*كيف يمكن لرجل، جاء محملاً بانغام حناحر ميسان التي تطلق نواحات الارواح ليل نهار، ما ان تحط رحالها عند رفيف طيور الغاق، ونداءات طائر الكرسوع، ليالي تمنح الصبا، غرابة ترقب، ومساحات بشسع الامتدادات المائية من التأمل، ومحاولات صياغة الحاضر من جديد، كيف لمثل هذا الولد الذي شب على غايتين مهمتين، لم الفقر؟
ولم يهيم الناس عشقاً بتدولات نغمية يسمونها شعرا؟
كيف لمثل هذا، حين يقرر المجيء الى حيث الصخب، ان لايحمل بين ثنايا روحه رائحة خاصة به، اسميتها يوماً رائحة الشعر، يدمن الاحاديث التي تتحدث عن معمار الشعر العراقي ومهندسه الامثل، مظفر النواب، مثلما يدمن نداءات روحه التي انزاحت بخوف صوب عذابات اولئك الذين كان يرى احلامهم وهي تجف وتتلاشى، اتعس وحشات الروح، هذا الفعل الذي كان كاظم غيلان ، النحيف مثل قصبة، يقف امامه معلناً عجزه، ثمة لحظات تهرب من بين ملامح القصيدة، حتى تبدو شوهاء، نافرة، ومع هذا النفور الذي رافق المحطات الاولى من الشعر الدارج العراقي، تمكن كاظم غيلان، وهو المدون لكل منجزات الجيل السبعيني وما تلاه، من تجاوز عقبة وجوده، يشعر متلقية، وهو يقدم له زاداً جمالياً معرفياً ، خال من المنبرية ودوافعها، مختلفاً في هذا القصد، عن ربعه ومن هم اعتق، الشعر الدارج العراقي، مرتكزه الاساس منبريته، الا القليل منه، الذي لايصلح لغير قراءات فردية متأملة وكاشفة، ودقيقة البناء والتصور، وهذا ما تمكن منه غيلان، اذ راح بنشأ جمالياته النصية، من خلال ثيم انسانية، قد لاتتوافر على خصوصية محلية، لكنها انسانية بشكل واضح، لم يغادر غيلان، الاشتغالات النوابية، وإن حاول، فظل لصيقاً بها، او هو الاقرب اليها، حد الهيام، والتفحص، والتبشير في محطات عمرية كثيرة، تتفحص نص غيلان، بصبر نفسي ، فتكتشف خلوه من محنة اللهجات الجنوبية، التي تداخلت وتدخلت في بناءات النص الدارج، بسيط ، سلسْ، يجنح الى هدوء لهجة التحضر، وضروراتها التي تقترب من الشعر المكتوب بالفصحى، يرسم غيلان حركة نصه من خلال توفير كم من الثيم التي تصدم متلقيه، وهو يشخص عموميتها، لكنه وبحدة التكوين، يتراجع، مسلماً ان هذه الثيم قد فقدت اعتياديتها لتتشكل من جديد داخل الخطاب الشامل للنص، ثيم غيلان تستمد روحها من خلال تأملاته، التي ينفرد بها، هو المتفحص، المدقق، العلوي الاختيار، لا تاخذه سفليات القول الشعري، ولا يكترث او يتابع سوى التجارب التي يجدها مناسبة لتطوير ذائقته الارثية، التي اصبحت مرجعاً مهماً وكاشفاً للكثير من اجيال كتاب النص العراقي الدارج، راح غيلان يتخذ دور الكاهن المبشر، المريد الذي يحاوطه تلاميذ المدرسة النوابية، تغريهم حافظته، فيشدون الرحال من خلاله الى عوالم تلاشت ، او في طريقها الى التلاشي، لم ظل كاظم غيلان ، المتيم النوابي، نائياً عن استخدامات النواب اللفظية، المركبة، والغريبة، والعصية على الفهم لدى الكثير من متلقيه، وهو الاقرب من النواب الى تلك اللهجات وصورها المطمومة داخل شفرات دلالية خاصة جدا؟
لم انزاح النص الغيلاني، نحو خيار وسط، هو الاقرب لروح المدينة وتحضرها، اهو المؤثر المنافس الثاني، واقصد بهما كاظم اسماعيل الكاطع، وعريان السيد خلف، وفي نصوص غيلان بعض من موجودات الكاطع الذي عزل نصوصه بالتمام عن منحوتات النواب؟
قد تكون محنة غيلان وانكساراته الاجتماعية والسياسية، هي التي دفعته الى ان يكون وسطا، يمشي مؤرخاً مع الجميع، ولكنه وبعزلته النفسية، الواضحة داخل منجزه الجمالي، يمشي لوحده، مع الكثير من التحفظات والابتعاد عن الضجيج، تمسك بقواه المعرفية، ولم يهدرها يوماً عند منبر هتافي، ظل سليل المنتج الشعري العراقي العام، يرسم مدورات حسب الشيخ جعفر، ويقيم صرحاً قريباً من مفازات سعدي يوسف، وتلك مهمة اتعبت غيلان كثيراً، بل اوصلته لمرات عدة الى اتخاذ الصمت وسيلة احتجاجية معرفية عالية التأثير،
وسيظل غيلان بطيء التعامل مع البياض، غير هياب من ملاحقات الزمن، اذا مااستهوته موضوعة، وراودته فكرة، راح يخطط لها، ويؤدلجها شعرياً، ويقلبها على اكثر من وجه، ثم يعرضها على ما يعرف من تجارب، واذا ما استقرت روحه، وشم رائحة الشعر، راح يملأ البياض، برسومات ثيمية ملونة، يحاول من خلالها الوصول الى الغايات والمقاصد.