فن الجمال الصامت: تأملات في خطوط حسن المسعودي!
د.أسيل العامري
في زمنٍ تباعدت فيه الحروف عن أصولها الجمالية، وتحوّلت الكلمات إلى رموز رقمية سريعة الزوال، يقف الفنان حسن المسعودي حارسًا وفيًّأ لذاكرة الحرف العربي، رابطًا بين دقّة الخط وجمالية الشعر، ليصوغ عبر عمله الفني لغة بصرية نابضة بالإحساس والروح. في نصه "تجربتي في الشعر والخط"، يكشف المسعودي عن مسار فني طويل، قوامه التأمل والصبر والحوار الداخلي، حيث لا يكون الخط مجرد وسيلة للكتابة، بل أداة لاكتشاف الذات وتوسيع أفق التعبير.
تنطلق تجربة المسعودي من قناعة عميقة بأن الخط العربي ليس فنًا تزيينيًا فقط، بل جسدٌ للقصيدة وروحها. لقد فهم الحرف كائنًا حيًا، له طاقته وامتداده ووزنه الإيقاعي، ومن هنا تنشأ العلاقة الحميمة بين الكلمة المكتوبة والشعور المجرّد. فالمسعودي لا يخطّ القصيدة، بل يجعل القصيدة تتحول إلى شكل بصري، متجاوزًا البُعد اللغوي إلى فضاء تشكيلي صرف، حيث يذوب الحرف في الإيقاع ويتحوّل إلى رمزٍ حرّ.
من الناحية التقنية، يتعامل المسعودي مع الحرف العربي كما يتعامل الشاعر مع الوزن الموسيقي. اختياراته للخطوط، وتوزيع الكلمات، وتكرار المفردات أو تفكيكها على المساحات البيضاء، ليست قرارات زخرفية، بل قرارات شعرية محضة. تظهر تأثراته العميقة بالمدارس الكلاسيكية، خاصةً خط الثلث والديواني والنَّسخ، لكنه لا يكتفي بالاستلهام، بل يدفع الحرف إلى مديات تجريبية وجمالية جديدة، حيث يلتقي التقليد بالحداثة في لحظة بصرية مدهشة.
أما على مستوى البنية التشكيلية، فإن أعماله تنتمي إلى ما يمكن تسميته بـ**"القصيدة البصرية"**، وهو فن قائم على تحرير الحرف من سلطته النصية، ومنحه استقلالًا فنيًا كعنصر تشكيلي له وزنه ودوره في السرد البصري. هنا، لا تعود الكلمة مرتبطة فقط بدلالتها اللغوية، بل أيضًا بشكلها، بحركتها، وبالفراغ الذي يحيط بها. هذا ما يجعل تجربة المسعودي تقف عند تقاطع الخط العربي المعاصر، والشعر، والفن المفاهيمي.
ما يميز المسعودي أيضًا هو صوته الفردي داخل تيار عالمي من الخطاطين المعاصرين. فهو لا ينتمي إلى مدرسة واحدة، ولا يقف عند الحدود الجغرافية للشرق أو الغرب. يقيم حوارًا صامتًا بين بغداد وباريس، بين المخطوطة واللوحة، بين القصيدة التقليدية والنص المفتوح. أعماله تتجاوز الهوية الثقافية الضيقة، دون أن تنفيها، بل تقدمها بشكل حديث، إنساني، وشفّاف.
لكن الأهم من كل ذلك، هو أن أعمال حسن المسعودي لا تُفهم فقط بالقراءة، بل تُحَسّ بالشعور. هي أعمال تتطلب من المتلقي صمتًا وتأملًا، تمامًا كما تتطلب القصيدة انتباهًا لما لا يُقال. في عالمه الفني، يصبح الخط تجربة روحية وفلسفية، يتأمل من خلالها الفنان في الزمن، في الوجود، وفي عبور الإنسان عبر اللغة.
تجربة حسن المسعودي، بقدر ما تتميز بالنضج الفني، فهي دعوة مفتوحة للعودة إلى جوهر الحرف، إلى لحظة ولادته الأولى، حين كان الجمال والمعنى توأمين لا يفترقان. إنها تجربة لا تكرّس الحرف بوصفه أثرًا للقول، بل بوصفه فعلًا شعريًا قائمًا بذاته، يتنفس ويتكلم ويحسّ. إنها كتابة، لكنها كتابة بالحبر والروح، كتابة تتجاوز الورق لتسكن الذاكرة البصرية والجمالية.
في زمنٍ يطغى فيه الاستهلاك البصري وتقلّ فيه الأصالة، تقف تجربة حسن المسعودي كدعوة لإعادة التفكير في موقع الحرف داخل الفنون المعاصرة، وفي قدرة اللغة البصرية على أن تكون وسيلة للتأمل والدهشة والبحث عن المعنى. إن تجربته ليست فقط استعادة لفن الخط، بل ولادة جديدة له في شكل قصيدة مرئية، تكتمل فقط عندما ينصت المتلقي لصوت الحبر وهو يُدوّن المعنى.