إنَّ قراءة لكتاب ( الإشكالية الثقافية- لخطاب ما بعد الكولونيالية ) للدكتور محمد كريم الساعدي, تجعلنا في مواجهة الرؤى الغربية ممثلة بالاستشراق الأمريكي والمؤسسة الغربية, التي جاءت كردة فعل اتجاه الخطاب الثقافي الكولونيالي, كي تتمكن من إكمال المشروع عبر طرح نظريات ثلاث, عن المفهوم الكونيالي الجديد, (نظرية صِدام الحضارات, نظرية الفوضى الخلاقة, نظرية أحجار الدومينو), موظفة إياها ضد الآخر الشرقي, خصوصا في المنطقة العربية, وتأتي أهمية القراءة هذه لما يطرحه الكتاب من جدلية الضد الثقافي لأفعال الكولونيالية الجديدة, جدلية تتناسب والمرحلة الحالية أو ما سبقها من مراحل, فالمشروع أثيري لامتلاكه مواصفة الجذر التاريخي, وهذا ما جعل الغرب يتنبه لعبثية الحرب العالمية الأولى والثانية والحرب الباردة, فهي لا ترتقي لصِدام الحضارات, ماداموا من جذر ديني واجتماعي ويحملون نفس الموروث, الذي يميزهم كأمة, ان نظرة فاحصة لرؤية (الغرب الأمريكان ), عن الحضارات الستة, ( الغربية, الصينية, اليابانية, الهندية, الإسلامية, الإفريقية ) نجد الغرب وضع الحضارة الإسلامية ومركزها العالم العربي طرفا في كل صراع مع الحضارات الأخرى, وبات من السهولة على المتتبع الوقوف على الإجراء الغربي, وكيف تمكن من توحيد صفوفه داخلياً (كأمة غربية, حضارة غربية ), ورصَّ صفوف الحضارات الأربعة الأخرى لصفه, في عزل تام للحضارة الإسلامية, وعدها الحلقة الأضعف بحيث يمكنه تنفيذ مشاريعه المريبة عليها, متخذاً من مشروع (الشرق الأوسط الجديد) شماعة أو عصا للترويض كلما أحسَّ بتنامي دورها الريادي, من اجل تحقيق النهوض مستعينة بقدراتها البشرية وثرواتها الطبيعية, مما تقدم نكتشف خطورة المشروع الاقصائي الذي يتعرض له العالم العربي في عصرنا الحديث, على اعتبار أنَّه, يعدُّ صاحب التوجه الأخطر من بين توجهات حضارات الأمم الأخرى, لذا يجب العمل على عزله وإجهاض فرصه في الخروج من دائرة الصراع التي قدرها الغرب له, متخذين من تاريخهم الطويل مع (الحضارة الإسلامية, العالم العربي ), من حروب صليبية رهانا أوحدا, لاستدرار مشاعر أكبر قدر من المؤيدين, على الرغم من أن الغرب عمل على ترسيخ الديمقراطية في شتى المجالات المؤسساتية الرسمية وغير الرسمية, كالانتقال السلمي للسلطة والدعوة لحياة حرة كريمة والدعوة لاحترام حقوق الإنسان, وتقبل الأخر, بغض النظر عن الجنس والعرق والنوع, لكنه ظل يفكر بنفس الروحية القديمة, التي تتعكز على الدين أو على وتر الاثنيات المقيتة والخطر الداهم, وهذا ما شاب خطاب الساسة الأمريكان وقتنا الحاضر, على اعتبار أنهم شعب الله المختار وان عليهم مسؤولية تسيير أمور هذه الأمم, لافتقادها الرؤية والوجهة الصحيحة, معتقدين أن هذه الأمم لا تحتكم إلى العقل بل أنها تركن إلى الأساطير والخرافات لو فرضت عليها التحديات العمل الجاد, وعدم الركون إلى العقل, مهما تتفاقم المشكلات وتتوالى الخطوب, لذا نجد الغرب يعمل على تشويه صورة (الحضارة الإسلامية, العالم العربي ), إمام الرأي (العام الغربي, الأمريكي), لا تردعه النتائج التي تحيق بالعالم العربي كوجود, مادام الهدف منه إدامة الصراع, تماشيا مع المشروع الغربي, في تغييب بيِّن لمشروع تواصل الحضارات, الذي يبدو شعارات للاستهلاك المحلي لا أكثر, يسقط عند حدود المصلحة الضَّيقة.
يعمد الساسة الأمريكان والمؤسسة الغربية, من أجل تحقيق المشروع إلى خلق أجواء ملائمة, لتأتي الخطوة الثانية ( نظرية الفوضى الخلاقة), وهي نظرية تقوم على ثنائية الهدم والبناء, تهديم أسس الدولة والعمل على فقدان الهوية الثقافية واستشراء التخلف والجهل يصاحبه تنامي الفئوية والانتماءات الفرعية ( القبيلة, الحزبية, الطائفة), هذا ما تم تطبيقه في , ( العراق وسوريا وليبيا واليمن), وقد نجد في العراق يد الأمريكان هي من عبثت بشكل مباشر, أما في سوريا وليبيا واليمن, كانت يدٌ الشعب من غيرت على الأرض ظاهراً, لكننا استشعرنا بعد حين يداً -إقليمية وعربية-, هي من قامت بدور البديل في تبني ما سُمي, (الربيع العربي ), قد لا نختلف على ضرورة التغيير, والكلّ مجمع على تحقيقه, وبحسب متطلبات المرحلة, لكن المشروع الغربي أتى بخلاف التوجهات, لتنهار مجتمعات تلك الدول بعدما, أعلن المشروع عن وجهه التقسيمي, عندما أتاح الفرصة لخلق الفوضى التي أتت على وحدة تلك الدول وسيادتها وأمنها الداخلي, أن الإجراء الذي نفذته قوى التغيير الثورية كما تدعي, تحول إلى مشروع يحمل بمضمونه سمة, (الفوضى الخلاقة ), مفضيا عن ملمحٍ تدميري لبنى الدول المؤسساتية وطمس الهوية الثقافية لتلك البلدان, غير آبهة لعمقها التاريخي, حتى أننا نرصد تعاقبا للهدم من دون أن يأتي دورُ البناء, وهذا عائد لانفلات المشروع (الفوضوي, غير المكترث ), من ناحية ,وغير المنتمي لهذه (الحضارة الإسلامية, العالم العربي ), من ناحية ثانية.
ممَّا تقدم نجد النظريتين تكرسان للفشل سواء على مستوى الصراع أو الفوضى, وهذا بالضبط ما شهده العراق من توالي الأزمات, على الرغم من كون الأمريكان راهنوا على النموذج العراقي في إحداث التغيير كونه المثال الذي يحتذى به ديمقراطيا, والإعلان عن دولة المؤسسات والحريات, لكن ما جرى في العراق من اقتتال داخلي, قد أخر هزة التغيير الارتدادية لفترة من الزمن, لكنها وصلت أخيرا, ليكتمل السيناريو المعد سلفا بتحقيق الإجراء, مستعيناً بالنظرية الثالثة, ( أحجار الدومينو), ليتهاوى النظام الجمهوري القائم في تونس تلته مصر وليبيا واليمن, جاعلين من نظرية أحجار الدومينو, القدرة على التغافل عن ممالك موغلة في التهالك, إلا أن أحجارا من نوع أخر قد تجد الطريق سالكا لها بعيدا عن سلطة المشروع الغربي, وما لهذا من إشارة واضحة, ان المشروع الغربي, تحقق بمعونة داخلية.
لذا من البديهي طرح أسئلة ملحة تحمل في طياتها جدلية الضد الثقافي في مواجهة الخطاب الكولونيالي: كيف يمكننا مواجهة هكذا مشروع كأمة عراقية أو حتى كعالم عربي من دون امتلاك مقومات المشروع الضد؟ وأن تمكنا من تبني ثقافة الدفاع عن محيطنا العربي متخذين من حضارتنا الإسلامية معينا على ذلك, هل نقف عند مستوى الدفاع؟ أم أننا نعمد إلى تأسيس مشروع يحمل صفة المبادأة؟ ,من أجل تقويض بُنى الحضارة الغربية ومن يرفع لوائها من ساسة ومفكرين غربيين و أمريكان, وهل أن المشروع العربي يحمل نفس المواصفة الغربية ذات التوجه الواحد, على الرغم ممَّا حلَّ بالعالم العربي من فقدان الثقة بين مختلف الأطراف, أم أنه يأتي بإبعاد ومفاهيم ورؤى الحضارة الإسلامية وأخلاقية الموروث العربي؟ فما كرس له الغرب من مشروع ( الصراع والهدم ), أضحى مشروعا لا يعمل على الإطاحة بالأنظمة فحسب, بل أنّه يستهدف الهوية والدين والعادات والتقاليد واللغة ويحرص على هدم معالم الأمم وشواخصها التاريخية, ظناً منه بمسخ الشعوب, كي يتمكن من تطبيق مشروعه (العالم الجديد ), القاضي بتحويل الدول تابع للأصل الأمريكي معتمدا في ذلك على الأنموذج العراقي, متغافلاً عن الأزمة الكونية التي يمكن أن تنتجها هكذا مشاريع فوضوية!