* السرد بتكوينه المعرفي العام، يبدأ بسؤال، وان كان هذا السؤال لايعني سوى اثارة الشك لدى المتلقي الذي سيظل ملاحقاً الثيم وتشكيلاتها الصراعية، التي تنمو رويداً، باثة بين ثناياها مقاصد نفسية، وغايات ترويجية، اخذتها من السينما بوصفها الفعل الجمالي الادهاشي الاكثر تأثيراً بمتلقيها، ومع السؤال تدور افكار الاكتشاف واحدة تلو اخرى، ولحظة تدفعها لحيظة بحث الى امام، تلك واحدة من اسرار الاشتغالات السردية التي يطلق عليها، تشخوف، القص امساك بلحظة وجع تحرك الساكن في العقل، وهذا ما يفعله احمد الجنديل، الماضي بين سرديات قصيرة، واكثرها ينتمي الى السرد الحكائي الطويل، لم اك اعرف السارد، قبل ان اقرأ له ماوصلني من سردياته الطويلة، التي بدأت معها من وكر الثعابين، العارفة بشد المتلقي الى عوالمها، كيف يشتغل الجنديل، ومن اين يستقي افكاره ليمنحها لشخوص يقينية يعرفها جيداً، وان اشار في صدر واحدة من روايته، ان مايكتبه لايمت الى الواقع بصلة، وهو محض خيال، وهذه الاشارة استخدمها الكثير كمحاولة، لابعاد الشبهات عن السارد والسردية ايضاً، من اين يستقي السارد ثيمه وشخوصه، وماهو الخيال تحديداً،؟ تلك اشكالية تحتاج الى مراجعات دقيقة وتشريحية ايضاً، لاشيء يخرج من سلطة الواقع حتى مايسمى الخيال نفسه، ولدى احمد الجنديل ، هو النبش في المواضي، او ترحيل الحاضر الى الارثيات السردية ثم النبش بين اطمارها على انها واقعاً خيالياً مفترضاً، السرد لايبتعد عن الواقع، بل لايمكن ان يكون له وجود فكري وانساني مؤثر دون هذا المستند البنائي الشديد الوطأ، من اين تجيء الافكار، واين تتحرك تلك الشخوص، لتمارس رغباتها السردية، اوليس ثمة زمان ومكان، اتراها تتحرك داخل فراغ ايهامي، خوف الاقتراب مما يمكن ان يثير الجدل الحاضر داخل العقل الجمعي؟
هذه المعظلة، رافقت الكثير من السراد، الذي اكتشفوا ان الواقع قاس، خطر، شخوصه متوحشة لاتجيد صناعة الحياة وتحارب صناعها، لذا قرروا اعتماد فكرة الترحيل والانتقال واياها الى ازمنة وامكنة تبدو افتراضية، لكن المتلقي الحاذق، العارف بتطابقات الثيم والاحداث مايلبث ان يصل سريعاً الى الغايات والافعال التي دونها السارد كوجود بعيد، مثلما رحل الكاتب مسرودته بكل مكوناتها الى زمان اختاره هو ، ومكان حدد جغرافيته هو ايضا وسير احداثه داخل تلك الاطر، سيعمل المتلقي على ترحيل الماضي بكل موجوداته ليقف واياه عند ناصية المعاش التأملي، يعمل احمد الجنديل، على تلك الترحيلات متعمداً، لانها تمنح وجوده السؤالي رحبة من الاسترخاء، وقوة ملاحظة وتفحص وتدقيق واختيار، ولهذا تأتي سردياته المدونة بلغة ايصالية محترفة، خالية من التواصيف البعيدة الغور، يقف عند حدود التأثيرات النفسية، فلايطلق حواراته ، بافعالها، الاقرب الى التوضيع المتحرك، دون اشارة لماذيات هذا الحوار ودود افعاليه المشهدية، يدون الردود الشكلية العامة اولاً ثم ينسحب الى الرد الاخر والذي يبدأه بذات الاشارة المعرفية الخارجية، تعطي حواريات الجنديل تصاعديات في احداثها لكنها تبدو بطيئة في مواقع، ويمكن تحريكها بقوة ردود افعال اكثر حدة ودرامية، الاسئلة لدى الجنديل والاجوبة ايضاً، تعيش ذات الاسترخاء حتى وان كانت تلك الاسئلة ثقيلة وقاسية، ويكثر في حواراته، بالماذيات والكيفيات، وكلاهما يجب الانتباه اليهما من قبل السراد، اذ انهما يحاولان دفع السارد الى الاجابة، ودفع المتلقي الى الايمان بأن هذه الافعال انما هي وسيلة مساعدة، لحلحلة الافكار وثيم وتفكيكها مع بعض الحيطة والحذر، لم تخرج سرديات احمد الجنديل، من حرفيات واقعها قط، اخذت منه، واعادت صياغته بحسب المقاصد وارجعته ليكون سرديات مغايرة، مع القليل من الوصفيات المكانية والزمانية، والتي يتعامل معها الجنديل بحذر وريبة شديدتين، ومرد هذا الخوف، والحذر اعتقاد ايماني ، من ان السرد قد يحال ببطء ويفكك وهذا ما لايريده الجنديل، يرغب ان يظل السرد بكل مكوناته داخل ما اختاره السارد دون احالات، ماالذي يحرك شخوص السارد، وهي معبأة بمؤثرات انسانية فاعلة، اهي التجربة التي تعاش ويجب ان تدون كحكي، ام ثمة ضرورات فنية وجمالية، يسميها مارك اسلن.. الفن لا يمنح التجسيد سوى مايرده من ثيم ، يختارها هو، ويلبسها ملابس لشخوص قد لايعرفهم ولم يلتقهم من قبل، وسيمنح المتلقي فرصة اللقاء والانغمار، والاعلان عن الرفض او الانتماء، )هذا ما يفعله السرد تماماً، ويجب التمسك به وتقديمه على انه طبق شهي لفواكه لم يرها المتلقي من قبل، ويجب عليه تذوقها، وهذا ما يشتغل عليه احمد الجنديل فعلاً، يقدم مايراه مسروداً صالحاً، ثم يظل منتظراً النتائج وردود الافعال، دون ان يعنى بقضية التطهيرات الارسطوية، ولا حتى باعتبار مسروداته جزء من الارث المعرفي العراقي العام، هواجسه، رغباته، ندفعه الى التدوين، وهو يعلن.. لماذا علي ان اصمت وانا شاهد فواجع انسانية لايمكن نسيانها وتجاهلها، وتلك روح متحدية وانتماء معرفي واع جعل النقدية العراقية تنتبه الى المنجز السردي الذي قدمه جنديل، وان كان هذا الاهتمام ضمن حدود كنا قدشخصناها من قبل، عجز الناقد العراقي من متابعة المنتج السردي اليومي وتحديد اختياراته، وضعف الاشتغال على السرد وتوابعه والاكتفاء بوهم التنظير التابع، وبرغم هذا نجد ان السردية العراقية واصلت سعيها وجدتها وقدمت مايمكن ان يكون ارثاً جمالياً مهماً!!