* قد يبدو المدخل غريباً، مادام الشعر لايرتبط كذاكرة جمالية ارثية بالهواء، الا اذا افترضناه صوتاً، لانه يرتبط عند العرب ودواوينهم بالصوت وتلوناته، مع وفرة من المعرفة المرتبطة بالارث الشعري ذاته، اذ ليس ثمة ما يأتي من الفراغ، ولابد من تأثر وتأثير ايضاً، لكن رباح نوري، الذي شكل جزء من ذاكرة شعرية مهمة، ابان كانت الحرب الاولى تحرق الارواح بشرار الاحزان، كان يعيش تفاصيل يومه الشعري، مازجاً بين هموم الذات التي اوصلته الى حد الفصل من الدراسة، وهموم القصيدة العمودية التي انتمى اليها بكليته ، رغم الضجيج الذي كان يطلقة الشعراء متهمينها بالهيمنة والتبعية المنبرية، روح رباح نوري جعلته يدمن التمردات الواعية الكبيرة، يعيش هذيانات اليوم المستلب، ليتحول عند مخاوف المساء الى كائن لايعرف ماالذي يحدث، ولماذا يحدث؟
للتو اخذت منه الحرب اخاً، وادمنت امه النواح الذي لايوصل الى غير حرقة القلب وفوران الروح، تهرب خطواته الى وسط الضجيج المعرفي، مقتحماً الامكنة التي عرفت به الجميع، يناقش مع رشدي العامل اهميات الشعر الملتزم، لكنه وبسرعة مشاكسة ينفر ليحط عن جيل السبعينيات الشرس حد الجنون، (هنا يجلس كمال سبتي.. وخزعل الماجدي.. وحميد قاسم وزاهر الجيزاني ومجانين اخر) وعند الطرف القصي تنصت الى احتجاجات جيل حرب .. محمد تركي النصار.. وسام هاشم.. زعيم النصار.. ورواد الليل الذين ينصتون بلذة القلق الى كل تلك الافكار التي كانت تتصارع في العلن والسر، ينصت رباح نوري الى كل هذه الارتباكات، لكنه ماكان يجد ملاذاً شعرياً ، ظلت كل ملاذاته المتوفرة ، ترتبط بالوجود الاجتماعي، يثير الكثير من الاحتجاجات الرافضة لاقتحام ليلة، ليصل الى ذروة البكاء، وتلك واحدة من ازماته التي اوصلته الى حد التهالك، كان يقترب من عالم حسن النواب، وكزار حنتوش ونصيف الناصري، لكنه ومثل حمامة يشيه في تيه معرفي لايمكن لاحد غيره معرفة اسرارها، ماالذي يميز قصائدرباح نوري، وهو شاعر كسول، يجد في الشعر وسيلة ارتياح نفسي لاغير، والذي لم يفكر حتى باصدار مجموعة او ديوان شعري حتى اللحظة الراهنة؟
كان يكتب عموده الشعري بدقة مدهشة تقترب كثيراً من روح الارثية الشعرية العراقية، يقف عن الجواهري، ليصنع نصاً متميزاً لكنه يوقع حافره على حافر النص الجواهري، يهرب بروح التحدي ناحية المتنبي وربما الشريف الرضي، وفي مرات يتأمل تجربة احمد شوقي ومدرسة ابولو، ولانه كثير التنقل، وبروح غير مستقرة، ولم تعرف بعد كيفيات الابتكار والتجديد، ازدادت مخاوفه، ومعها راحت قواه الشعرية تتراجع، لم يعد يكترث لمايمكن ان نسمية المتغيرات الشعرية العراقية، التي اثارت جدلاً نقدياً، ولم تزل هكذا حتى زمن التراجع الشعري الذي نعيش، انهدمت طاقته، ولهذا راح يبتعد عن احزان الليل والغناءات التي تثير الشجن، اقتعد ظلام وحدته لزمن طويل، حتى اخذته الاذاعة العراقية الى قسمها الثقافي، اشترط على وجوده ان يظل متمسكاً بالشعراء والسراد، دون البحث ثانية عن درب يعيده الى وجوده الشعري، ربما اختلف مع جن الشعر، واضاع مكان وادي عبقر، وربما شعر ان تلك المتغيرات السريعة لا يمكنه اللحاق بها، وسيظل واقفاً عند الهامش ، وهذا ما لايريده ولا يرغب فيه، عرف ان الشعر جذوة معرفية جمالية ، ان خبت انتهى كل شيء، وان حاول شاعر ما الابتعاد عن الجذوة وتوهجاتها، فسيظل صانعاً يمتهن القول دون ان يقيم لوجوده صرحاً متميزاً، في ثمانينيات الحرب والمدافن ، اهتمت النقدية العراقية، برباح نوري، واشارت اليه مطالبة اياه بالتطور، لكنها تراجعت مع تراجعه وعدم اكتراثه، وابقاء ارثه الشعري معلقاً ، دون ان يجد السبيل الى تصنيفه وطبعه، ليقدم قراءات حاثثت النص النثري ومعالمه التي اصبحت اليوم الجزء الاهم من الشعرية العراقية المعاصرة،
والسؤال.. لم يهمل رباح تاريخه.. هل اكتفى بهواء الاذاعة التي سرقت كل سنواته دون ان تقدم له ما يرضيه ويؤسس لوجودة؟
اظن انه يحتاج الى عودة حاسمة، بعد ان نضجت تجربته وحقق مراده الانساني العام، لم يبق انامه غير انسانيته الشعرية، وهذا حاصل ان اراد، ولا اعتقده يريد!!