسع ذلك كلما إتسعت مساحة الإزاحة “7*..فالمسدس رمز السلطة والقوة والإستمكان بدراية وترخيص ، لكن مسدس الشاعر يختلف عن مسدس صانعهِ الأمريكي ” صموئيل كولت ” الدوار الغادر الذي يقذف شراراً كل ضغطة إصبع ، لكن مسدس الشاعر يقذف بجرة قلم مشاعراً وأحاسيس عليا في الإنسانية والرقي ، أبارك لهُ تلك المشاعر الشفيفة رغم ذكرهِ ” المسدس ” علانية بقصدية ويريد منها أشياء قد لا نتوصل إليها عاجلاً . ربما يبادرنا السؤال ، إن كان المسدس أول القتلى ، فمن هو القاتل ؟!.. يقول :

المسدس أول القتلى * 8

من الناي أشرب لحن البلاد اليتيمة

أشرب تلويحة النوارس ظلت مذاق البحار القديمة

وأركض منه الى جنة يزرع الشعر فيها بلاداً

تضاهي الأسى المتشكل كالنخل.. يرفع قامته

فيسقط ظلُّ الحروب على ثوب أمي.

الإختباء والتمويه في ليلٌ سمين :

هندسة العتبات عند الشاعر لها صيغة تمويهية ، أراد منها مواكبة المشهد اليومي المأزوم علهُ يفصح تلك الخلجات التي يراها بعين ثاقبة ، لكنها عند القارئ المتفحص معلومة بواقع الحال الذي نعيشه ؛ ربما ، لأن دلالاتها تشي بالمعلوم ، فعنونة ” ليلٌ سمين ” تحيلنا الى أكثر من تحليل يوائم العتبة ، فـ الليل كما هو متعارف عليهِ تخبئ تحت ستارهِ كل الأشياء ، فهو مخيفٌ ومسافاتهِ بعيدة ، كم من مكان لا نتمكن الوصول اليه ، لكن في النهار نراهُ قريباً وبوسعنا أن نتجول به بكل أمان . وما جاء العنوان “جُزافاً ” لكنه قد يشكل عنونة ثلاثية مع ” المسدس أول القتلى + القاتل المجهول ” حسب ما يتراءى للمتلقي ذلك ، كلاهم ” الليل + المسدس + القاتل ” إستحضارات أولية ومقدمات لأي عمل ، لكن يؤخذ بالإستدلال عند المُحقق العدلي ..لقد أتخذهُ من باب التمويه والتعتيم معاً كي يفوت الفرصة للباحث ، قد تكون النشوة واللذة اللقاء ، وصورة الغلاف المؤطرة يبان منها تتقرفص بمسكنة وتمسكها يدان من الخلف كإحاطة وقبضة في ليل بهيم قد تفصح عن كل شيء ، وتشي إلى عدة تأويلات ؛ ربما .الترقب والإنتظار لموعد ما من أوليات ذلك ، وقد تدخل في حسابات روحية أو العكس . يبدو إن الإخفاء والكتمان لا بد أن يأتي يوماً ويتجلى تاركاً ومضات تشي بالإفصاح ، هُناك أسرار ، وهناك مهيمنات للكشف ، فالقلب الذي يكتنز ، والذهن الذي يكشف رغم منغصات الألم التي تفتح حيناً ، وتواسي حيناً آخر:.

ليلٌ سمين *9

يزدرد النساء في الشرفات

ويتلف الصبية بكوابيس تحت الشمس

أحدق في نجومه النحيلة واحفن حنطة الفراغ

مكوماً ارغفة الغد تحت ارجل البورصة

( يا حبيبي يالله ) مضت حكاياتك مع الريح , ترغو في

حناجرنا ابقار عجاف

وحدود مثل (( موسى )) الحلاق تجتث احلامنا العتيقة.

التشفير في قاتل مجهول :

يلاحظ من أن عنونة مجاميعهِ تحمل صيغة مجهولية بعيدة ، تحيلنا إلى الإبتعاد أكثر من دائرة الضوء كي لا تُكشف الخطط ويقع في المحظور ” دائرة الضوء ” المساءلة من قبل المتسلطة علينا عياناً . لهذا جاءت عناوين مجاميعهِ ” الخارجية ” تحمل هذه النزعة من التنكر إحتساباً للمستقبل ، لذا لجأ إلى ” التشفير ” المستعصي حتى لا يعطي للرقيب بصيص أمل في حلْ لغز الشفرات والتي يعتمد عليها كُلياً وكشف الحقيقة ، لكن هذا لن يحصل بيسر لأنهُ لا يعطي نفسه بسهولة كونهُ صريح وجريء لكن يتطلب الحذر ليتمكن من مواصلة التفاعل ، لكنهُ يمتلك مراوغة بحذر شديد رغم الطروحات العقلانية التي طالعناها في متن النصوص ، فعتبة الصورة أوضحها في أن القاتل غير مجهول كونهُ يتمتع جهاراً ويبان في ضوء القمر ويرتقي أعلى قمة الهرم ، فلا مجهولية إذن في معرفتهِ .

قاتلٌ مجهولٌ* 10

غيمٌ كثيفٌ والسماءُ خفيضةٌ جداً

أجراسٌ على سور القصيدة

والمِدى حُبلى بميتاتٍ

غفا رسمٌ البلاد على جدار الصبَرِ

وأوغلتْ في النوم أعراسٌ

نما نملٌ ونارنجٌ

نمتْ دُفلى و ” حلفى ” وأرتمى في الحقل

خنزيرٌ كسول .

إجمالاً يمتلك الشاعر حساً رؤيوياً حاداً في التوظيف ، وقد اجدهُ مشاكساً في بنية النَص ، وذلك لما تراودهُ حالات من الغضب والإنزعاج للواقع الماثل ، يلتقط ما تصادف مسيرتهِ الحياتية من علعلات وآلام واحزان ، ليس بالهين عما يراهُ ، فجاءت أكثر نصوصهِ مقاربة مع مجاميعهِ الثلاث عنونة ، لقد ركزتُ فيها على العتبات الخارجية ” العناوين ” والتي يستبطن فيها أكثر مما يعلن تشفيراً وبقصدية رائعة تواكب الأحداث الجارية كخصوصية فكرية يحبذها وهذا موفق بذلك ويحسب لهُ صدقاً بـ الإبداع ، ولو أني لم اتطرق تحليلاً لنصوصهِ الداخلية لكني إقتطفتُ من كل مجموعة ” نصاً ” للإستشهاد بهِ كتطعيم للعتبات والتي أراها بصمة فعالة في الكشف والإستبيان ؛ ليس إلا ، وقد ارى في فاعلية العنونة التي تأخذنا إلى مخبأ النص وحسب د. محمد صابر عبيد : ” تشتغل عتبة العنونة بإنتاجية شعرية تنطلق من العنونة بإنتاجية شعرية عالية ، في سياق الإدراك النوعي لأهمية وضع العتبات النصية في معمارية التشكيل النصي ” * 11 نراهُ يتطابق مع إدراكنا بماهية العتبات وتأثيرها على الإفصاح أكثر مما ينبغي منا إزاحة هذا الحمل الثقيل بالتأويل النهائي .

الهوامش :

1- جوليا كرستيفا ، التحليل السيميائي للنصوص الدبية ، مجموعة 10-plus ن مارس 2018 .

2- بلعاد عبد الحق ، عتبات جيرار جينيت من النص الى التناص ، سعد يقطين ،منشورات الإختلاف ، الدار العربية للعلوم ، ط1 ، بيروت ، 2008 .

3- قاموس مجاني الطلاب ، بيروت – لبنان ، 1986 .

4- مفيد نجم ، شعرية العنوان في الشعر السوري المعاصر ، السياق والوظيفة ، مجلة نزوى ،عُمان ، ا- يناير -2009 .

5- فتحي عطية ، العتبات النَصية في مجموعة عناقيد الزبد للشاعر وفيق سليطين ، صحيفة المثقف .

6- – ماجد قائد قاسم ، بحث في سيميائيىة العتبات في الشعر السوداني الفصيح ، جمالية التلقي ، جمالية العلامة وبلاغة العبارة .

7- محمد الغامدي ، الشعرية في النقد الحديث ” دراسة في النظرية والتطبيق ” إطروحة طالب الدكتورا حامد الرواشدة ، الأردن ، جامعة مؤتة ، 2006 .

8- علي فرحان ، مجموعة المسدس أول القتلى ، 2002 .

9- علي فرحان ، مجموعة ، ليلق سمين ، 2016 .

10- علي فرحان ، مجموعة قاتلٌ مجهول ، 2020 .

11- د. محمد صابر عبيد ، الفضاء الأدونيسي ، دار الزمان للنشر والتوزيع ، ط5 ، دمشق 20: 12-2-2006 .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

28-12-2020, 00:12
عودة