موفق محمد
لم نكنْ نعرفُ الملك ، ولم نرهُ
كنّا نعيشُ في أزقةٍ ضيقةٍ ، وبيوت أضيق منها
فرحين بما آتانا اللهُ من الرزق الحلال
كان السمك يأتي من النهرِ الى بيتنا راقصاً بعباءة أمي ..
وكنّا نصل الى المدرسة راقصين على أنغام الكمنجة ..
وما أدراك ما الكمنجة التي يعزف عليها المعلمُ
ونحن نتحلّقُ حولهُ بقيادة نار ونيران ونوري
ونهتف : إحنه صف الأول أحسن الصفوف
والميصدك بينه خل يجي ويشوف ..
وماذا يشوفُ ..؟
صبية يرتجفون من البرد
ودهن المشك يتلألأُ في أيديهم
سعداءُ كنّا قانعين .. لم نذق طعم الحلاوة
وحين مدحه وأعني طعمَ الحلاوة لا الرئيس
صبيٌ من زقاقنا ..
سألنا ومتى ذقت الحلاوة ..؟
أجابَ ، أنا لم أذقها ، ولكنَّ إبن بنت عمي
التي تسكن بغداد قد مصّ كاغدها ..
كاغد وجاسه الماي كلبي
هكذا صاحت أمي وهي تئنُ وتلوب وتبكي
أخي الذي جاءها بعد سبع بنات ،
ولا تعرف أين هو الآنَ ..؟
والله يمّه من جان إبطني أنزل الى الشط
وأغسل له وأسمعه يكركرُ..
يمّه لقد أخذه الحكم الجمهوري
طكوه إجتاف وصعدوه بالبيك أب
وتحاوروا معه بفوهات بنادقهم
مرةً سألنا المعلمُ : ما فائدة الأظافر؟
فأجبناه جميعاً: إنكصع بيها كمل
فيضحك كثيراً.
وقتها لمْ نعرف سبب ضحكه ، فبكينا كثيراً
************
لمْ نكنْ نعرف الملكُ النبيل ، ولمْ نرهُ ..!!
كنّا في المدرسة الشرقية التي تقع على شطّ الحلة
منْ كان يختار أماكنها التي لا تنسى أبداً ..
كان النهر يعبرُ سياجَ المدرسة
ويصعدُ الى منتصف النخلة
حيثُ جرسُ المدرسة المعلق
لينقرَعليه بأصابعه المائية الذهبية
فتنقرُ من أمواجه الى الساحة
طائرين بأكواب الحليب ودهن السمك
وقدري قادَ بقرنا ..
ونركض وراء النهر الذي يعبرُ سياج المدرسة
عائداً الى ضفتيه بعد أَن دقَّ جرسنا ونغني له :
أيّها النهرُ لا تسرْ
وانتظرني لأتبعك
أنا أخبرت والدي ..
إنني ذاهبٌ معك
فانتظرني لأتبعك .
*************
لم ْ نكنْ نعرف الملكَ الهاشمي
الأصيل ، ولمْ نره !!
كنّا في الصف الثاني ، وكان قريباً من الإدارة
وأذكرُ مديرها ، لا بدَّ لي أّنْ أذكرهُ
فقد كنّا نراه يهبط علينا ولا ندري من أي سماء يهبط ..
أنيقاً مبتسماً وبيده مفاتيحُ المستقبل
محسن ياسين أبو سعد
لقد كان يقف على رؤوسنا ونحنُ نكتب الواجب البيتي
داخل بيوتنا التي يتسللُ المطرُ زائراً من سقوفها ..
بعد عشرين عاماً ألتقيتُ به في كازينو النعمان في الأعظمية
فعرفني على الفور ..
سألتهُ منْ أي سماء كنت تهبطُ ..؟
قال لي : كنت آتيكم مشياً من البيت الى المدرسة ... يا إلهي .
وقد وزعت علينا إدارة المدرسة بدلات أنيقة
لبسناها على الفور ، وطاردنا الباص الخشبيُّ
الى مستشفى مرجان التي سيأتي الملكُ الوسيمُ لأفتتاحها ،
هكذا قالوا لنا قبل أنْ نصل
يعني إحنه راح نشوف ملك
وكان يكبرنا بشمرة عصاً من السنين
لا أنسى يده التي كان يلوحُ بها للجماهير الغفيرة .
وكانت شفيفة يبتسمُ الخيرُ براحتيها
وابتسامته التي ما تزالُ ترفرفُ في سماء المستشفى
حمامة بيضاء يبكي هلال العيد في أجنحتها وتنعدم رؤيتهُ ،
فلقد قتلنا الحمامة والهلال بطلقةٍ
بعد أَنْ دكولنه فشك وجيشونا في رفعة العلم
عشْ هكذا في علوٍ
هكذا قشمرونا ، وهم يمسحون به مؤخراتهم وقت الحاجة
**************
مليكنا مليكنا نفديك بالأرواح
وكنّا كاذبين
فالعراقيون لمْ ولنْ يفدوا أحداً
بلْ كانوا يستدرجون الطيبين الطاهرين لقتلهم
فقلوبهم معك وسيوفهم مع كل شيطان مكين
وقد حذّروا جدك ..
ألمْ نسحل نوري السعيد وعبد الأله في الشوارع
وكان لحمهم يتناثرُ فوق الأسفلت الفوّار
وعظامهم تتكسرُ وعلقناهم على أعمدة الكهرباء
وقطعنا ما تبقى من أجسادهم تقطيعاً
(عبد الأله وليس عاباً أنْ أرى
عظم المقام مطولاً فأطيلا
يا إبن الذين تنزلت ببيوتهم
سور الكتاب ورتلت ترتيلا)
هكذا كان يمدحهُ الجواهري العظيم ،
وقد كان شاهداً على سحلهِ ولم ينبس ببنت شفة ،
فلا عاباً ولا هم يحزنون ..
فضباط الأنقلابات بحاجة الى قصائد ترفعهم
الى مصاف الآلهة ، وهم يكرعون دماء المكاريد ،
وقد تمَّ لهم ذلك ، ورأيناهم جميعاً ساجدين
في قمر السماء تحفُّ بهم الملائكة
ولمن لا يرى وبعد أن أكلت مساميرُ بساطيلهم
لحم رؤوسنا نخجل من رؤية صورهم في صناديق القمامة
يا نفسُ توبي قبلَ ألا تستطيعي أنْ تتوبي
وتخلصي من كل ما يعمي البصيرةَ من ذنوبي
إنَّ البنادق بالرصاص عليك دائمةُ الهبوبِ
***************
أيّها الفتى الهاشمي النبيل
ها أنذا أجلس لصق قبرك غريباً في بلد الغرباء
أو أعني المقبرة الملكية التي لمْ يزر موتاها أحدٌ
من الساسة الجبابرة العظام
وأرى دجلةَ أحدب يمشي يتوكأ على أمواجهِ المتكسرة
ويخجلُ أنْ يرى قبرك فيغمض عينيه
أجلسُ لصق قبرك ، أقرأُ الفاتحة
وأرى كتاب الله الذي وضعته على رأسك يتوهجُ دماً
أتلمسُ الطينة الهاشمية البيضاء
فيظهر منها سرب ملائكة يلثغُ البياض في اجنحتها
وأراك تبكي ومن عينيك ينسكب نور الله
ويبكي الله .. يبكي الله .. يبكي الله
فلا فجر في العراق بعد مصرعك
الشمس طوفانٌ من الرصاص الدامس
وتسوّدُ في مشرقها ..
واللّيل يتنكب الظلمة ويطلق دونما رحمة
قذائف من جماره العابس واللاّبس معطفاً
ثقيلاً من الدم المتخثر ..
أدهم كان ويوزعنا بعصاه عراةً في الأرض الحرام .
وبيهم كثرو الطك
ويمّه البارود من اشتمه ريحه هيل
والبحر عطشان منك شرب مي
هكذا تغيرت الأكاذيب الوطنية
لم يضمنوا لك متراً آمناً يحميك أنت وعائلتك ..
كانوا يتصارعون ويبشرون الناس بالخراب
الذي لا قيامة بعده .. ويسيل المذياعُ دماً ،
لقد فتحوا بمسدساتهم أبواب جهنّم
وتركوا العراق والعراقيين نهب أعاصيرها ..
إطمئن أيّها النبيل ..
يا أبن العالية الطيبة الزاهدة الصادقة المؤمنة الأمينة
وكانت كلُّ أمنيتها أنْ تموت على يد طبيبٍ مسلم
وتدعو صغار الجيران وتطعمهم معك
وكأنهم يأكلون في بيوتهم
أحبُ أن أخبرك بأنَّ كلّ الذين قتلوك
والذين قتلوهم بلا قبور
هكذا ستدور نواعير العالم السفلي
بجثثهم الى يوم يبعثون
وأنت يا فتى الفتيان ،
لمْ تقلْ ساعة حاصرتك الطغمة الفاجرةُ
بأنُّ الهزيمة ثلثا المراجل .. لم تتشبث بالكرسي ،
لقد كنت معلماً حتى في موتك أيها الشجاع
ولكن من يتعظُ بعدك ..
من يتعظ ..؟
منْ........؟
وضعت القرآن على رأسك ورفعت الراية البيضاء
وخرجت لهم بخطى واثقة وقلب رحيم ،
لمْ ترتجف عيناك أو يداك ..
لقد كنت صادقاً في حبك للعراقيين
ولمْ تمسسْ أحداً بسوء ..
وقفت مبتسماً لهم ، فكشّروا عن مسدساتهم
واستأسدوا ..
يا إلهي إنّهم يطلقون الرصاص على السماء
وهم لمْ يستحوا ولمْ يخافوا من أحد ،
لمْ يستحوا من البلد
ووالدٍ وما ولدْ
لهم مغاربُ قتل ليست لهنّ مشارقُ
لقد قتلوك ونقلوك على سكة من الرصاص
من المهدِ الى اللّحدِ
ودخلنا في كهوفِ الرعبِ المطبق أفواجاً
ويقتل بعضنا بعضاً ونفدي بأرواحنا
من يأكل لحم شعبه حياً ..
وقد ضيعنا قرناً كاملاً بالترهات وبالثوريات وبالعنتريات
والناس وصلت للكمر وإحنه وصلنا لي خره ،
دول مجاورة كانت تحلم أنْ تصل ربع ما وصلناه
في خمسينيات القرن الماضي ،
فأين همو الآن .. أين همو ،
وأين نحن الآن ..
فما زلنا في ماكنة اللحم البشري التي يدير رحاها
الأنقلابيون المولعون بهرس اللحم البشري وأكله
بالشوكة والسكين وتنانير مسجورةُ
وتفور من يوم مقتلك وحتى هذه الساعة
لقد تخرجنا من المركز الوطني العراقي للرعب
بدرجة امتياز ، فمن كثرة ما خوفونا
لمْ نعدْ نخاف أحداً .. رئيساً كان أم لصاً
فكلاهما متشابهان ومتساويان كأسنان الذئب
فالخوف مثل النفط شللٌ دائم
ولا فرق بين من يُسحَلُ قتيلاً
أو نشيراً من القبر ..
"وعبرت الشط على مودك
خليتك على راسي
كل غطة واحس بالموت
كوه أشهك أنفاسي"
***************
أيّها الملك القتيل
ولا أمل في أن تبعث من جديد ،
فلا عشتار ولا تموز ولا أرشكيجال
فلقد ذابو هم وخلفتهم في تيزاب الحزب القائد
بعد أنْ دحسوا الأوتاد في مؤخراتهم غسلاً للعار
إنَّ الطلقة التي قتلتك ، ما زالت حيّة
وتئزُّ في صدور العراقيين ..
يومها كنت صغيراً أضع كتبي المدرسية
وأطلس العراق فوقها في رازونة قريبا من المذياع
وكانت ماركته فلبس أبو اللمبة
وله عينٌ سحرية يتجسس بها على العراقيين ،
ويرى نسوانهم ..
شاخ في العهد الجمهوري من كثرة الأنقلابات
فلم يعد يحمي ويظل ساكتاً فعرفنا دواءه
"قندرة قندرتين" على أم رأسه
وينطلق مهلهلا بالبيانات العسكرية ،
وكانت أمي لا تعرف من التاريخ شيّئا
ولا تقرأ ولا تكتب ..
يمّه أريدكم تجيبون بكالوريوس
هاي خوش بنيه أبوكم المرحوم وصاني ،
وكانت تطحنُ عظامها من أجلنا
مرةً ضاعت في الصوب الصغير
وحين سألوها من أين أنت ..؟
أجابت بعربية فصيحة
(آي آم من العُراق)
ظناً منها انها قد ضاعت في بلد أجنبي
كانت تلطم وهي تسمع مقتلك من المذياع
وكيف تلطم ..؟
ادك أعل الملك دكّه حلاليه
أدك على البطن وأمرد جلاويه ،
يمّه موفق ..
العراق ضاع في قتلة هذا السيد والى الأبد
ولقد رأيت بأم عينيّ الملائكة وهي تحمله
نازفاً الى السماء بعده لا وطن لكم ولا بيت ..
السجون ، الزنازين ، الجبهات ، الأرض الحرام ،
أحواض التيزاب ، المنافي ، المقابر الجماعية والزوجية
والفردية ، الكهوف ، خيمُ النازحين ، والمعسكرات سكنهم الدائم ،
فطوبى لكم ، فهل كان نبوءة ما قالته أمي ..!!
لستُ أدري ..
كنتُ أبكي ولا أعرف لماذا
ورأيت أطلس العراق والدم يتدفق غزيراً منه
نازلاً من شماله الى جنوبه وصاعداً من جنوبه
الى شماله ..
ورأيتُ شط الحلة
أحمر يجري
أسود يجري
وقد علاه الصدأ
وآلآف من الرؤوس المقطوعة
تنوح على ضفتيه
وأنا
أخضرتُ مركبي
هو يا نهرُ من ورق
أدنُ يا نهرُ إنني
لستُ أخشى من الغرق
فانتظرني لأتبعك .