استهلال
منذ ( غيوم أرضية )، التي صدرت في العام 1995 والشاعر سلمان داود محمد، يثير جدلاً معرفياً حاداً، فلقد ظل برغم تراجع الكثير من أبناء جيله عن مشاريعهم الإبداعية في قصيدة النثر، متمسكاً بتلك القصيدة، معلناً ولاءه المطلق لها، وقد دفعه هذا الولاء “ وهو ولاء عرفاني يستند الى تفحص دقيق الى تاريخانية القصيدة ومحاطتها التي تمتد عميقاً، ورموزها الإبداعية المؤثرة” الى أن يكتشف مناطق إشتغال لم تكن مألوفة من قبل داخل قصيدة النثر، والتي كانت تهتم بالمظهرية اللغوية ، وتأخذ من الدلالات الرمزية أبعاداً ميتافيزيقية، فقدم في ( غيوم أرضية ) مجموعته الشعرية الأولى ، كشوفات عميقة ليوميات نفسية للحرب وملوثاتها الإستبدادية، وبهذه الكشوفات ومن خلالها، أفصح الشاعر عن ماهيات شعرية جديدة لقصيدة النثر، ولأنه يتوافر على عقلية شعرية تستنطق جوهر المكونات الوجدانية، عمد الى أن يقدم “ازدهارات المفعول به” يشير الى أوسع الفضاءات القرائية لواقع مغلوق على تاريخية سرية، متجاوزاً دوائر السؤال الذي إهتم الشعر بها قبلاً ليتوغل في دائرة الإجابات الداخلية الدفينة، ويقترح الشاعر مدخلاً نفسياً، كان قد إستله من واحدة من قصائد الديوان، ليكون وصية، ما تلبث ان تشكل سياجاً فكرياً بين الشعر والمتلقي، ومثل هذا السياج يعمل على صناعة المدركات وتحفيز المكشوف الداخلي لدى المتلقي (( خشية أن تشقى اكره نفسك جيداً واقترح الله )) وبين خشية الشاعر والإقتراح ثمة أكثر من متناقض، فالكراهية تدفع الى تشوهات نفسية يقول عنها ( فرويد ) إنها تصيب المظهر الداخلي بالتغيير وتوقف أحلام اللاشعور، وبتعطيل المظهر الداخلي إذ ينزح اللاشعور الى الخارج فيرتمي في أحلام اليقظة، وهنا سوف تستحيل “الرؤية” الى “رؤيا” فيما يوصل الإقتراح معرفياً الى إطلاق يشي بإتحاد بين الرؤية والرؤيا، وذلك وبحسب ما يشير اليه ( فرويد ) إن “الانسان والله طرفان يكمل وجود أحدهما وجود الطرف الآخر، ولا يتم هذا الإكتمال إلا من خلال معرفية علمية يتداخل فيها ما هو حسي بما هو عقلي”. ويدفع قبول الإقتراح من قبل المتلقي الى تفحص دقيق لما سوف تشتغل عليه القصدية والإجابات، ويتوافر هذا القبول على شرطين أساسيين أولهما الإيمان بكراهية النفس، وهي نوع من أنواع التهشيم الفعلي للذاتية الإرثية، والثاني، تحفيز فكرة الإنقياد داخل ميدان خال من “الكيف ولماذا” فلقد نفذ قبل الإقتراح وصار للمعاني داخل النص الشعري فهماً اخر، غير ذلك الفهم المادي والذي يؤمن بأن ثمة وجه واحد للأشياء، وقد دفع المتلقي ضريبة هذا الفهم لولوجه الوجه الآخر “الروحي” وتفحص خواصه الكاشفة عن مشهدية إدركها النص وجسدها لتكون الموازن بين الحالة النفسية اللاشعورية، والخشوع الفاعل والذي يشير إليه “جاك مارتيان” في الحدس الخالق في الفن والأدب على “إن العقل الذي فينا يحاول أن يولد، انه شديد الشوق الى أن ينتج ، لا الكلمة الداخلية، أو التصور الذي يبقى فينا فحسب، بل كذلك عملاً مادياً روحياً في آن واحد.. إن العقل حين يترك على حريته التي تتصف بها طبيعته الروحية، يحاول ان يولد أشياء جميلة” ،،،
(***)
ويعمل هذا الخشوع داخل قصيدة ( ماراثون انفرادي ) على توكيد المكرور الإستقراري “ أكرر” وتوجيه النص ليزيح الستار عن واقع لا يتصف بغير شواهده الخارجية، ومفرداتها التي تشتمل على معاني هي الأخرى تنم عن إستقرار خارجي مصحوباً بقلق داخلي، فاليوم مشحون بالأفعال، وسادر في إرتباكاته، والتي ستوصل المشيًد للنص، الى أن يبحث عن أدوات يحاول بها التغيير “ وهو تغيير مادي لا يمكن أن يؤدي الى رسم معان جديدة لحياة داخلية ” حيث يريد أن يحوّل ( سوق الصدرية ) الى برلين، ولا يكتفي بهذا النقل، بل يريد مشاغلة أيامه بهناء معقوف، ومثل هذه الأحلام “الموحلة باللاءات ــ ص18” لسوف تدفع مرة ثانية بالشاعر والمتلقي معاً الى الإنقسام، مع وصية بالصمت، والإستحمام.. فما زال الواقع قائماً وما كانت تلك الإنتفاضة سوى إحساس بالمرارة، وإنهيار عاطفي هو نسيج حياة الشاعر النفسية، ينطلق أحياناً، ويتصارع مع واقعه تارة اخرى، ويشعر بالإنكسار، فيصرخ في ( خروف العلة ) أن الخوذة هي التي فازت بالأبدية ما دامت النصوص ( ركيكة ) و ( الاقمار مشغولة في تهيئة الأركيلة للحوت ) ، ومثل هذا الإعلان لا يمكن أن يترك المتلقي ليواصل إكتشافاته، بل يعمل على أن يؤثر في إستجاباته النفسية، ويدفعه الى تلمس دوافع المحركات النفسية لدى الشاعر، الذي يصر على أن يطلق وصية ثانية أشد غرابة من سابقتها : ( قل لهم أن ينصرفوا فلا طاقة للسيد “ لوط ” على الكلام ، أو الرجوع الى وظيفته القديمة ) وتأخذ هذه الوصية، المكملة لوصية النص الاول “ إستحم” الى حضور تطهيري “فلوط” دلالة مقدسة بوصفها الخاص، وإشارة تكسر حجب المعنى كما فعل العنوان الإشاري للنص حيث تحولت “الحروف” تحريفاً الى “ الخروف ” ومثل هذا الإحساس، ما يلبث ان يستجيب لمؤثرات تسوغ قبول الإشارتين معا،ـ وإدراك قوانينهما الإنفعالية، والتي تسهل قبول تداخلاتهما الدلالية، ويغاير الشاعر ما قال به سارتر “ لا يجب أن نتصوّر أن الشعراء يهدفون الى تمييز الحقيقة أو عرضها (ما الادب؟) ...
(***)
فيعمد في ( إزدهارات المفعول به ) الى إعتماد الواقع إعتماداً مطلقاً، فيعالج من خلاله المستعملات اليومية التي قد تبلغ أحياناً حداً غريباً من المتعارضات :البلدان = العثرات = الأنا = القتيل = ضآلة الشأن = زجاج المقهى = بياضي الفقيد = النعجة = الأنا - ناس، الفقرات القطنية = سروال لعصا.. ... وهكذا” ومثل هذه المتعارضات تبرهن على أن ثمة قصدية تحاول إيصال المتلقي الى قيم شاملة من الحقيقة، وهي قيم تأخذ روح الأشياء، وتوظفها توظيفاً جمالياً، يهدف الى خلق حركية، تقابل السكونية التي لم تعد صالحة ولا تتلاءم والإشارات المظهرية غير المألوفة، لم يكن الشاعر معجباً بالواقع اعجاباً تاماً، ولكنه أيضاً لا يرفضه رفضاً تاماً، ومثل هذا التأرجح، أقصى ما يمكن أن يفعله “سلمان داود محمد” فالواقع بالنسبة له الخامة الإتصالية التي تنظم إدراكاته الإيجابية، وتجعله يبذل جهوداً مضنية من أجل إدراك قابلياته الحسية، ولا ينسى بأن يوصي ثالثة : ( بل أنا هكذا: أبارز وحش الإنترنت بتلفاز معطوب، وابتسم ... ص55) وهذه الوصية المزدحمة بالأفكار “ مبارزة قادمة + وحش إسمه الإنترنت + واقع معطل” وهو واقع إفتراضي غير محدد الملامح، وعاجز عن إظهار ماهياته التكوينية” + حضور لا ينم سوى عن تردد، وإنتظار وعجز” تحيل الى نسق، يبدو مشدوداً من جهاته الأربع ...
(((***)))
اذ تسعى قصيدة ( قدم في الأعالي ) الى تفصيلات يسميها “برجسون” “تفصيلات الفهم والتفكير” وهذه التفصيلات تثير نوعاً من أنواع التأمل الفلسفي، الدافع الى كم من التوترات المنظمة لشحنات شعرية، تلغي أفكار التعسف، وتحث المتلقي على دخول المنظومة المعرفية للنص، الذي إنشطر ضمن دائرة الكشف الى حركات مجزأة، ظلت ترتكز الى الواقع في كل صورها المشهدية، ويبدأ النص بإشارة حركية : ( أنجبت زيجات المتعة أولاداً مؤقتين ــ ص59 ) ما تلبث أن تتحرك بإتجاه إنجابات أخرى “ الدساتير تنجب الناس” وتمركزات دلالية إستخدمت الواقع، إستخداماً حرفياً، مشحوناً بالتوتر والإندفاع، وخالق لنوع من العلاقة السحرية بينها وبين المتلقي، ولا ينسى الشاعر أن يوصي : ( سأطيل الأظافر. بما يعرقل إنتزاعي من – شارع الرشيد - وأنحت موتاً جيداً للحقائب بالإمتناع عن الـ”هناك” وأحبكِ ــ ص71 ) .. وهذا النحت الحسي المتحرك باطناً، الساكن في الظاهر، والمعلن عن تصور “متحرك ثابت” في آن واحد، وهو إعلان لسوف يدفع بالمتلقي الى دوامات، يسمها ديستويفسكي : “الأصداء العميقة التي تجعل عاطفتنا نحن تطوف بين عموميات ورموز” وتكتمل هذه النحتية في قصيدة ( طبعاً.. والى الأبد ) ، حيث تتحول السكونية الإعلانية الى تصور نفسي إنفعالي : ( مثل أب لطفلين ) ومثل هذا التمثل إنما هو ترجيع إستيلائي على المشبه به، وهوإعلان تؤكده الثوابت التي تلي : ( أحترام الله وقصيدة النثر.. وانت ــ ص75 ) وتمتلك المتضادات الشعرية وجلاً يدفع بالمتلقي الى حقول تعطل فعالية التخيل، لان ثمة انظمة واقعية، تحاول إعادة صياغة الوجود، دون أن تمنحه زخماً شعرياً يحسن من قوة الإنفعال، ويسهم في فتح بوابات إجابية، توضح القصدية التي لا يمكن أن تجد لها مستقراً داخل النص ...
(***)
وعلى مثل هذه القصدية تشتغل قصيدة ( نثرنة الصنم ) والتي تسوق من خلال إشارتها الإبتدائية، لواقع لا يعطي سوى معاني محددة فثمة توغل داخل روحية “الزمكانية” التي رتبت وجودها دون أن تمنح الشاعر قدرة وفرصة على ترتيبها، فهو أي الشاعر يسقط حسه النقدي، لكنه لا يستطيع الإستيلاء كاملاً على منافذ وخبايا الحيرة والتردد، وبهذا يكون الواقع هوالقوة الدافعة والخالقة لشفرات تساؤلاتها والتي تلزم المتلقي على أن يتجه ناحية ما يسميه “هويج” جوهر المعادلة الواحدة، وهو جوهر يمكن للمتلقي بأن يتلمس وجوده دون الحاجة الى إعادة قراءة النص، والإرتماء بين يديه كسر من اسرار الشعرية التي لسوف تأخذه الى حضن الجمال، و”النعم” التي يفتح النص فيها مغاليقه المعرفية تدفع بالمتلقي الى هدوء نفسي،ما يلبث حتى أن يقلب العواطف، ويعيد تشكيل المشاعر الإنفعالية إزاء النص= الوقع ولا ينسى الشاعر أن يوصي متلقيه : “ كل هذا في علكة الأمل ـ فانفرد بها، وعش بلا آخرين ...” ووصية كهذه تعطي لمتلقيها إنفعالية مغايرة، لأنها تجعله يغرق في دوامة من الأسئلة ـ “علكة الأمل ـ صورة جمعية”.
إنفراد إنفعال فردي يوحي بالإستسلام المقدر= عش بلا آخرين، تناقض ناسف يدفع بالنفس الى تأرجح داخلي ما يلبث ان يؤدي الى نوع من أنواع الإنقسام الشخصي، وهو انقسام مرضي غير فاعل، وتقوم قصيدة ( أنت بكسر العين ) في مكونات نفسية تؤهل النص الى أن يكون وثيقة تبلور الأسئلة، وتعطي متلقيه الحق في أن يبحث ما يمكن أن نسميه التطهير العقلي، فثمة تدفق غزير لصور تبدو ضجرة، تؤلم القلب، تبدأ من خط شروع يشكل هاجساً تعويضياً، لكنه هاجس مؤلم يحيلنا بهدوء الى صرخة فاوست “الأمهات.. يالها من كلمة ترن في السمع رنيناً عجيباً” فهذا الرنين يبدأ من الساحة الهاشمية” والتي تنام وهي ملأى بالضحايا، وبمدة إرتدادية يصرخ سلمان داود محمد” : ( فيا واهب الإناث غياب الفلدات .. ص 109) وخطاب كارثي كهذا يمتهن مساحة الشعور حتى يدفع بالشاعر نفسه الى أن يختار رغباته والإعلان عنها، وعند هذا الاعلان يحدد عودته فلقد أخذ كل شيء، ولم يبق لذاك الذي هشم الواقع وجعله مغايراً لا يتفق ورغبات الشاعر سوى الفراغ واللاشيء. وبهذا يستطيع “الناص” سلمان داود محمد " أن يعوض عوزه الحياتي، ويطلق رغباته الإنسانية.. رغبات المتلقي، لانه موقن أن متلقيه قد عاش ذات الظروف وهي التي أبطلت حاجاته الحيوية لهذا نجده بعد نهاية القراءة يقول “اننا نختار الفن لأنه يعزينا” وهذا ما فعله “الناص” سلمان داود محمد ....