استشراف مستقبل الأدب في الأدب المقاليّ (نماذج مختارة)
م. د. مريم عبد الكريم الناصري
جامعة القادسيّة/ كليّة التربية/ قسم اللغة العربيّة
مدخل لــــ "مهاد مستقبليّ" :
إنّ الرؤية المستقبليّة لم تكن تقتصر على مجالٍ واحد, وإنّما تعدّت وتجاوزت رؤيتها إلى مختلف مجالات الحياة وإنْ كانت الشرارة الأولى انطلقت من فهم ماهيّة الكون الإنسانيّ وصولاً إلى فكرة الإله في مقابل الإنسان الذي يسعى إلى تطوير ذاته من منظار ذاتيّ, ووجوديّ, ودينيّ, وعلميّ وغير ذلك؛ ثمّ تطوير الذات القائم على اللغة الذي يعتمد على مشاعره وأحاسيسه التي تجلّت صورها في إطار أدبيّ يعالج هموم الإنسان وواقعه حتّى طمح إلى استشراف مستقبله بوساطتها. واستشراف المستقبل كرؤيةٍ تدخل في إطار التمنّي والتنبّؤ والتوقّع الذي يكون بناءً على معطياتٍ حادثة؛ بينما ترى الدراسات((إنّ استشراف المستقبل لا يُعدٌّ تنبؤًا, والمستقبل ليس قدرًا غامضًا, مثل إعصارٍ أو منخفضٍ جويّ, ولكنّه قدر نصنعه أو نتشارك في صناعته, فالتفكير هو أساس صنع المستقبل, أو العمل على إنشائه على النحو الذي نطمح إليه ونتمنّاه, فأنت ما تُريد أنْ تكون, وإذا فَشِلت التوقّعات, فذلك يعني فشلنا في الرؤية والتخطيط, وليس فشل التفكير المستقبليّ كمبدأ أو منهج أو فكرة أو عمليّة أساسيّة يجب إدخالها في العمليّات الإداريّة, فضلًا عن التخطيط الاستراتيجيّ))(1)في ظلّ الغزو التقني.
وإلّا فــأنّ((عمليّة استقراء المستقبل أو ما يسمّى بالاستشراف هي إحدى أهم العلوم الاستراتيجيّة في الدول والمؤسّسات الكبيرة التي تضع خططها المستقبليّة بناءً على قراءة أحوال المجتمع بشكلٍ مستمر ومنظّم))(2). والرؤية المستقبليّة تتعدّد وتتنوّع أدبيًّا بحسبِ التوجّهاتِ الفكريّة, ووضع الخطط الاستراتيجيّة لها على وفقِ البنية الثقافيّة والمعطيات الواقعيّة سياسيًّا واجتماعيًّا, منها رؤية المستقبل واستشرافه من خلال الأدب بمجملهِ, ورؤية الأدب لماضيه وحاضره ومستقبله, وصولاً لتحقيق فكرة رؤية الأدب لمستقبله ذاتيًّا (بنية داخليّة لمكوّناته), ومن ثمّ صلته بواقعه عبر ثنائيّة تأثّره به, وتأثيره فيه لتشكيل الرؤى المستقبليّة له. وهذا ما حققّه الأدب المقالي لمّا بدأ عربيًّا مطلع القرن التاسع عشر نحو التطوّر والازدهار الثقافيّ, بوصفه مرآة المجتمع صحفيًّا, ممّا عزّز مكانته الأدبيّة بين مختلف الأنواع (( إبداعًا مردّه إلى طواعيّته ومرونته وسهولة إنجازه))(3), حتّى تصدّر ليكون جنسًا قائمًا بذاته يستدعي مختلف الموضوعات ويحاكيها, ويستوعب كثيرًا من الأنواع الأدبيّة الأخرى لـتتماهى معه نصّيًّا, ثمّ غدا نصًّا موازيًا لها في تأسيساته وطروحاته الفكريّة والنقديّة لِما يُنجز من الأدب؛ لذا فأنّ ما ستقوم به هذه الدراسة هو الوقوف على مجموعة مختارة من مقالات أدبيّة, قد كُتبت في المجلّات العربيّة في منتصف القرن العشرين مطلع الأربعينيّات حتّى التسعينات منه, تحاول استشراف مستقبل الأدب العربيّ وآفاق تطوّره. وقبل ذلك لابدّ لنا من وقفةٍ عند مفاهيم المستقبل واستشرافه وعلمه ودراساته, ليّتضح لنا بأيِّ رؤية استشرفت المقالة الأدب ومستقبله, وبيان رؤية كتّابها له, وما التوجّهات التي ارتكزت عليها ؟.
أوّلاً: استشراف المستقبل (مفهوم ورؤية) :
1-الاستشراف لغةً:
إنّ الاستشراف أصله من شَرُفَ يَشْرُفُ شَرفًا وشُرْفةً فهو شريفٌ, والجمع منه أشراف(4)؛ و((استشرف يستشرف, استشرافًا, فهو مُستشرِف, والمفعول مُستشرَف))(5). فالشَّرَفُ المجد, والحسب, والكرم, والعلوُّ منه الاستشراف, كأنْ ينظر إليه من موضعٍ مرتفع فيكون أكثر علوًّا لإدراكه(6), فالأشياء ما ((تطلّع إليها, وتعرّض لها, واتتْه فوقع فيها))(7), فـاستشرفتُ لها أو للشيءٍ إذا نظرتَ لها ببصركَ, نظرة بعيدة وعالية لتدركها, ومنه الاستشراف الداخليّ بقولهم: ((التشرُّفُ للشيء, التطلّعُ والنظرُ إليه, حديثُ النفسِ وتوقّعُه))(8). والظنّ والتوقّع –لغةً- مبنيان على التوهّم والخوف من الشيءِ, وهما خلاف الاستشراف الذي يكون مبنيًّا على الرؤية العالية الارتفاع مع بُعدها على أمدٍ ممتدّ ومتناوب دلالة على قرب الرؤية مجازًا, لإداركها حقيقة واقعة(9), فاستشراف المستقبل هو((التطلّع إليه أو الحدس به))(10)على وفق استراتيجيّة متبنّاة يُخطّط لها, ويقوم العمل على أساسها.
2-استشراف المستقبل اصطلاحًا:
إنّ المستقبل(Future) هو((الحقبة الزمنيّة التي لم يَحِنْ أوانها، أو الزمن الذي لم يأت أوانه بعد)). أو هو ((الفترة من الزمن، التي ستأتي بعد الحاضر، وتمتد إلى ما لا نهاية))(11)، فـــ((هو الحصيلة التراكميّة لما يتتابع من الأحداث وعمليّات التغيّر النابعة من المجتمع أو الوافدة عليه))(12). بينما المستقبليّة Futurism هي طاقة التجديد والبحث عن المستقبل, مذهبها الجماليّ يمنحها سمة الخروج عن المألوف, وخوض مغامرة البحث تبعًا للابتكار, والنظام, والتقيّد بالعمل الأخلاقيّ والسياسيّ, وذلك في ظلّ دفاعها عن الحداثة والتحديث وتسارع خطاها عمليًّا وإنْ كان غير مقبول في بعضِ من تصوّراته التطبيقيّة التي تعلن القطيعة التامّة عن الثقافة التقليديّة القديمة(13). والدراسات المستقبليّة تضمّ علم المستقبل والاستشراف Prospective, والأخير مصطلح ابتكره رائد المدرسة الفرنسيّة "غاستون برجيه Gaston Berger" في بداية الخمسينات, وقبله الألمانيّ "أوسيب فلختهايم Ossip Flechtheim" رائد الاسم الشائع له في صورته الانجليزيّة(Futurology)الذي يعني التبشير بالمستقبل على مدى أـطول بما له علاقة بمستقبل "الإبداع التكنلوجي" بوصفه صورة لتحديده(14), فـمعناه العام ((علم الريادة وأحيانًا يطلق عليه اسم علم التوقّعات))(15). يُـعنى بـ((الفحص أو التدقيق في الظاهرة بانتظامٍ))(16). وعُرّف الاستشراف بوصفه استطلاعًا مبكّرًا ((للمستقبل في ضوء معطيات الحاضر والتحدّيات المستقبليّة التي تفرضها طبيعة النموّ والتحوّل والتطوّر والطّموح))(17), فـهو((جهد استطلاعيّ الأساس, يتّسع لرؤى مستقبليّة متباينة ويسعى لاكتشاف العلاقات المستقبليّة "المحتملة" بين الأشياء والنظم الكليّة والفرعيّة في عالمٍ ينمو ويتغيّر وبسرعةٍ شديدة))(18). وعرّفه "ألان غراس"Alain Gras بأنّه ((تأمّل للحاضر ووضع بدائل من خلاله للمستقبل من شأنها أن تعطينا صورة عن مجتمع الغد))(19).
وهو من منظور الدراسات المستقبليّة ((التنبّؤ المشروط من منظورٍ احتماليّ وعلميّ ونسبيّ))(20). حتّى غدا استشراف المستقبل على وفقِ فرضيّة مُتبنّاة, هو((اجتهاد علميّ منظّم, يرمي إلى صوغِ مجموعة من التنبّؤات المشروطة,... تشمل المعالم الرئيسة لأوضاع مجتمع ما, أو هو مجموعة المجتمعات, وعبر فترة مقبلة تمتدّ قليلاً لأبعدِ من عشرين عامًا))(21) أو أكثر. إذ يندرج الاستشراف تحت منظومة فكريّة وثقافيّة لها أبعادها المعرفيّة اتجاهه، تسمّى بــــالوعي المستقبليّFuture Consciousness لــيعرّفه ثوماس المباردو بأنّه((المجموعة الكليّة المتكاملة من القابليّات والعمليّات والخبرات السيكولوجيّة التي يستخدمها الفرد في تفهّم المستقبل والتعامل معه))(22). ولم يكن الوعي المستقبليّ متضمّنًا الاستشراف فحسب، وإنّما شمَل((وضع الأهداف، والتخطيط والتفكير النقديّ، وصنع القرار، وحلّ المشكلات، والأخلاقيّات، وفضائل الشخصيّة، وأكثرها رحابة الإمكانيّة متعدّدة الأوجه للحكمة. ويتضمّن الوعي المستقبليّ أيضًا أبعادًا عاطفيّة وتحفيزيّة ذات عالقة بالموقف والشخصيّة. فترتبط صحّتنا السيكولوجيّة -شعورنا بالأمل والتفاؤل والمغامرة وكفاية الذات- بصورة وثيقة بالوعي المستقبليّ الشموليّ الذي يؤثّر في جميع أوجه سيكولوجيّة الإنسان))(23).
ويبقى استشراف المستقبل علمًا قائمًا بذاته, خاصًّا بعمليّة التنبّؤ للأوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة المتوقّع حدوثها في المستقبل, مستندًا في دراسته على الاستقراء والاستنباط, وجمع الوقائع الفرديّة, واستخلاص المبادئ العامّة التي تحكمها, لتعطي نتائجها المستقبليّة المحتملة الوقوع؛ لأنّ التنبّؤ من خصائصهِ, أنّه يحسم نتائج الظاهرة لمّا تتّخذ مسارًا معينًا, في حين تقوم الدراسة المستقبليّة على تعدّد الاحتمالات المختلفة لمساراتها, ولا تعنى بهدفٍ محدّد(24). وواحدة من هذه الاستشرافات هي استشراف مستقبل الأدب, فهو مرّة يكون مستشرِفًا له من منظورٍ تأثيره المجتمعيّ والسياسيّ والتاريخيّ.., ليكون استشرافًا أدبيًّا للمستقبل وكشف توقّعاته المحتملة الوقوع, ومرّة مستشرِفًا له إبداعًا وتنظيرًا ونقدًا أدبيًّا؛ أي, استشراف الأدب لمستقبله وديمومة بقاء نوعه.
ثانياً : مقالات الدراسة (نماذج مختارة):
المقالات التي تصدّت للحديث عن مستقبل الأدب العربيّ وآفاقه المشرقة مطلع القرن العشرين كثيرة, ولكنّنا بعد جولة إحصائيّة واستقرائيّة قد قمنا بها في مجلّات عربيّة مختلفة في تلك الفترة, قد حملت عنواناتها لفظ "المستقبل" المقرون بـــ "الأدب" لاسيّما "العربيّ" منه, ولأجلِ أنْ تكون الرؤية البحثيّة دالّة وممنهجة في عرضها الوصفيّ قراءة ومناقشة, فقد ارتأينا تحديد فترة زمنيّة من القرن المنتقى آنف الذكر, هي فترة الأربعينيّات حتّى التسعينيّات منه, لـــتمثّل النماذج المختارة ميدانًا تطبيقيًّا لاستشراف مستقبل الأدب العربيّ وبيان الرؤى المشتركة والمختلفة من لدن كتّابها له, والمقالات- مرتبة على وفقِ زمنِ متسلسلٍ- هي:
- مستقبل الأدب العربيّ, أحمد أمين, مجلّة الثقافة, ع275, 4أبريل, 1944م.
- في الأدب والفن, توفيق الحكيم, مجلّة الرسالة, ع562, 10 أبريل, 1944م .
- حول مستقبل الأدب العربيّ, أحمد أمين, مجلّة الثقافة, ع277, 18أبريل, 1944م.
- الفن والإصلاح, توفيق الحكيم, مجلّة الرسالة, ع564, 24 أبريل, 1944م .
- مستقبل الأدب العربيّ, أحمد أمين, مجلّة الثقافة, ع278, 25 أبريل, 1944م.
- حول مستقبل الأدب العربيّ, أحمد أمين, مجلّة الثقافة, ع279, 2مايو, 1944م.
- مستقبل الأدب العربيّ, أحمد أمين, مجلّة الثقافة, ع280, 9 مايو, 1944م.
- حول مستقبل الأدب العربيّ, عبد الوهاب عزّام, مجلّة الثقافة, ع282, 23 مايو, 1944م.
- حول مستقبل الأدب العربي, عبد الوهب عزّام, مجلّة الثقافة, ع284, 6يونيو, 1944م.
- مستقبل الأدب, علي الطنطاوي, مجلّة الرسالة, ع741, 15 سبتمبر, 1947م.
- مستقبل الأدب في الشرق العربيّ, محمّد عبد المنعم خفاجي, مجلّة البعثة, ع9-10, 1نوفمبر, 1953م.
- مستقبل الأدب العربيّ, سليمان موسى, مجلّة الأديب, ع2, 1 فبراير, 1956م.
- مستقبل الأدب العربيّ, سامي الكيالي, مجمّع اللغة العربيّة بدمشق, ع3, 1يوليو, 1964م.
- في معرض الرأي: فنون الأدب والمستقبل, مجلّة الأقلام, ع5, 1مايو, 1965م.
- الأدب والمستقبل العربيّ خطوط... وملامح, محي الدين صبحي, مجلّة الآداب, ع10, 1أكتوبر, 1977م.
- الأدب العربيّ المعاصر وآفاق المستقبل, د. محمّد مصايف, مجلّة الآداب, ع10, ا أكتوبر, 1977م.
- الأدب العربيّ والمستقبل, نور الدين بلقاسم, مجلّة الآداب, ع10, 1 أكتوبر, 1977م.
- أدب الخيال العلميّ وآراء حول إنسان المستقبل, ترجمة وإعداد: غانم محمود, مجلّة آفاق عربيّة, ع12, 1 ديسمبر, 1979م.
- الأدب والمستقبل, موريس عزيز, مجلّة الهلال, ع12, 1 ديسمبر, 1979م.
- يتساءلون عن مستقبل الأدب, طرّاد الكبيسي, مجلّة الأقلام, ع2, 1 فبراير, 1982م.
- أدب المستقبل بين الخيال والاستقراء العلميّ, محمود قاسم, مجلّة الهلال, ع1, 1 يناير, 1985م.
- مستقبل الأدب في بلاد العرب, مجلّة الثقافة, ع12, 1 ديسمبر, 1989م.
ثالثاً: المقالة ومستقبل الأدب (استشراف رؤيتهما):
إنّ استشراف المستقبل يحتاج إلى بنية ثقافيّة تهيّء له النّمو والتشكيل الفكريّ لرؤاه, ثمّ بنية ماديّة تحقّقه, فمن مقوّمات نجاحه هي المرونة, والقابليّة للمراجعة, ووضع الأهداف, والتخطيط لها؛ وهذه المقوّمات تقوم على التفكير الاستراتيجي المتمثّلة بــ" التخطيط, القرار وأثر المستقبلي, الخبرة الفاعلة", فالأوّل يمثّل التفكير المنظّم الذي يوصلنا لغايات بعيدة المدى في الاستشراف, فبالقرار تكمن معرفة التوقّعات المستقبليّة مع ضمانِ هدف تحقيقها, وذلك بالاعتماد على خبرة كثرة التجارب التي تعلّم المُستشرِف الابتكار والالتزام والمراقبة, فضلاً عن صناعة القرارات الناجحة وتنسيقها. وذلك من أجلِ معرفة مواطن القوّة والضعف في أيِّ مؤسّسة إداريّة(25), وكيف سيكون ذلك لو كانت المؤسّسة أدبيّة, تخضع في أنظمتها مرّة لضابطٍ عاطفيّ, ومرّة لضابطٍ عقليّ, وقد يختلطان معًا على الرغم من هيمنةِ أحدهما على الآخر في سياقاتٍ مختلفة الرؤى؟! .
والمقالات الأدبيّة –نماذج الدراسة- هنّ على وفقِ نظام الاستشراف المستقبليّ دراسات مستقبليّة, التي تتمثّل بــ((مجموعة من البحوث والدراسات التي تهدف إلى الكشفِ عن المشكلات ذات الطبيعة المستقبليّة, والعمل على إيجاد حلول علميّة لها, كما تهدف إلى تحديد اتجاهات الأحداث وتحليل المتغيّرات المتعدّدة للموقف المستقبليّ, والتي يمكن أن يكون لها تأثير على مسار الأحداث في المستقبل))(26). وقد تحدّث الكتّاب في كثيرٍ من مقالاتهم عن طبيعة الأدب العربيّ ومستقبله من رؤية مكانيّة وزمانيّة وموضوعيّة, أضف لذلك أنّ رؤيتهم كانت تدور حول العربيّ الباحث عن العالميّة المحلّيّة (داخل المنطقة) من أيِّ بلدٍ عربيّ كان لاسيّما المصريّ منه ولقاءاته مع الآخر عراقيًّا كان أم سوريًّا أم لبنانيًًا أم..., وصولاً إلى العالميّة (خارج المنطقة) في أفقها الآخر العابر لحدودِ الشرق.
وتتلخّص رؤاهم البحثيّة حول مستقبل الأدب العربيّ وآفاقه كموضوعات مهيمنة في مقالاتهم بما يلي:
1-مستقبل اللغة مستقبل الأدب (لغة الأدب):
إنّ الأدب شفويًّا كان أم كتابيًّا فهو لغة, فلا أدب من دون لغة تمثّل هُويّته, وهذه اللغة لابدّ منها أنْ تكون فصيحة, صحيحة, تستسيغها وتفهمها عامّة الأذواق من دون عناء وتكلّف, إذا ما أريد للأدب أنْ ينهض ويشيع بين مختلف الأجناس والأقليّات القارئة؛ وعلى الرغم من أهميّة الأدب ورسالته الخطرة تأثيرًا وتغييرًا في المجتمعات؛ فأنّ واحدة من مكوّنات مستقبل الأدب هو اللغة, وهذا الأمر قد عزّزته المقالات بآراء كتّابها, منهم محمّد عبد المنعم خفاجي, الذي رأى في القرآن الكريم مدادًا, وحفاظًا للغتنا العربيّة بقوله: ((وأنّ القرآن الكريم الذي حافظ على اللغة العربيّة خلال العصور الماضية هو الذي يحافظ وسيظلّ يحافظ على الأدب وبقائه ليؤدّي رسالته في خدمة الحياة... وإنّ زيادة انتشار المعرفة والثقافة والوعي الصحيح في مجتمعاتنا العربيّة لكفيل بأنْ يضمن للأدب في بلادنا العربيّة مستقبلًا كريمًا زاهرًا مشرقًا بإذن الله))(27). وفي مقالة (مستقبل الأدب) فعلى الرغم من أنّ عنوانها يشي بالحديث عن مستقبل الأدب, إلّا أنّ كاتبها(علي الطنطاوي) قد خصّص مقالته لما آلته إليه اللغة العربيّة عند المتعلّمين وتحديدًا فئة طلبة الثانويّة, الذين رأوا في اللغة العربيّة وبقيّة الألسن صعوبة تفوق تعلّمهم للعلوم الأخرى, وهذا ما يرفضه منطق الواقع, بقوله: ((وإذا كانت هذه العلوم وهذه الألسن صعبة كلّها فما هو السهل الذي يذهب الطالب إلى المدرسة ليتعلّمه؟ ولماذا نفتح المدارس ونرهق الأمّة بنفقاتها, ونحمل خرّيجيها على أعناق الناس حملاً, بما حصلوا من العلم, وما نالوا من الشهادة؟. لا, ليس في العربيّة صعوبة, ولا في كتابتها وعلومها تعسير, هذه ضلالة يجب أنْ ينتهي حديثها, وأنْ لا نعود إلى إضاعة الوقت, وإفساد النشء, في الكلام فيها,...ويجب أنْ نحبّبها إلى الطلّاب, ونرغبهم في مطالعة كتبها, حتّى يألفوها, ويسهل عليهم فهمها))(28). فتركيز حديثه على هذه الفئة الشابّة الفتيّة وصلتها باللغة العربيّة, لوعيه واستشرافه بمستقبل بعيد المدى, لأنّ مستقبل الأدب مُلقى على عاتقِ هذا الجيل الناشئ, سواء كان قارئاً لها أم كاتباً بها, فإذا ربّى ذائقته على اللحن بها, فأنّه سيعتاده ويراه صحيحًا في مؤلّفات تحمله فتشيع ظاهرة اللحن كأنّها حسنة.
وقبلهما قد تحدّث الكاتب(أحمد أمين)في مقالته(مستقبل الأدب العربيّ)في معرض حديثه عن أدب العامّة والخاصّة, من أنّ ما ينشر في الصحافة هو للخاصّة من دون العامّة, على الرغم من محاولات السعي للقضاء على الأميّة, وليس هذا فحسب بل هناك سبب آخر هو((أن لكلّ أمّة عربيّة لغتين: لغة للكتابة والقراءة والتأليف في العلوم والآداب، ولغة للكلام في الشارع والمنزل والتعامل، وأن الفرق بين اللغتين كبير، وهذا عائق قويّ عن تقدّم الشعوب العربيّة وثقافتها...))(29). ويضرب مثالاً لذلك الفلّاح الذي يواجه صعوبة بين ما يتكلّمه ويسمعه ويقرأه , وبلا شكّ شتّان ما بين لغة الكتابة(الفصحى) واللهجة المحكيّة(العاميّة) وإنّ كانا في كثير من الأحايين يلتقيان, ومع ذلك فأنّ هذه الفوارق قد أنتجت نتائج سيّئة منها, صعوبة انتشار التعليم على نطاقٍ واسع.
ويضيف معلّلاً, أنّ ((أهمّ فرق بين اللغة العاميّة واللغة الفصحى، وأهمّ صعوبة في انتشار اللغة الفصحى-في نظري-الإعراب. لقد فشلنا في تعليمه حتّى للخاصّة والمثقّفين، فهذا متخرِّج في الجامعة قد صرف تسعَ سنوات على الأقل في المدارس الابتدائيّة والثانويّة يتعلّم النحو، ثمّ عددًا من السنين في الجامعة، ومع ذلك قلَّ جدًّا من يستطيع أن يكتب صفحة خالية من الخطأ النحويّ- ومثلهم المثقّفون ثقافةً عامّة ومن قرأوا لأنفسهم كثيرًا وكتبوا كثيرًا، فكيف نطمع أن نصل إلى نتيجة باهرة إذا أردنا نشر تعليم اللغة العربيّة في أوساط العامّة، وكيف نلزمهم أن ينصبوا الجمع المؤنث السالم بالكسر، ويجرُّوا الممنوع من الصرف بالفتح ونحو ذلك؟ إذا كلّفناهم ذلك فقد كلّفناهم شططًا، وكانت النتيجة لا محالة الفشل في تعميم التعليم. إنّ ذلك قد صعبَ على الخاصّة فكيف بالعامّة!! ))(30).
وهذه الجزئيّة من التعليم عن عدم الإفادة الصحيحة من تعلّم النحو وإتقان قواعده, هي ظاهرة قد يقع فيها المثقّف من الخواصّ, فكيف بالمتعلِّم من العوامّ, قد وافقه فيها(علي الطنطاوي)-كما بيّنا- التي تؤدّي نتائج سلبيّة منها صعوبة فهم الأدب العربيّ لعامّة الناس؛ فـ(أحمد أمين) يستشرِف مستقبل الأدب العربيّ عبر لغته الفصحى الميسّرة, التي تبتعد عن العسر في فهمها, ليسهل تلقّيها وتعلّمها وتعليمها, فيصوغ رأيًا بمثابة حلّ, يؤسّس لخطط مستقبليّة, تحلّ كثيرًا من مشكلات الأدب العربيّ, أوّلها لغته, بقوله: ((إنّي أرى رأيًا أعرضه على أولي الرأي للتفكير فيه وتقليبه على وجوهه المختلفة، وهو اصطناع لغةٍ عربيّة خالية من الإعراب، وخالية من الألفاظ الضخمة، ومستعملة للكلمات العاميّة التي هي أيضًا عربيّة ومجرّدة من خرفشة اللغة العاميّة. فنقول: "لا أحبّ" بدل "ما أحبِّش"، و "سأعمَل" بدل "حاعمِل" وأسكّن آخر الكلمات كلّها من غير إعراب، فأقول: «محمّد شارك عليًّا في التجارة»، ونحو ذلك. وهذه اللغة التي هي وسط بين العاميّة والفصحى هي التي يجب أن نعتمد عليها في نشر التعليم بين العامّة، ويكتب بها بعض الأدباء رواياتهم، ويؤلّف بها بعض المؤلّفين الكتب الشعبيّة، ويتحدَّث بها المتحدّثون في الراديو، والخطباء في خطبهم الشعبيّة، وهكذا. بذلك نستطيع أن نقارب بين العاميّة والفصحى، وبذلك نستطيع أن نسهِّل تعليم العربيّة، وبذلك نستطيع أن نوصل الأدب العربيّ إلى سواد الناس، ولتبقى اللغةُ العربيّة الفصحى لغةَ الخاصّة يكتبون بها للمتخصّصين، ويقرأون بها التراث القديم، وينتفعون به، وينقلون منه ما شاءوا إلى اللغة الجديدة لنفع الجمهور، وستكون هذه اللغة الجديدة صالحةً لأن يصاغ بها الفنّ الأدبيّ على أشكاله وأنواعه))(31). ولو أردنا أنْ نطبّق كلامه على واقع لغتنا اليوم, لاسيّما مع الغزو التقنيّ, الذي قرّب لنا رؤية لغة التخاطب نطقًا وكتابةً, لرأى العجب العجاب من اللغة التي تفشّت بين الجيل الناشئ بل حتّى الشباب الناضج منهم!, والأدهى من ذلك أنّه يأبى-أي الجيل الناشئ- تعلّم الأصحّ بدعوى التعقيد والتكلّف, والتمنطق والتفلسف والتثقّف إذا تكلّم بلغة فصيحة ميّسرة على الأقل, لا عالية البلاغة. فــ(أحمد أمين) يدعو إلى لغة معرّبة يفهمها الجميع, لا لغة الوقف التي تعتمد على تسكين الآخر هربًا من الوقوعِ في الخطأ أو تجاهله. ومع ذلك فهو ليس ضدّ اللغة العاميّة الشعبيّة التي أنتجت-ومازالت- أدبًا جميلاً هادفًا خاصًّا بها, وهي نقطة قد وقف عندها الكاتب(عبد الوهاب عزّام) في مقالتيه(حول مستقبل الأدب العربيّ) مناقشًا ومعارضًا الأمر فيما يخصّ لغة الصحافة مثلاً, فالمقالات التي تنشر هي تكتب بلغة فصيحة يقرأها ويفهمها الجميع من العامّة والخاصّة من المتعلّمين, والأهمّ من ذلك فهم يسمعون القرآن الكريم والحديث وخطب الجميع, وكلّها بلغة فصيحة لكنّ الفارق هو الإدراك لما يقال(32). وآخر رأى أنّ((كتابة الحوار بالعاميّة لا يباعد بين اللهجات في الوطن العربي, بل العكس هو الصحيح, فكتابة الحوار بالعاميّة في بعض الأعمال الأدبيّة يهدم الحواجز القائمة بين اللهجات المختلفة, ويغذّي ثروتنا اللغويّة المعاصرة, ويبرز أوجه الشبه العديدة الموجودة بين مختلف لهجات الوطن العربيّ))(33). إذًا فالأمر محلّ خلاف واختلاف تبعًا لما تحقّقه اللغة المحكيّة (الخطاب), واللغة المكتوبة (النصّ).
فما نستطيع استشرافه من مقالتي(أحمد أمين)هو دعوته إلى لغة يفهم بها الأدب العربيّ ليصل عالميّة الآخر لا حصره في فئة الأقليّة المحليّة, خاتمًا مقالته بقوله: ((إذا تمّ ذلك رجوتُ أن تصبح اللغة الجديدة أداةً طيِّعة لنشر التعليم، ووصول الأدب إلى أكبر عدد ممكن، وهذا ما أتوقّع أنه سيكون في المستقبل القريب أو البعيد، وكلّما قرَب كان أدعى إلى سرعة النهوض، وانتشار الأدب ورقيَّ العقل والعاطفة في الشعوب))(34).
وبقي حديث اللغة مقرونًا أو ملازمًا لمستقبل الأدب العربيّ, لأنّ اللغة العربيّة هُويّة العربيّ وقوميّته؛ مثلما رأى الكاتب محي الدين صبحي: إنّ((الأدب الذي يحمل هُويّة قوميّة هو وحده أدب المستقبل, أي الأدب المرشّح لأمرين: أنْ يعيش بعد صاحبه, وأنْ يفعل فعلاً يغيّر الواقع))(35). وصولاً لفكرة صياغة الإنسان القوميّ الذي يتطلّع إلى عربيّ المستقبل مشرقًا بأمتّه الموحّدة بما تصنعه بنضالها وكفاحها وجهادها بأيِّ وسيلةٍ كانت, لا المفكّكة والمتناحرة فيما بينها..!. وهذا ما عزّزه في موضع آخر, يقول: ((أدب المستقبل هو مستقبل الأدب العربيّ, بل هو مستقبل الإنسان العربيّ, بل هو مستقبل الحياة العربيّة, إن كانت سوف تستمر أو تتوقّف مرّة وإلى الأبد))(36). فهو يذهب بمستقبل الأدب أبعد من ذلك, إلى الخروج من قوقعة اللا عبور, والغوص في قاع الأقليّة الأيديولوجيّة التي تضيّق الحدود المكانيّة إلى الفكريّة والثقافيّة منها؛ وإلّا فـــ((أدب المستقبل العربيّ هو مستقبل الأدب العربيّ لأنّ التحرير المنشود لا يقوم إلّا بصناعته المنشودة, فالأمّة التي لا تصنع سلاحها لا تصنع معركتها. ونحن نتوهّم كثيرًا إذا ظنّنا أنّ حالة الأمّة في نهاية هذا القرن أفضل من حالتها في بدايته. والسبب في ذلك أنّ هذه الأمّة لم تخطُ نحو الوحدة خطوة إلّا تباعدت عنها خطوات))(37). فــمقاليّو الأمس كانوا يحدسون أفق المستقبل وتهاوي لغة الأدب فيه, فعندما نوازن بين حديث أمسهم بأحداث يومنا نأسى على حالِ لغة الأدب؛ لأنّها لم تحقّق مّما صبوا إليه في أمسهم, ولم تُنفذ اقتراحاتهم, ولم تؤخذ بعينِ الجدِّ, فسادت العجمة, وأصبحت لغة اليوم, لغة المصطلح المهجّن, فلا هي فصيحة, ولا هي أعجميّة معربة.
2-مستقبل الأدب بــ(موضوعاته/توجّهاته):
إنّ مستقبل الأدب العربيّ بلا شكّ ينهض بموضوعاته وتوجّهاتها التي تنبع من المجتمع وتوجّه له, وهذا ما حاول طرحه ومناقشته(أحمد أمين) في سلسلة مقالاته (مستقبل الأدب العربيّ) التي نشرت عام1944م. إذ يقول في واحدة منها: ((للأدب منزعان ومنبعان: أدب ينبع من النزعة الفرديّة، والأدب العربيّ فيها غنيّ قويّ، وأدب ينبع من النزعة الاجتماعيّة، والأدب العربيّ فيها فقير ضعيف؛ ومستقبل الأمم العربيّة وحاضرها في أشدّ الاحتياج إلى الأدب الاجتماعيّ ينهض بها، ولكن ماذا أعني بالأدب الاجتماعيّ؟ أعني به-في الأدب العربيّ- نظر الأدباء إلى مجتمعهم الحاضر يشتقّون منه رواياتهم وأقاصيصهم، وشعرهم، ومقالاتهم؛ ويصوغون منه فنونهم الأدبيّة))(38). وحدّد الأدب الاجتماعيّ بـما كانت غايته إصلاح الأمم: ((أن يكون أسلوبه سهلًا واضحًا جميلًا جهد الطاقة؛ لأنّه لا يؤدّي رسالته حتّى يصل إلى آذان أكبر عدد ممكن في الهيئة الاجتماعيّة، فإذا تأنّقنا في أسلوبه وملأناه بالمحسّنات الفنّيّة، وعلونا في التعبير، انقلب الغرض من إصلاح الشعوب والأمم إلى إصلاح عدد قليل من الطبقات الممتازة فقط))(39). ففي محاولة استشرافه لمستقبل الأدب العربيّ, وذلك بحكم طبيعة البيئة المجتمعيّة على وفقِ منظوماتها الفكريّة والأخلاقيّة فأنّ الأمم العربيّة تحتاج إلى هكذا نوع من الأدب, يسجّل أو يؤرّخ لوعيها الاجتماعيّ الذي يقوده عاطفة وإصلاحًا, وذلك من دون إلغائه لبقيّة فنون الأدب الرسميّ أو الشعبيّ منها؛ لأنّه يرى((إن الأديب من هذا الطراز رسول أمّته وهاديها إلى الخير، وراسم أغراضها في الحياة، يدرك الحقائق قبل أن يدركها الناس، ويشعر بها قبل أن يشعر بها الناس، ثمّ يحرّك عقولهم لإدراكها، وعواطفهم للتحمّس للعمل بها، يشعر من أعماق نفسه أنّ له رسالة أن يرفع مستوى الناس ويدفعهم إلى حياةٍ أسعد وعيشٍ أصلح، يجمع بين السموِّ الخلقيّ، والسموِّ الفنيّ، ثم يُسخِّر فنّه لخدمة ما يصبو إليه لقومه. إذا تحقّق هذا في مستقبل الأدب العربيّ اعتدل مِزاجه وكملَ نقصه، وجاوب ما في الطبيعة البشريّة من حبّ الذات وحبّ النوع معًا))(40). وهذه الدلالات قد أكّد عليها في مواضع أخرى من مقالاته, مفرِّقًا بين أدب وضيع وآخر سامٍ, على وفقِ ما يعرضه الأدب فنيًّا وتأثيرًا في نفوس قرّائه ولأيّ توجّه قد يأخذهم حتّى يكون ساميًا أو وضيعًا(41).
إذ يقول متوقّعًا لهكذا نوع من الأدب, في سياق مقال تالٍ: ((ومن أجل هذا أتوقّع متى نما هذا النوع الرفيع من الأدب أن تتبدّل هذه النغمة الصارخة في أدبنا، وهي نغمةُ تملّق الجماهير، وتملّق الشباب، وتملّق الشهوات الجنسيّة، فنسمع أصواتًا تنقد النقد الحرّ الجريء، ولو أدّى بصاحبه إلى البغض والكراهية والاضطهاد. إنّ الناس ألفوا أن يروا صورة ضيقٍ نظرهم، وسعة شهواتهم، وقداسة تقاليدهم، معكوسة على النتاج الأدبيّ، فإذا لم يجدوها عند الكاتب كرهته العامّة ولم يقدّره إلا الخاصّة، كم في حياة الأمم العربيّة من عيوب لا تُصلحها حلاوة السكّر، ولا مرارة الصَّبر، ولا يصلحها الملق، ولكن تصلحها الصرخة القاسية؛ وهذا لا يكون حتّى يكون الأديب مؤمنًا بعقيدته، مؤمنًا بغرضه، يفضِّل الفقر مع المبدأ على الغنى مع الملق، وهو ما أرجو أن يكون))(42).
إنّ عقليّة (أحمد أمين) في تفكيرها تذهب مذهب التعقّل والأخلاق والإصلاح المجتمعيّ نحو المُثل العليا؛ ممّا جعل مقالته تثير جدلاً من قبل(توفيق الحكيم) ليردّ عليه في مقالته(الفنّ والإصلاح) حول جزئيّة استحياء التراث في نوعه الأرقى الذي يُحييه مستقبلاً, متّخذًا من أساطير اليونان والأدب الأمريكيّ مثالاً لذلك الرقيّ, فما يراه الحكيم ويتصوّره هو المغالاة في الرأي؛ لأنّ ((الإنسان الأعلى هو الذي يصون "الجمال الفنّيّ" عن الاستغلال الأرضيّ في أيّ صورة من صوره؛ ويحتفظ به لمتعته الذهنيّة وثقافته الروحيّة))(43) التي تدغدغ مشاعره, وحسّه الفنّيّ, وتثير عاطفته الجيّاشة التي تنبع من فرديّته الذاتيّة الباحثة عن التعبير إلى المجتمع, فلا وعي لفرديّ "ذاتيّ" من دون مؤثّر من قبل الوعي الجماعيّ لتأسيسه, بل على العكس من ذلك هو أنّ الوعي الجمعيّ لاسيّما "الاجتماعيّ" منه يتشكّل على وفقِ رؤية أفراد تتنبّأ بهذا الوعي أو تتصوّره لتكوّنه.
وبعد ما يقارب عقدين من الزمن, فأنّ الفكرة ذاتها قد أكّد عليها الكتاب, فزمن العواطف والذاتيّات, والمشاعر الملتهبة قد انتهى؛ وأنّ الأدب العربيّ يجب أنْ يأخذ في شكله ومضمونه الأدبيّ منحى النضال والجهاد والنهضة والحريّات(44), فـ" نور الدين بلقاسم" يقول: ((الأدب العربيّ المستقبليّ الذي يجب أنْ يأخذ به رجال الفكر هو ذلك الأدب المناضل الذي يعمد إلى تعرية الواقع الذي نحياه, فيكشف معميّاته وتعرّجاته, ثمّ يوضّح الإطار المرحليّ والتاريخيّ المقبل الذي سيتحرّك على أرضيّة العرب جميعًا, ويرسم أثناء ذلك الخطوات الموصلة والضامنة للنجاح,...فـدور الأدب المعاصر هو تجديد الرؤية الفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة الخاصّة بالفرد والمجتمع التي تتّخذ من قضايا العرب الأساسيّة موضوعًا لها))(45). وهذه الموضوعات النضاليّة قد تبنّاها الشعر بوصفه جسر الوعي بين الأديب والأمّة, بشرط أن تكون لغته سهلة بسيطة وأفكاره واضحة النضال والتحدّي, وكذلك جنس القصّة قد ضمّت موضوعاتها هذا الشأن(46). فمن رسائل الأديب هي التوعية, لأنّ ((الأديب العربيّ المستقبليّ هو الذي يقف صامدًا أبان هذا الصراع, مساندًا للقوى التقدميّة في غير حرجٍ وفي غير خوفٍ, وهو الذي يحسن الاختيار- رغم الظروف الصعبة في مواقفه, ويحسن التمييز بين الزبد وبين ما ينفع الناس, وهو الذي يجعل أدبه قائدًا لنضالات التقدّم التي ستتفجّر أكثر على الساحة العربيّة بازدياد كثافة القوى التقدميّة, فدور الأدب العربيّ في المستقبل هو دور نضاليّ, يتمثّل في محاربة التجميد الذي تمارسه القوى الخارجيّة والداخليّة على الوطن العربيّ والحياة العامّة, وذلك حتّى لا نبقى تحت تراكمات القيود المختلفة))(47). وهذا إنْ دلّ على شيءٍ دلّ على أنّ البنية السياسيّة الحاضنة للبنية الثقافيّة والمؤثّرة فيها, هي التي تسهم في تفعيل أثر النهوض بالواقع المستقبليّ من بوّابة مستقبل الأدب وآفاقه(48).
3-مستقبل الفنون/الأجناس الأدبيّة:
إنّ الحديث عن مستقبل الأنواع الأدبيّة قد تصدّت له مقالة (في معرض الرأي: فنون الأدب والمستقبل) لمّا طرحت مجلّة (الأقلام) عام1965م سؤالاً, بقولها: ((الأدب فنون وصنوف, وكلّ لون أدبيّ يهدف-لا شكّ- تحقيق رسالة حياتيّة. ترى لأيّ لونٍ من الألوان الأدبيّة " الشعر, القصّة, المقالة, المسرحيّة... الخ" تتوقّعون ازدهارًا وإيناعًا في المستقبل؟ وماهي مسبّبات ذلك؟))(49). فأجاب عليه بعض من رجال الفكر, من زوايا مختلفة تبعًا لوجهات نظرهم؛ فالأستاذ (محمّد خلف الله أحمد(50)) قد تدرّج في وصفه لهم لحنًا وطربًا عاطفيًّا بدءًا من "فنّ الشعر" الذي تطوّر فأصبح "قصّة" على وفقِ التجارب الإنسانيّة التي تعيشها الشخوص, ولمّا عرضت على الجهور مأساة كانت أم ملهاة, تأثّر بها وجدانهم فظهر لنا "فنّ المسرحيّة", ثمّ احتاجوا منها إلى ((ما يتناول شؤون الحياة وأحداثها: من سياسيّة واجتماعيّة وأخلاقيّة ونقديّة تناولًا مجملاً, فيحلّلها ويعالج ظواهرها, داعيًا في ثنايا ذلك إلى فكرة أو إصلاح أو مبرزًا قيمة من قيم الحياة؛ وذلك فنّ المقالة))(51)وغيرها ممّا حقّق أهدافًا حياتيّة سياسيّة كانت أو اجتماعيّة كفنّيّ الخطابة والرسائل بنوعيها القصير والطويل. وبفعل عوامل النهضة التي ساعدت على ازدهارها في ظلِّ التطوّر الصناعيّ والديمقراطيّ والأدبيّ, إذ ((أصبح من مستلزمات الحياة أنْ يبدأ المواطن القارئ يومه بالاطّلاع على الصحف والمجلّات ومتابعة ما تنشره من مقالات في شؤون السياسة والاجتماع والاقتصاد والنقد الفنيّ. وعملت الدولة على إشباع هذه الحاجة عند المواطنين بتوجيه الصحافة إلى العناية بالنواحي الجوهريّة في حياة الشعب, وبالإكثار من المجلّات المتخصّصة في مختلف فروع الفنّ والثقافة والإرشاد القوميّ))(52). وبعد عرضه لواقع فنون الأدب في حاضره, يعرض رؤيته المستقبليّة قائلاً: ((من هذا العرض الموجز للموقف الحاضر من فنون الأدب, وما يلابسه من عوامل, وقياسًا على ما حدث- ويحدث- في المجتمعات الأخرى الراقية, نستطيع أنْ نتنبّأ بأنّ المرحلة الباقية من هذا القرن ستشهد مزيدًا من الازدهار في فنون القصّة والمقالة والمسرحيّة. وإذا كان من الصعب محاولة ترتيبها من حيث المدى والسبق في هذا الازدهار, إذ تبدو وكأنّها تجري بسرعةٍ متساوية في مضماره, فمن الراجح أنّ القصّة سيكون لها قصب السبق, تليها المقالة, فالمسرحيّة))(53).
وعندما وصل لفنِّ الشعر, فأنّه رجّح مكانته رابعًا ؛ لأنّ الذائقة العربيّة مازالت تميل إلى الموروث القديم, وترى في النماذج الحديثة غرابة وغموضًا لرمزيّة صورها وأساليبها, ولن تستقرّ محاولة التجديد الشعريّ, مادامت أوضاع الذوق العامّ في ثقافته وموسيقاه وتطوّرها الفنّيّ غير مستقرّة(54). وفي سياق تنبّأه عنه مستقبلاً, يقول: ((وإذا كان لي أنْ أتنبّأ بخطّ سير الشعر العربيّ في الثلث الباقي من هذا القرن فأنّي أرجّح أنّ القصيدة العربيّة, في أوضاعها الكلاسيكيّة, وبوشائجها المتأصّلة في تراث الذوق العربيّ-ستبقى, ولكن في آفاق القيم الكبرى, وفي مجلّات الصراع الإنسانيّ, والاهتزازات القوميّة والعالميّة ذات الأثر العميق في كفاح البشريّة نحو حياة أفضل, وربّما اقتضاها هذا التطوّر أحيانًا أنْ تطيل من نفسها, وتنوّع في قوافي مقاطعها بما يجعل منها بناء فنيًّا متكاملاً, خصبًا في إمتاعه))(55). وفي استشرافه هذا قد صدق إلى حدٍّ كبير في توقّعاته المحتملة للواقع الشعريّ لمَا عليه قصيدة النثر اليوم, التي تأتي في مقدّمة الأشكال الفنّية كقصيدة التفعيلة والشعر الحرّ, الشعر المُمسرح "المسرحيّة الشعريّة", إلى جانب الأنواع القصيرة جدًّا كقصيدتي الومضة والهايكو..., ولا نبالغ إذا قلنا بين عشرات قصائد تلك الأنواع قد تظهر لنا قصيدة كلاسيكيّة (عموديّة) اليوم.
وأمّا الأستاذ(عبد اللطيف شرارة) أيضًا يأخذنا بمقدّمة موجزة لبدايات نشأة الأدب العربيّ شفويًّا وبيان مديات تطوّره في عصوره الأولى, فإلى جانب شهرة الشعر والأمثال الشعبيّة, والأساطير القصصيّة, يظهر لنا لون أدبيّ جديد يعرف بـــ"أدب الرسائل", فأخذ التأليف الأدبيّ منحى مغايرًا تحت هذا المسمّى, ففي أيِّ مجالٍ تقريبًا بات المسمّى رسالة, مثل (رسالة العشق, رسالة في المنطق, رسالة الغفران...) وغيرها ممّا يؤلّف في شكل رسالة شاملة المواضيع فلسفيًّا ودينيًّا وأدبيًّا ...وكذا. ويضيف أنّ نشأة وانتشار أدب الرسائل عربيًّا شبيهًا بشهرة المسرحيّة في أوربا؛ ((لأنّها شفويّة في جانب, وقادرة على استقطاب اهتمام الناس في جانب, حتّى إذا ظهرت السينما تضاءل الأدب المسرحيّ شيئًا فشيئًا, وأخلى السبيل أمام "السيناريو"))(56). ويبقى الأدب حاجة من حاجات الجمهور, فمتى ما أدّى رسالته اتجاهه, شاع وتطوّر. ويضيف رأيًا غريبًا حول صلة الدراسة بـ"الرسالة" بوساطة ما يسمّى بــ"المحاولة" التي تعني "مقالة" في ترجمتها لــ Essay, يقول خاتمًا رأيه: ((والظاهر أنّ المستقبل- هو تتمّة للحاضر- يحمل في مطاويه ازدهارًا للدراسة, أي لهذا اللون الأدبيّ الذي يحاول أنْ ينير أكبر عدد ممكن من العقول في موضوعات حيويّة تهمّ أكبر عدد من الناس,... في التاريخ, أو السياسة, أو الاقتصاد أو شؤون الحياة النفسيّة والمنزليّة والاجتماعيّة, وهو ما يسمّونه في انكلترا Essay, وقد درجنا على ترجمتها بكلمة "مقالة" وهي تعني في الواقع " محاولة" أي محاولة اكتشاف الحقيقة في موضوع من الموضوعات, وهذه المحاولة هي التي عرفت في تراثنا القديم بـــ " الرسالة " ))(57).
وآخر ما رأى فيه مستقبلاً مزدهرًا للجمهور حسب ميوله واتجاهاته, هو أدب القصّة؛ ((لأنّ هذه تشتمل في تطوّراتها الأخيرة, على الشعر بمحتواه الشعوريّ, والمسرحيّة فيما تّتسع للحوار, , والمقالة بما تقدّم من وصفٍ, كما يمكن أنْ تشمل على رسائل وخطب ووصايا وحكم وأمثال, وتؤدّي بذلك غاية ما يأمل الأديب أنْ يؤدّيه من رسالةٍ في أدبه,..., هذا ما يلوح لي من ظواهر الحياتين: الأدبيّة والعامّة, وهي الباب المفتوح على المستقبل))(58). واستشرافه هذا بمستقبل القصّة, جعل منه يذهب إلى أنْ يرى في الشعر ما رآه في المسرحيّة لمّا توارت خلف السينما, لأنّ الشعر لا يملك العدد الذي تمتلكه من حيث التذوّق والإقبال عليها, حتّى تحوّل الشعر إلى متعة فنّيّة خالصة لا تطلبها سوى الفئة الموهوبة, والطبقة المخمليّة التي تهواه.
أما الأستاذ صفاء خلوصي: فيرى غرابة في السؤال, مقارنًا إيّاه بسؤال لمن ستكون الغلبة من الأحياء في المستقلّ, أ للإنسان أم للكائنات الحيّة الأخرى؟, مجيبًا بقوله: ((كذلك هو أمر الأنماط الأدبيّة: هل ستنقرض القصيدة والمسرحيّة, والملحمة, والمقالة, وتبقى القصّة ومشتقّاتها من أقصوصة وحكاية ونادرة؟, إذا حصل هذا الشيء فما أضيق الجوّ الأدبيّ الذي سيعيش فيه إنسان المستقبل!, ولكن هذا لا يمكن أنْ يحصل, ولن يحصل لا في عالم الأحياء, ولا في عالم الأنماط الأدبيّة إلّا لفترة قصيرة, لأنّه خلاف طبيعة الأشياء في هذا الكون, فطبيعة الأشياء تحتّم وجود المفارقات وقيام النقيض ونقيضه))(59). لأنّ تخطيط مستقبل الأدب لابدّ أنّ يكون شبيهًا بمستقبل عمران المدن وهندستها التي تزدان جماليّتها بوجود أقليّات من أجناس مختلفة(60).
ويرى إنّ العصر هو عصر القصّة, فالشعر يتوارى خلفها-مثلما رأى عبد اللطيف شرارة-, فقد رأى في القصّة تأثيرًا أفيونيًّا شعبيًّا نافعًا, لأنّ ((البشريّة أحوج إلى القصّة منها إلى الشعر اللهم إلا الشعر الغنائيّ, وحتّى لو كان الخيار بين القصّة والشعر الغنائي فأنّ الأفضليّة للقصّة, لأنّ القصّة تدخل في تربية الصغار وتسلية الكبار, ولا كذلك الشعر في المدى البعيد. وسيكون أدب المستقبل حسب التسلسل الآتي:
1- حكايات الأطفال.
2- الأقاصيص المدرسيّة.
3- القصص السينمائيّة والتلفزيونيّة.
عودة